يناقش أبو حامد الغزالي الدواعي الغامضة
للفعل الأخلاقي، لمن لم يكن مؤمناً، مثلاً، بالجزاء الأخروي. وذلك في معرض بحثه
لقضية التحسين والتقبيح، التي لها محلّها المهمّ في نقاشات المتكلّمين، حول أفعال
الله سبحانه وتعالى، وبقطع النظر عن السياق الكلامي لهذه القضية، فإنّ ما يذكره
الغزالي من تبعية قوى النفس للأوهام والتخيّلات بالغ الأهمية، يصلح مفتاحاً لتفسير
القصور الأخلاقي في التفاهم البشري، بين الأفراد والجماعات.
يُطرح سؤال مثلاً، عن الداعي الذي ينبعث في
ملحد لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر، لإنقاذ إنسان مشرف على الهلاك. يفترض هذا
السؤال أنّ إنقاذ المشرف على الهلاك حسن في نفسه، أيّ أنّ الحُسن جزء من ماهيّة
الفعل، وإلا فإنّ هذا الملحد لا يؤمن بشرع يُحسّن له هذا الفعل، هذه الحجّة التي
تبدو ظاهرة القوّة بادي
الرأي، تساق في الرد عليها حجج كثيرة، منها أنّ الحسن لو
كان جزءاً من ماهيّة الفعل لما تخلّف عن الفعل في ظروف أخرى، يستحسن فيها المرء
ألا ينقذ إنساناً آخر مشرفاً على الهلاك، كأن يكون عدوّه، ولكي لا نتورّط في سجال
كلاميّ، ليس هذا محلّه، فقط نذكر أحد التفسيرات التي قدّمها الغزالي لدواعي هذا
الفعل ممن لا ينتظر جزاء أخرويّاً، وهو أنّ من ينقذ إنساناً مشرفاً على الهلاك،
يكون مندفعاً بقوّة تخيّل، بحيث يقدّر المنقذُ نفسه مكان المشرف على الهلاك،
فيستقبح إعراض غيره عن إنقاذه.
هذا التخيّل، ليس عملية منظّمة تأخذ
بالتشكّل في وعي صاحبها في التوّ واللحظة، ولكنّه تخيّل ضمنيّ، مصاحب للإنسان،
تُحكِمه العادة والنشأة في إطار الاشتراك في الجنسية الإنسانية.
لو رجعنا من الغزالي، إلى علاقاتنا اليومية،
وما يحفّها من سوء فهم، فإنّ الأمر لا يخلو من أنّ كل واحد منّا قال لغيره يوماً،
أو قيل له مرّة، "ضع نفسك مكاني"، أي أنّك بالقدر الذي تتخيّل فيه نفسك
مكاني، فإنّك سوف تعذرني، أو توافقني الرأي في صواب تصرّفي.. وهكذا. فالقدرة على
تقدير النفس مكان الآخرين، فعل أخلاقيّ تأسيسيّ، لا تجاه الآخرين فحسب، بل تجاه
الذات كذلك، لما في هذا الفعل، من تجديد دائم لقوّة المخيّلة هذه، وصيانة مستمرّة
للاشتراك في الجنسية الإنسانية.
هذه القوّة المتخيّلة تَضْمُر أكثر، في
سياقات التدافع الإنساني؛ الفكري والسياسي والاجتماعي، وفي تفسير ذلك يذكر الغزالي
غلطات تشوّش على هذه المخيّلة بأوهام تقود الإنسان نحو تقييمات أخلاقية خاطئة، من
أهمّها، أن يفترض الإنسان قُبح ما خالف غرضه وإن وافق غرض غيره، وحُسن ما وافق
غرضه وإن خالف غرض غيره.. تصير المخيّلة، الداعية للفعل الأخلاقي، معطّلة، لأنّ
الإنسان، والحالة هذه، قد ألغى غيره من الافتراض تماماً، وهو ما يعبّر عنه الغزالي
بقوله: "ولكنّ أغراضه كلّ العالم في حقّه"، يصير التمركز حول الذات هنا،
وجعل الذات مصدر القيم، غفلة عن الذات في الوقت نفسه، ففهم العالم، لا يكون إلا
بالعودة إلى الذات، ولكن ليس بإدارة العالم من حول الذات، وإنما بفرض الذات في
العالم، ومن ثمّ فالذي يغفل عن الآخرين في حكمه على الأشياء، قد يغفل عن نفسه،
فإنّه قد يغفل عن كونه يستحسن الآن ما قد يستقبحه في حال خالف غرضه في ظرف ما،
وهذا كثير مشاهد في تناقضات الناس في تصرفاتها، أو تأويلها لتصرفاتها، أو تنكّبها
لأحكامها، وقد يكون للتحذير الإلهي بقوله تعالى: ﴿وَلا تَكونوا كَالَّذينَ نَسُوا
اللَّهَ فَأَنساهُم أَنفُسَهُم﴾، صلة بهذا المراد، إذ اختلاف الأغراض الإنسانية
وتحوّلها، تتطلب حاكماً أعلى لضبط القيمة الأخلاقية، ومن ثمّ كان التوجيه الإلهي
بألا تمنع الخصومة من الشهادة بالحقّ للخصم، وبأن لا يحول الانغماس في الذات وفي
الوسط الاجتماعي القريب دون القيام بالقسط، لتكون الشهادة بالحقّ شهادة لله في
حقيقة الأمر.
