"كائن لا تحتمل خفته" هو عنوان
الرواية، التي اشتهر بها الكاتب التشيكي ـ الفرنسي ميلان كونديرا، الراحل منذ أيام
(عن 94 عاما) في فرنسا، التي يقيم فيها منذ فراره إليها من الحكم الشيوعي
الديكتاتوري في بلاده، التي كانت تعرف حينها باسم "تشيكوسلوفاكيا"، قبل انقسامها
إلى بلدين: جمهورية التشيك وسلوفاكيا.
كونديرا فر إلى فرنسا رفقة زوجته فيرا كوندروفا، التي كانت مذيعة
تلفزيونية شهيرة حينها، عام 1975 بعد التضييق، الذي تعرض له، بسبب دعمه
لـ"ربيع براغ" الديمقراطي عام 1968، الذي أجهضه الاتحاد السوفييتي، عقب
اجتياح جيش "حلف وارسو"، المشكل أساسا من الجيش السوفييتي
لتشيكوسلوفاكيا، لمنع توجه الإصلاحيين داخل الحزب الشيوعي التشيكوسلوفاكي، حينها
لإطلاق إصلاحات ديمقراطية، تحت شعار "الاشتراكية ذات الوجه الإنساني"،
والتي تستهدف استبدال نظام الحكم الستاليني بـ"اشتراكية ديمقراطية" خلال
10 سنوات، مع السماح بحرية الصحافة والتنقل، ولا مركزية الاقتصاد، وحتى إمكانية
معاودة السماح للأحزاب بالعمل السياسي.
التدخل السوفييتي أنهى "المزحة" الديمقراطية القصيرة،
باستعارة عنوان الرواية الأولى لكونديرا، الذي كان من نتائج دعمه لــ"ربيع
براغ"، فصله عام 1970 من الحزب الشيوعي التشيكوسلوفاكي، الذي كان التحق به
شابا عام 1948، وطُرد منه عام 1950، بدعوى "ملاحظة ميول فردية عليه"،
قبل إعادته إلى صفوفه عام 1956.
متاعب كونديرا زادت أكبر بعد فصله من الحزب، وقبلها فقدان وظيفته
كأستاذ محاضر في كلية السينما في أكاديمية براغ للفنون التمثيلية، ومنع كتبه من
التداول، فاضطر للهجرة لفرنسا ـ التي كان تعلم لغتها في بلاده ـ مع زوجته عام
1975، حيث عمل أستاذا مساعداً في جامعة رين. وفي 1979 نشر روايته الرابعة
"الضحك والنسيان"، التي أثارت غضب الحكم الشيوعي في براغ، الذي أسقط
الجنسية التشيكوسلوفاكية عنه، فتقدم بطلب للحصول على الجنسية الفرنسية عام 1981.
تحت ثقل هذه الأجواء كتب كونديرا روايته "كائن لا تحتمل
خفته"، التي سرعان ما حققت له شهرة عالمية بما فيها من تأملات فلسفية
وإسقاطات سياسية. لكن علاقته ببلده أخذت أبعاداً إشكالية كبيرة، حيث لم يعد
لزيارته من إقامته الفرنسية إلا عام 2019، بعد استعادة جنسيته التشيكية.
فصول العلاقة الإشكالية مع بلده، تعقدت أكثر عندما قرر عام 1995
التحول للكتابة للفرنسية، وقراره بمنع ترجمة الكتب التي كتبها بالفرنسية إلى لغته
الأم، وإن كان هذا القرار أُرجع لحرص كونديرا على أن تكون الترجمة أمينة وأن يشرف
عليها هو شخصيا.
