حرص نظام الثالث من يوليو على أن
يدشن سياساته ومواقفه على قاعدة من نظرة معينة لهذا الشعب، هذه النظرة تمتزج فيها
عناصر الاستخفاف والاستعباد، وما بينهما من صلة، ذلك
أن الأمر يشير الى تلك المعادلة الفرعونية "فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ
فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ" (الزخرف: 54).
بهذا الاعتبار فإن الوقوف عند هذه المحطات الأساسية
في تجاوزات الأجهزة الأمنية والعسكر ليس باعتبارها أحداثا شاردة أو مواقف استثنائية
فريدة؛ ولكنها في حقيقة الأمر تؤشر كدالة على عقلية هذا النظام التي صارت هذه الأفكار
مركزية في منظومته وبنيته، ذلك أن هذا النظام قد قام على تلك القواعد وهذه
السياسات ومن بينها تلك التي تتعلق بالتخويف والترويع، أي السياسة الأمنية التي
صارت في الحقيقة مضادة لذلك الأمن ومناقضة له ولأهدافه، وكذلك سياسة الإفقار
والتجويع، ذلك أن هذا النظام يقيم سياساته على قدر كبير من إشغال المواطن بمعاشه
وضروراته.
ويستغل النظام ضرورات الناس واحتياجاتهم في عملية الإشغال
الكبرى هادفا ألا يكون المواطن في حالة الاستغناء، لأن من استغنى استطاع من بعد
ذلك أن يكون له موقف وأن يطالب بالحقوق المؤكدة له، ولكن في حقيقة الأمر، يعمل
النظام بكل ما أوتي من قوة لأن ينصرف جهد المواطن إلى تدبير معاشه وتوفير
احتياجاته، فيؤدي ذلك إلى وصول المواطن إلى حالة تفي بغرض النظام ومقصده؛ أي صناعة
ذلك المواطن العبد الذي يشكل حالة القطيع، ويرتبط معه بمسألة التطبيع، إذ يقوم بضمان
حال من التوافق والتكيف مع هذه الأوضاع ضمن علاقة السيد بالعبد.
تجاوزات الأجهزة الأمنية والعسكر ليس باعتبارها أحداثا شاردة أو مواقف استثنائية فريدة؛ ولكنها في حقيقة الأمر تؤشر كدالة على عقلية هذا النظام التي صارت هذه الأفكار مركزية في منظومته وبنيته، ذلك أن هذا النظام قد قام على تلك القواعد وهذه السياسات ومن بينها تلك التي تتعلق بالتخويف والترويع، أي السياسة الأمنية التي صارت في الحقيقة مضادة لذلك الأمن ومناقضة له ولأهدافه
وهنا لا بد وأن نتوقف عند نظرة
هذه المنظومة للشعب، ذلك أن الأمر يتعلق بالعسكرة وسيطرة وهيمنة مؤسسة العسكر التي
نؤكد أنها لا تكون إلا من قادة لهم مصالح آنية وأنانية يريدون تحقيقها بكل حال
وبكل شكل ومن كل طريق، وأنها -أي هذه النظرة- من الأمور شديده الخطورة في هذا
المقام بما فيها من استخفاف استعباد كما أكدنا.
ولعل هذه النظرة المختلطة والتي
تتلبس ببعضها هي من النظريات التي تفسر كثيرا من عالم الأحداث، فيؤدي ذلك الى أن
يكون هذا الشعب طرفا في علاقة مَرضية وغير سوية مع المنظومة الحاكمة، تشكل وسطا
وبيئة للانسحاق، وهو ما يتم في أشكال متعددة أهمها ما شهدناه في الآونة الأخيرة من
تصاعد أحداث عنف ممن ينتمون للأجهزة الأمنية والعسكرية ضد الشعب والمواطنين العزّل؛
في محاولة لإثبات أنهم هم السادة وليس لأحد أن يعقب على أفعالهم.
ولعل هذا الأمر قد اتضحت معالمه أثناء
ثوره 25 يناير، فإن ما قاله أحد أعضاء المجلس العسكري في ذلك الحين "إنني من أقوم
بتثوير هذا الشعب وأنا الذي أسكته"؛ هو بهذا إنما يحاول بشكل من الأشكال أن يؤكد
على أنه المتحكم في الشعب حتى في ثورته.
