أعلنت شركة "توتال إنيرجيز"
الفرنسية قبل بضعة أيام عن استعداداها لمباشرة عمليات التنقيب عن النفط والغاز في
الرقعة رقم 9 في المياه
اللبنانية، محدّدة أواخر شهر أغسطس المنصرم كموعد لبدء
عمليات التنقيب. وأفادت الشركة المشغّلة للبلوك المذكور بأنّ منصة الحفر
"ترانس أوشين بارنس" التابعة لها قد وصلت بالفعل إلى البلوك الذي يقع
قبالة الساحل الجنوبي للبنان ويبعد حوالي 120 كلم عن بيروت.
وأشارت الشركة إلى أنها أنهت أول بئر
استكشافي تم حفره على الإطلاق في المياه اللبنانية العميقة، في البلوك رقم 4 في
أوائل عام 2020، وأنها تستعد الآن مع شركتي إيني الإيطالية، وقطر للطاقة لحفر بئر استكشافي
ثان، على أن يكون في البلوك رقم 9 من المياه اللبنانية ويتم خلال أواخر العام
الجاري 2023.
وتعتبر شركة توتال من الشركات المشغلة
للرقعتين 4 و9 من المياه اللبنانية، وهي
تعمل في هذا المجال منذ العام 2018، وهو العام الذي تم فيه توقيع اتفاقيتي الاستكشاف
في الرقعتين المذكورتين. وبالرغم من انتهاء أعمال الحفر في أول بئر في المياه
اللبنانية العميقة في العام 2020، فإنّ انطلاق الأعمال الرسمي الآن يأتي بعيد
الاتفاق الذي تم بين لبنان وإسرائيل لترسيم الحدود في أواخر العام 2022.
وعطّل النزاع الذي كان قائماً آنذاك
بين الطرفين من قدرة لبنان على استثمار ثرواته. لكن الاتفاق الاستثنائي الذي جرى
بين لبنان وإسرائيل بوساطة ورعاية أمريكية غيّر هذه المعطيات، وأزال أي قيود
إسرائيلية أو خارجية كان من شأن وجودها أن يحرم لبنان من استثمار ثرواته بشكل
كامل. كما أنه شجّع هذا الاتفاق بعض الشركات الأجنبية العاملة في مجال الطاقة على
العمل في الحقول اللبنانية، فتم إطلاق شراكة في أعمال الاستكشاف والتنقيب بين كل
من إيني وتوتال وقطر للطاقة في المناطق اللبنانية المحددة.
ويعطي انطلاق أعمال الحفر والتنقيب
بارقة أمل للبنانيين للخروج من المأزق
الاقتصادي الذي يعيشونه منذ سنوات طويلة لا سيما
خلال العامين الماضيين، حيث تحوّل الوضع الفوضوي للبنان إلى حالة من الانهيار
الشامل على مختلف المستويات السياسية والاقتصادية والأمنيّة. وبالرغم من أنّ
اللبنانيين كانوا قد اعتادوا الفوضى السياسية والأمنيّة إلا أنّ الانهيار المالي
والاقتصادي حطّم آمالهم بقرب التعافي.
وفي هذا السياق، يعتبر البعض أنّ اكتشاف
واستثمار الغاز كثروة وطنيّة وتحوّل لبنان إلى دولة نفط وغاز من شأنه أن يُحدث
تحوّلاً شاملاً في البلاد وأن يساعد ذلك على سداد الديون المتراكمة، وإيجاد فرص
عمل، وتحسين الوضع المعيشي، ورفع مستوى الدخل بما يعود بالنفع على جميع
اللبنانيين، أو هذا ما افترضه البعض حينما لاحت أنباء تحوّل لبنان إلى دولة نفط
وغاز.
المشكلة ليست في وجود أو غياب الغاز والموارد الطبيعية الأخرى، وإنما في الطبقة السياسية الحاكمة في لبنان علناً وسراً وفي اعتياد اللبنانيين على الفوصى بالرغم من محاولات التغيير المحدودة التي جرت في السنوات الأخيرة والتي ثبت عدم جدواها أمام رداءة الطبقة السياسية وإستفحال المشاكل الناجمة عن سيطرتها.
