خطابه أمام
الكونغرس، بعد أسبوع تقريباً من وقوع هجمات مدينتي نيويورك وواشنطن، تساءل الرئيس الأميركي جورج بوش الابن قائلاً: لماذا يكرهوننا؟ وقد بدا وقتها كأنه يحيل أسباب الكراهية لبلاده إلى العوامل الاقتصادية، لاعتقاده أن الإرهاب هو وليد ثقافة الحرمان.
هل يتكرر التساؤل عينه اليوم في الداخل الأميركي؟
مؤكد أن هذا يحدث بالفعل، غير أن محور التساؤل هذه المرة هو الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب، الذي بات ملايين الأميركيين يتساءلون عن سر المطاردة التي يتعرض لها، وبإصرار شديد، ما يقطع بأن هناك من يحاول؛ لا الدفع بالرجل خارج سياق الحملة الانتخابية الرئاسية فحسب؛ بل خارج التاريخ الأميركي، بوصفه أول رئيس يحاكَم جنائياً، بينما تبلغ عقوبات
الاتهامات عدة عقود من السنين.
للمرة الثالثة خلال 4 أشهر، يواجه ترمب اتهامات، بعضها في نيويورك وتتعلق بالسجلات التجارية وهي قضية فنية، وأخرى في فلوريدا من جراء الاتهام بالاحتفاظ بوثائق رئاسية لم يسلمها لدار المحفوظات بعد رحيله، بينما اتهامات واشنطن الأخيرة هي الأخطر، وذلك لأنها تتعلق بالاحتيال على الدولة الأميركية، ومحاولة حرمان الناخبين من حقهم في انتخابات نزيهة، عطفاً على القول بوجود مؤامرة منسقة في عدة ولايات حول الهدف نفسه.
ويتساءل الأميركيون عن مدى دقة هذه الاتهامات.
من هنا، يبدأ الشقاق والفراق يتعمقان، ويكاد الشرخ في نسيج المجتمع الأميركي يتحول إلى فالق لا يمكن مداواته، لا في الحال ولا مستقبلاً.
يحتدم الجدل بداية من موقف ترمب من انتخابات الرئاسة 2020، ورأيه فيها، واعتبارها -في تقديره- انتخابات مزورة.
وبالعودة إلى الانتخابات الرئاسية الأميركية 2016، نجد هيلاري كلينتون قد وجهت اتهامات قاسية للجمهوريين ولحملة ترمب، بأنهم سرقوا منها فوزاً مؤكداً؛ بل إن الأمر وصل إلى حد اتهام ترمب وحملته الرئاسية بالتآمر مع الروس لإسقاطها، وهي التهمة التي طاردت ترمب حتى بعد أن دخل البيت الأبيض، وإن لم تثبت طويلاً لعدم صدقيتها. بينما لم تثُر ثائرة الجمهوريين، ولم يسارعوا إلى توجيه اتهامات بالاحتيال لهيلاري، وانتهى الأمر.
قبل ذلك وفي انتخابات عام 2000، شككت قيادات ديمقراطية عدة في فوز بوش الابن، ووقتها كان من الممكن بالفعل تصديق وجود تلاعب في صناديق الاقتراع، لا سيما في ولاية فلوريدا؛ حيث كان حاكم الولاية هو جيب بوش، الأخ الأصغر للمرشح المنتخب، وقد جرى الحديث حول عدة مئات من الأصوات وليس أكثر.
لماذا لم يسعَ الديمقراطيون إلى توجيه اتهامات مماثلة لبوش الابن؟
من هنا يتحول المشهد إلى نوع من الثأر الشخصي تجاه ترمب؛ لأن ذلك يخالف المتفق عليه، وهو حماية حرية الرأي والتعبير لكل مواطن أميركي، والقناعة الراسخة بأنه لا تتوجب محاكمة أحد بسبب رؤاه وقناعاته.
