مثلت الأحداث العنصرية الأخيرة وحملات الترحيل التي شهدتها بعض المدن
التركية إشارة واضحة إلى تحول رسمي في الموقف من قضية اللاجئين وخاصة السوريين
منهم. كما شهدت البلاد حملات مختلفة لنزع اللافتات المكتوبة باللغة
العربية التي
رأي فيها كثير من المراقبين علامة على تغير جوهري في الموقف التركي من القضايا
العربية عامة.
بقطع النظر عن دلالة هذه الأحداث المتفرقة وغيرها من الخطابات
العنصرية والتجييش ضد الأجانب في الداخل التركي، فإن ردود الأفعال العربية على
منصات التواصل الاجتماعي خاصة تستوجب الإجابة عن عدد من الأسئلة في علاقة الحالة
التركية بالمنطقة العربية.
التقييم العاطفي للحالة التركية
يغلب على الشارع العربي موقف عاطفي من الحالة التركية فعلى جبهة أولى
يقف أنصار
تركيا وهم أساسا من التيار المحافظ ومن الإسلاميين. يرى هذا الفريق في
تركيا نواة لمشروع نهضة إسلامية قد تنجح في تكوين قاطرة لقيادة الأمة تشمل المنطقة
العربية وشعوبها فحزب العدالة والتنمية حزب إسلامي محافظ وكذا رئيسه أردوغان.
أما الفريق المقابل فيجاهر تركيا العداء ويرى أنها مشروع للإسلام
السياسي في البلاد العربية يخفي أطماعا توسعية خاصة بعد أن أغلقت أوروبا الباب
أمام أنقرة فاتجهت شرقا نحو مستعمراتها القديمة. تركيا الجديدة بالنسبة للفريق
الثاني ليست سوى امتدادا للمشروع الامبراطوري القديم الذي يرى أحقيته بالتمدد في
بلاد العرب.
برز هذان الموقفان بقوة خلال محطتين أساسيتين: أما الأولى فتتمثل في
المحاولة الانقلابية الفاشلة في صيف 2016 وتجلت الثانية خلال الانتخابات الرئاسية
والتشريعية الأخيرة. فقد شهدت المناسبتان مواجهة قوية في الشارع العربي بين أنصار
تركيا المحافظة وبين أعدائها وكأن الحدثين واقعان في قلب المنطقة العربية.
في بلاد العرب إذن حالة عاطفية من تركيا وحتى من غير تركيا لأن
المعطى التاريخي والعقائدي لا ينفصل عن المعطى السياسي، فتارة توصف تركيا بكونها
القوة السنية الصاعدة أو تعرّف بأنها المشروع العثماني الجديد. كلا التقييمين لا
يكشفان عن البعد الأساسي للفاعل التركي باعتبار قدرة أنقرة على تجاوز حالة
الانقلابات العسكرية وشروعها في بناء نموذجها الحضاري مستفيدة من تمزق الجوار
وخاصة المنطقة العربية.
تركيا في قلب المنطقة العربية
تعمق الموقف العاطفي بعد الانخراط المباشر للفاعل التركي دبلوماسيا
وعسكريا وسياسيا في البلاد العربية. فقد شاركت أنقرة بشكل حاسم في الصراع الليبي
عبر دعمها حكومة الوفاق الوطني والمعسكر الغربي وعاصمته طرابلس وإسهامها الحاسم في
دحر قوات حفتر واحتلال قاعدة الوطية جنوب البلاد.
تركيا فاعل مركزي في الصراع السوري المندلع على حدودها ومجالها
الحيوي سواء عبر العمليات العسكرية التي قادتها هناك أو عبر وجود ملايين اللاجئين
على أرضها. نجد تركيا أيضا حاضرة في حصار قطر بعد أن شاركت بقوة في منع أي عمل
عسكري ضد الدوحة عبر إرسال قوات عسكرية إضافية إلى هناك.