وهنا فإنني قد قمت بكتابه سلسلة
مقالات تجاوزت 60 مقالا بعنوان "مسرحية لعبة الشعب"؛ هذه المسرحية
الخطيرة التي لها أطراف متعددة من نخبة مهترئة ومن أجهزة أمنية متنفذة وقاهرة بشكل
فاضح، بيّنت فيها قابليات هذا الوضع، وطبيعة هذه العلاقة التي يحاولون فيها إثبات قوتهم
وعنفوانهم وهيمنتهم وسيادتهم في موقف السيد، ومحاولاتهم الدائمة ترسيخ هذه العلاقة
المشوهة التي قد تنشأ عن تلك التصورات والإدراكات وما يترتب عليها من مصالح وعلاقات.
هذه النظرة المستخفة بالشعب لم
تكن أبدا بأي حال من الأحوال نظرة عابرة بل هي في إدراكات هؤلاء مستقرة ودائمة،
وهي التي تشكل كما قلنا السياسات والمواقف والتوجهات والاستراتيجيات. وفي هذا
المقام يمكن لنا أن نستعرض نموذجا آخر من نماذج يناير الكاشفة، ففي أحداث يناير
هناك تسجيل صوتي شهير لأحد الضباط يوم جمعة الغضب الموافق 28 كانون الثاني/ يناير،
وهو يصرخ لقائده قائلا "الشعب ركب يا فندم"، هذه جملة مفتاحية وتعبير
عفوي عن نظرتهم للشعب ورفضهم لاحتجاجاته ومطالباته الأساسية التي ترتبط بحياته
ومعاشه وبكرامته وحريته، فهؤلاء لم يعتادوا من هذا الشعب أن يحتج، ويعتبرون ذلك مخالفا
لما تدربوا عليه. فالشعب من وجهة نظرهم "ركوبة" يسيّرونها أنّى شاءوا،
وكيف شاءوا ومتى شاءوا، ولذلك تأتي سياساتهم ومواقفهم في إطار ترسيخ علاقة السيد
والعبد بكل ما يترتب عليها من تمكين لعمليات الاستبداد وسياسات الطغيان.
نؤكد في حقيقة الأمر على وجهين مهمين قد حدثا في الآونة الأخيرة ليس فقط تلك الحادثة التي كنا قد كتبنا عنها مقالا فيما يتعلق بالضابط الذي دهس أسرة كاملة قاتلا الزوجة ومصيبا الزوج والأبناء والضيوف، ولكن أيضا تلك الحادثة التي وقعت في الأيام الأخيرة في منطقة جغرافية أخرى، وهو ما يؤكد أن جغرافيا الاستبداد امتدت إلى كل زمان ومكان، وكل فرد وإنسان، وهي بذلك تحاول النيل من الجميع، في إطار عمليات التطويع والاستخفاف والاستعباد، والطغيان
في هذا الإطار فإن ما نشهده من أحداث
لا يمكن اعتبارها في إطار الاستثناءات أو الفلتات، ولكنها في حقيقة الأمر تعبر عن هذا الإدراك وما يترتب عليه من سياسات وسلوكيات. وهنا
وجب علينا أن نتحدث عن أمرين مهمين يشكلان هذه البيئة التي تتعلق بالانسحاق
والقابليات التي تشكل عقلية الاستعباد والقطيع؛ ضمن حالة معينة تضمن تغييب الشعب تماما
وحرمانه من الرد أو التعقيب، ونؤكد في حقيقة الأمر على وجهين مهمين قد حدثا في الآونة
الأخيرة ليس فقط تلك الحادثة التي كنا قد كتبنا عنها مقالا فيما يتعلق بالضابط
الذي دهس أسرة كاملة قاتلا الزوجة ومصيبا الزوج والأبناء والضيوف، ولكن أيضا تلك
الحادثة التي وقعت في الأيام الأخيرة في منطقة جغرافية أخرى، وهو ما يؤكد أن
جغرافيا الاستبداد امتدت إلى كل زمان ومكان، وكل فرد وإنسان، وهي بذلك تحاول النيل
من الجميع، في إطار عمليات التطويع والاستخفاف والاستعباد، والطغيان.
