يوم الثالث من أغسطس الجاري، شرفت بتقديم العرض الخاص للفيلم
الوثائقي العالمي "ذكريات مذبحة" والذي عرض داخل واحدة من أهم وأكبر
القاعات في بريطانيا وهي الأكاديمية البريطانية لفنون السينما والتلفزيون "بافتا".
قبل 10 سنوات كنت هناك، كنت في رابعة، هكذا بدأت كلمتي الافتتاحية
وأنا أتذكر تلك الساعات العصيبة، لم أنس قط الأحداث المأساوية التي حدثت في رابعة
ولم أكن أرى أثناء تقديمي لهذا الحفل أي شيء أمامي غير الدخان الكثيف ومدرعات
الجيش والشرطة التي ارتكبت مذبحة رابعة منذ عشر سنوات..
"عملية
فض الاعتصام تتم بقرار من النيابة العامة"
لم أستطع أن أنسى ذلك الصوت الرهيب لصفارات الإنذار لمدرعات الشرطة
التي شاركت في فض الاعتصام وما صاحبها من ترديد لهذه العبارة المقيتة، لقد مرت علي
ليال طويلة استيقظت فيها فزعا وأنا أسمع تلك العبارة ولا زال يتردد في أذني صوت
صفارات الإنذار بعد عشر سنوات..
كشاهد عيان على المذبحة التي وقعت في ذلك اليوم، يمكنني أن أشهد على
حجم الرعب والدمار الذي لحق بالمتظاهرين السلميين الذين تجمعوا في رابعة للمطالبة
بعودة الديمقراطية ورفض الانقلاب العسكري ولكن مطالبهم قوبلت بعنف الدولة ودولة
العنف فقتل الجيش والشرطة في ذلك اليوم ما يقارب ألف شخص في أقل من عشر ساعات وفق
بيان نشرته منظمة هيومان رايتس ووتش الحقوقي في أغسطس من عام ألفين وأربعة عشر.
ذكريات مذبحة، كان هذا اسم الفيلم الذي استغرق ساعة وبضع دقائق ليحكي
لنا فيها عن ذكريات الثورة وإسقاط مبارك مرورا بالانتخابات الرئاسية وفوز الرئيس
محمد مرسي وصولا للانقلاب العسكري ومذبحة رابعة العدوية.
تفاعل الحضور بمختلف أعمارهم مع الشهادات التي رواها الفيلم بمهنية
وموضوعية عالية، رأيت أطفالا صغارا يبكون أثناء عرض هذا الفيلم وسألني أحدهم ولم
يتجاوز عمره عشر سنوات متعجبا: هل عشتم هذه المذبحة بالفعل؟ ثم انفجر باكيا.
عندما تشاهد بين رودس نائب مستشار الأمن القومي للرئيس الأمريكي
السابق باراك أوباما وهو يروي كواليس البيت الأبيض بعد الانقلاب العسكري وارتكاب
الجيش لمذبحة رابعة العدوية، وعندما تستمع إلى شهادة كريج سومرز رئيس الأمن في
قناة سكاي نيوز البريطانية معلقا على مقتل زميله المصور مايكل دين، وعندما تستمع
إلى شهادة ديفيد كيرباتريك مدير مكتب صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية في القاهرة
آنذاك، كلها شهادات موثقة من مصادر لها مصداقية عالية، عندما تستمع إلى كل هذا لا
يمكنك إلا ان تضحك على الاتهامات والحملة الإعلامية الشعواء التي شنها الإعلام
المصري الناطق باسم السيسي وعلى رأسه أحمد موسى ضد فيلم ذكريات مذبحة.
الدرس المستفاد من الأيام الماضية يوضح بما لا يدع مجالا للشك أن رابعة هي مذبحة تطارد عبد الفتاح السيسي ورجاله، يرونها في كوابيسهم كما نراها نحن ضحاياها، تطاردهم استغاثات الجرحي الذين أمروا بقتلهم داخل المستشفى الميداني، تلاحقهم صرخات الأطفال الذين أمروا بقنص أبائهم، تقلقهم وتخيفهم كلما تحدث عنها أحد.
الحملة الإعلامية التي شنتها وسائل إعلام مصرية وعربية ضد صناع
الفيلم ومن قاموا على العرض الخاص هو دليل جديد على خوف السيسي ونظامه من إحياء
ذكرى المذبحة.
الخوف الشديد الذي بدا عليهم هذه المرة ينبع من أنها المرة الأولى
التي تتحول رابعة إلى قضية دولية تخاطب جمهورا آخر بلغة مختلفة، ضيوف الفيلم جلهم
من غير المصريين، صناع الفيلم كذلك، حتى غالبية المتحدثين في الندوة التي أعقبت
العرض الخاص ليسوا من مصر أيضا وهذا يزعج النظام في مصر كثيرا.
حاول السيسي ونظامه وإعلامه وسفارته في لندن أن يمنعوا عرض الفيلم
الوثائقي العالمي ذكريات مذبحة وبذلوا في ذلك كل السبل، شنوا حملة إعلامية في مصر،
نشروا مجموعة من المنشورات التحريضية على مواقع التواصل الاجتماعي، حشدوا للتظاهر
أمام مقر العرض الخاص للفيلم، تواصلوا مع كل الجهات لإلغاء الحفل، حاولوا إفساد
العرض الخاص بطرق مختلفة ولكن الفشل كان صديقا لهم في كل خطواتهم البائسة.
حملتهم الإعلامية كانت خير دعاية للفيلم، منشوراتهم التحريضية استفزت
الجميع للحضور من كل مكان في بريطانيا وخارجها، لم يستجب أحد لحشدهم أمام مقر عرض
الفيلم، وخرج الحدث بنجاح باهر بشهادة كل الحضور.
الدرس المستفاد من الأيام الماضية يوضح بما لا يدع مجالا للشك أن
رابعة هي مذبحة تطارد عبد الفتاح السيسي ورجاله، يرونها في كوابيسهم كما نراها نحن
ضحاياها، تطاردهم استغاثات الجرحي الذين أمروا بقتلهم داخل المستشفى الميداني،
تلاحقهم صرخات الأطفال الذين أمروا بقنص أبائهم، تقلقهم وتخيفهم كلما تحدث عنها
أحد.
الجميع يعلم أن رابعة ليست ذكريات تعرض في فيلم وثائقي فقط وإنما هي
عدالة غائبة تبحث عن القصاص من مرتكبيها وعلى رأسهم السيسي.