لكنّ نظرة فاحصة للحالة اللبنانية
ومعطياتها الداخلية تشير إلى أنّ مثل هذا الافتراض ربما يكون أقرب إلى الحلم منه إلى
الحقيقة، وقد يتحوّل النفط والغاز المرتقب إلى كابوس خاصة إذا ما استمرت أعمال
المحاصصة الطائفية، ونهب ثروات البلاد، وسيطرة حزب الله على الدولة، وتوزّع
اللبنانين إلى مجموعات وطوائف بناءً على انحيازات وانتماءات طائفية ومناطقية
وأيديولوجية.
وحقيقة أنّ اللبنانيين لم يستطيعوا أن
ينتخبوا رئيساً لهم حتى الآن بالرغم من الأوضاع الاقتصادية الصعبة وانهيار الدولة،
خير دليل على ذلك. وما يزيد الطين بلّة كما يقال أنّ اللبنانيين بشكل عام يُبدون
ردّة فعل عادية إزاء وضعهم الشاذ جداً سياسياً وإقتصادياً وأمنيّاً وهو ما يطرح
تساؤلاً حول مدى رغبتهم الحقيقيّة في التغيير الشامل.
الوضع السائد لا يبشّر بخير أبداً، وفي
ظل المعطيات القائمة، فالغالب أنّ اكتشاف الغاز والنفط سيزيد من الفساد والمحاصصة
والانقسام بين اللبنانيين لاحقاً، خاصة إذا لم يتم تحصين القطاع وإبعاده عن
الأعراف العامة المعمول بها في البلاد على أكثر من صعيد.
وفي هذا السياق، علينا ألا ننسى كذلك
رغبة حزب الله في السيطرة على المزيد من موارد الدولة وتسخيرها لتحقيق أهدافه
الخاصة وأجندته المعلنة في خدمة إيران. المفارقة في هذا المجال أنّ هذه الأجندة
سهّلت ـ لأسباب عديدة ليس هذا مجال نقاشها الآن ـ التوصل إلى تفاهم مع إسرائيل
بشأن ترسيم الحدود البحرية والسماح باستغلال الثروات البحرية ومنها ثروة النفط
والغاز. بل إنّ هذه الأجندة رعت بشكل واضح التفاهم الذي تمّ مع إسرائيل بوساطة
أمريكية، وهو ما يثير مخاوف مشروعة من النوايا الكامنة وراء هذه الخطوات.
حزب وسياسة حزب الله وأجندته سبب أساسي
من أسباب انهيار لبنان ليس سياسياً وأمنياً فقط، وإنما اقتصادياً أيضاً. ولمّا كان
هذا هو الوضع، من الطبيعي افتراض أنّ الحزب سيحاول أن يعض يده على الأقل على نسبة
من هذه الثروة كما هو الحال بالنسبة إلى القطاعات الأخرى، على أن يتم تسخيرها
لخدمة أجندته ورعاية بيئته ودائرته الضيقة والوساعة في نفس الوقت من الأعضاء
والموالين على حد سواء.
هل سيحل الغاز مشاكل لبنان
واللبنانيين؟
الحقيقة أنّ المشكلة ليست في وجود أو
غياب الغاز والموارد الطبيعية الأخرى، وإنما في الطبقة السياسية الحاكمة في لبنان
علناً وسراً وفي اعتياد اللبنانيين على الفوضى بالرغم من محاولات التغيير المحدودة
التي جرت في السنوات الأخيرة والتي ثبت عدم جدواها أمام رداءة الطبقة السياسية
واستفحال المشاكل الناجمة عن سيطرتها. ما لم يحل اللبنانيون هذه المشكلة أولاً،
فإنهم مهما اكتشفوا من ثروات وموارد، لن يكون ذلك كافياً لإخراجهم من القاع الذي وصلوا
إليه، وسيكون ذلك محض نقمة بدلاً من أن يكون نعمة.