بدا لافتا (لي على الأقل!) أن عددا من المثقفين، والكُبات (الكتاب!) الكابتين (الصامتين) على الديكتاتورية والظلم في العالم المسمى عربيا، بل ومنهم المتواطئين والمبررين حتى لأنظمة المنطقة الديكتاتورية، سارعوا بعد إعلان رحيل كونديرا، للحديث عن قيمته الأدبية، وانتقاده للحكم الديكتاتوري في بلاده، ودعمه لـ "الربيع الديمقراطي" فيها والضريبة، التي دفعها مقابل ذلك.. بينما المفارقة أن كثيرا من هؤلاء كان لهم مواقف مخزية من تطلعات شعوبهم في المنطقة العربية لـ"ربيع ديمقراطي"
وهناك من فسر عدم حصول كونديرا على جائزة نوبل للآداب، رغم قيمة
أعماله الأدبية وشهرته العالمية، بسبب قراره التحول للكتابة باللغة الفرنسية. وقد
جلب له قرار التخلي عن اللغة التشيكية انتقادات داخل بلاده، واتهامات بالادعاء،
وبأنه اختار "منفى ذهبيا"، وأنه أدار ظهره لنضال شعبه، عكس كتاب ومثقفين
تشيك بقوا في بلدهم، واستمر نضالهم من أجل "ربيع براغ" الديمقراطي،
والذي تحقق بعدها على يد كاتب مسرحي شهير، هو فاكلاف هافل، (الذي كان من منتقدي
كونديرا)، وعارض لعقود الحكم الشيوعي الديكتاتوري، وسجن بسبب ذلك لسنوات، قبل أن
يتزعم الثورة المخملية، التي أنهت الحكم الشيوعي في تشكوسلوفاكيا عام 1989، التي
شغل منصب رئيسها حتى عام 1992، ثم رأس جمهورية التشيك عام 1993، بعد انفصال
البلدين، ولمدة 13 عاما.
لكن الفصل الأكثر سوداوية، في علاقة كونديرا ببلده، كان عام 2008،
عندما اتهمته مجلة تشيكية بأنه كان مخبرا لدى المخابرات الشيوعية، وأنه وشى لها
عام 1950 بزميل له طالب في الجامعة بدعوى ميوله للغرب، وقد حكم على الطالب بـ22
سنة سجنا مع الأشغال الشاقة. وقد أثارت القضية ضجة عالمية، وظل كونديرا ينفي بشدة
التهمة الموجهة له، حتى وفاته.
وقد بدا لافتا (لي على الأقل!) أن عددا من
المثقفين، والكُبات
(الكتاب!) الكابتين (الصامتين) على الديكتاتورية والظلم في العالم المسمى عربيا،
بل ومنهم المتواطئين والمبررين حتى لأنظمة المنطقة الديكتاتورية، سارعوا بعد إعلان
رحيل كونديرا، للحديث عن قيمته الأدبية، وانتقاده للحكم الديكتاتوري في بلاده،
ودعمه لـ "الربيع الديمقراطي" فيها والضريبة، التي دفعها مقابل ذلك..
بينما المفارقة أن كثيرا من هؤلاء كان لهم مواقف مخزية من تطلعات شعوبهم في المنطقة
العربية لـ"ربيع ديمقراطي"، بل إن بعضهم لم يتوان، بل تطوع للعب دور
"المخبر" و"الواشي" علنا، وليس سراً حتى، لأنظمة بلادهم
الاستبدادية.
كثير من هؤلاء "المسقفين"، ركزوا في إشادتهم بكونديرا،
سواء عن إطلاع ـ (على كل ما في ترجمات أعماله للعربية من مآخذ) ـ أو ادعاء، على روايته
الشهيرة "كائن لا تحتمل خفته"، وهي ربما للمفارقة تصلح عنوانا لمواقف
وسلوك هؤلاء "المسقفين" العرب، في "خفة" مواقفهم
و"نفاقهم" في ميزان الحقيقة والمثقف الحقيقي.
"كائن لا تُحتمل خفته.. ونفاقه"! عنوان يصلح لهؤلاء، ويصلح
كذلك لموقف ميلان كونديرا في ما يخص الشعب الفلسطيني، ودعمه للاحتلال الصهيوني
وأكاذيبه عن الأرض الموعودة لليهود بكل مفارقات أن كونديرا ملحد، كما أن
"غالبية الصهاينة لا يؤمنون بوجود الله، لكنهم يؤمنون أنه وعدهم أرض
فلسطين"، كما يؤكد المؤرخ الإسرائيلي إيان بابي!
واللافت أن موقف كونديرا الداعم لإسرائيل يبدو غائبا أو مغيبا، عن
جهل للكثيرين أوعن تجاهل للبعض في "حفلة" الاحتفاءات العربية بالكاتب
سواء عن إطلاع أو عن ادعاء!
*كاتب جزائري مقيم في لندن