في أكثر التصرّفات السياسية، ودون أدنى شعور بالتناقض، نجد من يسوّغ لحزبه ما يعيبه على غيره، وذلك باختصار؛ لأنّ القيمة في وعيه ترتبط بغرض حزبه، ممّا يشير إلى اعتقاد مستبطن بحلول الحقّ في حزبه، وهو ما يعني بالضرورة رفض حرّية الآخرين واستقلالهم بأن يتصرفوا وفق أغراضهم لا وفق أغراض غيرهم،
تنجم عن ذلك مكابدة طلب الحقّ، إذ تقتضي
تجرّداً من الذات بالعودة إلى الذات، أي الخروج من الذات بفرضها مكان الخصم. يضرب
الغزالي أمثلة على صعوبة هذه المكابدة، فمن أسماه بالعامّيّ المعتزليّ يسارع لقبول
المسألة المعقولة الجليّة، لكنه قد يسارع إلى رفضها إن علم أنّها مذهب خصمه
الأشعريّ، ومثله العامّيّ الأشعريّ الذي قد يرفض الأمر المعقول إن علم أنّه قول
خصمه المعتزليّ، وهكذا فالإنسان قد يُكذّب ما يؤمن به، وقد يؤمن بما يكذّب به،
بحسب موقعه من المسألة، وموقع خصمه منها. يقول الغرالي إنّ هذا طبع أكثر المترسّمين
بالعلم، لا طبع العوامّ فحسب، فالمشتغل بالعلم قد يطلب الدليل لا طلباً للحقّ ولكن
لإعادة تكييفه وتوظيفه ليوافق مذهبه، وهذا الأمر شديد الظهور، في أكثر ما نلاحظه
اليوم من نقاشات مذهبية، تأخذ منحى اجتماعيّاً واضحاً، لكنّها حتماً أوضح في الشأن
السياسي، وقل قبل ذلك في البنى الاجتماعية التي لا خيار للفرد في اندراجه فيها
أوّل الأمر، كالعشائر والقبائل.
في أكثر التصرّفات السياسية، ودون أدنى شعور
بالتناقض، نجد من يسوّغ لحزبه ما يعيبه على غيره، وذلك باختصار؛ لأنّ القيمة في
وعيه ترتبط بغرض حزبه، ممّا يشير إلى اعتقاد مستبطن بحلول الحقّ في حزبه، وهو ما
يعني بالضرورة رفض حرّية الآخرين واستقلالهم بأن يتصرفوا وفق أغراضهم لا وفق أغراض
غيرهم، وهذا التناقض الفجّ يزداد شدّة وتوتّراً في ظروف التنافس، كاستواء حزبين في
الحجم، أو اشتراكهما في الموضوع، كأن يكون الموضوع أيديولوجياً، أو يكون نضاليّاً،
كالمقاومة مثلاً في الحالة الفلسطينية، فالمشترك هنا، بقدر ما يدعو بداهة للتعاون
والتفاهم، فقد يحول دون التفاهم، ما دام منقسماً بين أطراف، سوف تختلف أغراضها
حتماً، ولو في أوقات، لاسيّما وأن التاريخ يورث المتنافسين الكثير من سوء الظنّ
المتبادل الذي يصير منظوراً من مناظير الفهم والحكم والتقييم.
من يعاني الكتابة والحديث في الشأن العام،
مهما كان هذا الشأن، فكريّاً أو سياسيّاً، يواجه دائماً هذه المشكلة، حينما يتخذ
الآخرون من تصنيفهم له منظاراً وحيداً لفهم مساهمته في قضيّة ما، فقد يُعَدّ احتسابه
على جهة ما دافعاً وحيداً لقوله، إلى درجة أن يُفهم إنصافه لغيره ذمّاً لذلك
الغير، ما رأى ذلك الغير صاحب المساهمة يكتب مندفعاً بحكم ذلك التصنيف أو من ذلك
الانتماء، فلا يُرى إلا مخالفاً أو خصماً حتى في مقولته الحقّ، فيصير التلقي
غريزيّاً لخطاب الآخرين، يمرّ من أقنية المشاعر من محبّة وكراهية، وهو أمر حاصل
أيضاً في التلقّي الفردي، الذي لا يخلو من الانطباعات السابقة على التلقّي، ولا من
تلك العواطف الحاكمة على الآخرين.