وفي هذا المقام فإن تفاصيل الحادثة محل
الاهتمام تتمثل في قيام ضابط شرطة بقتل مواطن
مصري في منطقة مرسى مطروح بعدة طلقات،
وما جرى عقب هذا الحادث من اشتباكات واحتجاجات بين
الشرطة والمواطنين، فما كان من
الأجهزة الرسمية إلا التأكيد على أن الضابط هو من تعرض للضرب وأنه اضطر للدفاع عن
نفسه. وهنا نؤكد أن هذا الأمر يعبر في حقيقته عن طبعة قديمة من التزوير والتغرير
تقوم بها هذه الأجهزة في محاولة لتبرئة هؤلاء ممن يقومون بجرائم مماثلة، وقلنا هذا
أكثر من مرة وبأشكال مختلفة ومع أطراف مختلفة، بل إن الدواعي التي أدت الى ثورة
يناير كانت من بعض هذه الأحداث من مثل مثال خالد سعيد وسيد بلال وقبلهما الاعتداء
على عماد الكبير. والمشترك بين هذه الحوادث جميعا القديم منها والحديث هو انتهاك
كرامة الإنسان في هذا المقام، وهو ما بات يشكل عرف لهذه الأجهزة في التعامل مع أفراد
الشعب مستخفين بهم وبأرواحهم. هذه المسائل إنما تشكل في حقيقة الأمر بيئة للانسحاق
كما أكدنا؛ والقابليات المتعلقة به في هذا السياق.
وما كان يمكن
للأجهزة الأمنية أن تستمر في هذه السياسات إلا في ظل هيمنة القابليات التي تمكن لها
وتحميها على حساب الدولة والمجتمع، وفي هذا الأمر تكرس المؤسسة القضائية دورا بالغ
الخطورة، فبعد أن كان مرفق
القضاء هو الملاذ الأخير للمواطن في بر مصر، تطورت
الأمور للأسف الشديد وبات وضع المؤسسة القضائية مهترئا وهانت وتهاوت، هذه المؤسسة
لم تعد تقوم بفعل الإنصاف والعدل ولكنها صارت تمكن لسياسات الجور والإجحاف، وقامت
هذه الأجهزة للأسف الشديد بأدوار خطيرة، وقد تمكنت منها منظومة الثالث من يوليو
بما أجرته من تعديلات دستورية أراد بها المنقلب ونظامه أن يمسك بزمام هذه الوظائف
المختلفة خاصة تلك الوظائف المفصلية في هذه المؤسسة، بل وإمعانا في الهيمنة
والسيطرة والاستخفاف خالفت هذه المنظومة الدستور في تعيينها لرئيس محكمة النقض
الجديد، أعلى قاض في منظومه القضاء المصري. فعلى الرغم من أن الدستور يؤكد على
اختيار رئيس محكمة النقض من أقدم سبعة نواب، إلا أن الاختيار في التعيين الأخير
وقع على النائب الثامن، وفيما يبدو أن الرجل يتمتع بصفات ومواصفات معينة يراها
النظام مناسبة لاكتمال منظومة الفساد والاستبداد والطغيان والاستعباد.
هذه المسائل الخطيرة تكشف عن شكل وطبيعة الجمهورية الجديدة التي اختطفت، ثم قلبت الوظائف للضد، ثم قامت بعد ذلك بسحق وبإذلال الجميع، بمن فيهم من يعاونونه، وكذلك سحق ذلك الشعب والمواطن البسيط الذي لا يطالب بأكثر من لقمة بكرامة وحرية من غير ذل أو مهانة
هذه المسائل إنما
تؤكد في النهاية على عناصر شديدة الخطورة في اكتمال الحلقة التي تتعلق بانسحاق
الشعب بين مطرقة الأجهزة الأمنية وتغولها؛ وبين سندان الأجهزة والمرافق المختلفة التي
تتعلق بخدمة هذه السلطة وسياساتها الطغيانية وعلى رأسها يقع ذلك القضاء الذي لم
يعد يقوم بأصل وظيفته الآن؛ مختطفاً يقوم بوظيفة الضد.
وقد يقول البعض إن مؤسسة القضاء أكثر اتساعا
من هذا الذي نشير إليه؛ ولكننا نؤكد على هؤلاء الذين يشكلون حفنة مؤثرة في ما يتعلق بالقضايا
المتعلقة بالشأن السياسي وعلاقة الدولة بالمجتمع، وهذا يعتمد على تلك الحقنة
القليلة يطوعها كيفما يشاء في إطار "الحكم بعد المكالمة".
هذه المسائل
الخطيرة تكشف عن شكل وطبيعة الجمهورية الجديدة التي اختطفت، ثم قلبت الوظائف للضد، ثم قامت بعد ذلك بسحق وبإذلال الجميع، بمن فيهم من
يعاونونه، وكذلك سحق ذلك الشعب والمواطن البسيط الذي لا يطالب بأكثر من لقمة بكرامة وحرية من غير ذل أو مهانة؛
هذا شأن الجمهورية الجديدة المزعومة التي تبشر بها منظومة العسكر.
twitter.com/Saif_abdelfatah