يحاجج الجمهوريون بأنهم لم يوجهوا اتهامات فيدرالية جنائية للديمقراطيين، حين شككوا في نزاهة الانتخابات النصفية بولاية جورجيا عام 2018، فهل باتت القصة تمضي في سياق توفير الديمقراطيين من أي اتهام، وتوجيه أصابع الاتهام دفعة واحدة للجمهوريين؟
ما يحدث بين جنبات الولايات المتحدة الأميركية أمر خطير، ولا يتهدد الرئيس ترمب فحسب؛ بل سياقات كل انتخابات أميركية، من عند أصغر عمدة، وصولاً إلى مقام الرئاسة.
ليس سراً القول إن نسباً عالية من الأميركيين بات يساورها القلق لجهة حدوث أزمة انتخابية أخرى في عام 2024، ومردّ ذلك إلى ما خلفته حملة انتخابات 2020 من آثار هادمة.
بتفكيك أكثر للمشهد، فإن غالبية الجمهوريين لديهم شكوك حول ما إذا كانت انتخابات الرئاسة القادمة سوف تفرز فائزاً شرعياً، بينما الديمقراطيون يعتقدون مسبقاً أن الجمهوريين سيطعنون في النتائج، في حال لم تأتِ كما يرغبون.
وبالعودة إلى التساؤل عن جوهر هذه القراءة، يخطر لنا التفكير في الماورائيات التي تجعل ترمب مكروهاً مطارداً من الدولة الأميركية العميقة.
هل يكرهونه لأنه يمثل عقبة أمام التيار اليساري الديمقرطي، المغرق في علمانية تكاد تصل إلى حد تقديس الإلحاد؟
نعم، ترمب ليس ولياً أو قديساً؛ لكن أحداً لا ينكر أن الرجل لديه رؤية قيمية محافظة للولايات المتحدة الأميركية، تنافي وتجافي الانحلال الحادث والمتصاعد في أعلى عليين؛ سواء على صعيد الأسرة الأميركية أو المجتمع برمته.
يقف ترمب حجر عثرة أمام التفسخ الجنسي المخالف للناموس الطبيعي، ويتحدث في العلن عن نيته توقيع قانون يحظر تشويه الأطفال جنسياً في جميع الولايات الخمسين، حال عودته إلى البيت الأبيض ثانية.
ترمب يسعى إلى أن تكون أميركا عظيمة مرة جديدة، وذلك من خلال الانتصار لكل ما هو أخلاقي، فيعد بإعادة جميع الأطفال الذين تم الاتجار بهم إلى عائلاتهم.
هل يكرهونه لأنه يعمل في اتجاه مغاير لجماعة المجمع الصناعي العسكري الأميركي، والتي تغذي نيران الصراع الروسي- الأوكراني، لضمان دوران عجلة مصانع الموت، حتى وإن كلف الأمر العالم سلامه، وزج بالجميع في أتون الحرب العالمية الثالثة، بملامحها النووية الكارثية على البشر والحجر؟
المثير في مشهد ترمب، أنه كلما يشتد عليه خناق المحقق الخاص جاك سميث، تزداد شعبيته بين الجمهوريين، ولهذا تحدّث متهكماً بالقول: «اتهام آخر جديد، وسأضمن الرئاسة القادمة حكماً».
يتقدم ترمب قائمة المرشحين للحزب الجمهوري في انتخابات الرئاسة القادمة، والفارق بينه وبين أقربهم إليه، حاكم ولاية فلوريدا، رون ديسانتيس، يتجاوز الـ30 نقطة.
يخاطب باراك أوباما، رئيس الظل الحالي، ساكن البيت الأبيض، جو
بايدن، قائلاً: «لا ينبغي التقليل من شأن ترمب، فعلى الرغم من المشكلات القانونية التي واجهها، فإنه قد يكون خصماً قوياً في الانتخابات القادمة».
الخلاصة: مشهد مطاردة ترمب انتقص كثيراً جداً من أميركا «الاستثنائية»، و«المدينة فوق جبل» في أعين الأميركيين بخاصة، وشعوب المسكونة بعامة، والبقية تأتي.
(عن صحيفة الشرق الأوسط)