للإيراني مشروعه وللتركي مشروعه وللإسرائيلي والروسي والفرنسي والبريطاني والأمريكي مشروعهم على الأرض العربية إلا العرب فإنه لا مشروع يوحدّهم ولو في الحدّ الأدنى لإيقاف نزيف الدم على الأقل. مصالح هذه الدول لا تتضاعف وتنمو إلا على أشلاء العرب وعلى خراب أوطانهم كما حدث في اليمن والعراق وسوريا وليبيا.
تركيا إذن شريك مباشر في الأحداث العربية وهي المستفيدة من حالة
الانهيار التي تعرفها حواضر العرب الواحدة تلو الأخرى كما استفادت من ذلك كيانات
إقليمية أخرى مثل الكيان المحتل أو إيران مثلا. لم تتمدد تركيا في الخليج وفي
سوريا وفي ليبيا إلا لسبب متعلق بالحالة العربية نفسها وهو الدافع الأساسي لحضورها
الفاعل هناك مهما كان الطرف المستفيد من ذلك الحضور.
لا يمكن بأي حال من الأحوال توجيه اللوم أو الاتهام للفاعل السياسي
التركي لأن
العلاقات بين الدول تقوم على المصالح أولا وعلى ملء الفراغات
والاستفادة من السياقات الملائمة ثانيا وهو ما نجحت فيه تركيا نجاحا. من جهة أخرى
لا يمكن أن نغفل أن النجاحات التركية تسجّل أيضا على جبهة إسقاط الانقلاب ودعم
الديمقراطية وتحقيق النهضة الصناعية والسيادة العسكرية.
تركيا.. عدوّ أم حليف؟
لا هذا ولا ذاك لأن النظام الحاكم في تركيا اليوم ليس الدولة وليس
البلد بل هو جهاز سياسي تنفيذي محكوم بالزمن والسياقات الدولية وسينتهي يوما ما
كما انتهى غيره. لكن الثابت هو الوجود التركي نفسه فأنقرة دولة جارة ولنا معها
علاقات تاريخية تتميز بالهيمنة والإخضاع فقد كانت الامبراطورية العثمانية قابضة
على المصير العربي مشرقا ومغربا طيلة قرون من الزمان.
اليوم تغيّر السياق وتغيرت التحديات بالنسبة لكل الفواعل في الإقليم
بما فيهم تركيا التي لا تريد أن تخسر المنطقة العربية لذا تحاول التعامل معها بحذر
شديد. نجحت في كسب الشارع العربي خلال الثورات ونجحت في صياغة خطاب إسلامي محافظ
جذاب وتمكنت في وضع قدم في أكثر من بلد عربي وها هي اليوم تحصد عقودا وشراكات
بعشرات المليارات من الدولارات من دول الخليج.
الخلاصة الموضوعية تقتضي أولا عزل ردود الأفعال العاطفية وقراءة
الحضور التركي على الساحة العربية باعتباره في جزء كبير منه نتيجة حتمية لغياب
المشروع العربي ولتناحر الفواعل العربية وتقاتلها. لن يكون المشروع التركي إلا
تركيا في منطلقاته وفي مساره وفي غاياته وهذا أمر طبيعي وحق من حقوق الأتراك لكن
الإيهام بأن المشروع التركي قد يكون عربيا في جزء منه فهذا وهم لا يقبل به منطق
العلاقات بين الدول اليوم ولا تاريخ العلاقات العربية التركية نفسها.
للإيراني مشروعه وللتركي مشروعه وللإسرائيلي والروسي والفرنسي
والبريطاني والأمريكي مشروعهم على الأرض العربية إلا العرب فإنه لا مشروع يوحدّهم
ولو في الحدّ الأدنى لإيقاف نزيف الدم على الأقل. مصالح هذه الدول لا تتضاعف وتنمو
إلا على أشلاء العرب وعلى خراب أوطانهم كما حدث في اليمن والعراق وسوريا وليبيا.
لن تنهض بلادنا إلا يوم توقن الأنظمة والشعوب معا أن المشروع الوحيد الممكن
هو المشروع المحلي القائم على الحرية والعدل لترميم ما يمكن ترميمه من خراب بدل
البقاء فريسة لأطماع الحليف والعدوّ معا.