المذكرات التي نشرها ألبير آريه، تحت عنوان: مذكرات
يهودي مصري،
والتي تعرض فيها لحقبة تاريخية من تاريخ مصر المعاصر، والتي تناولت في مقالي
السابق منها، تعرفه على الإخوان في السجن، وبخاصة هنداوي دوير المتهم بقتل عبد
الناصر في حادث المنشية، ولا تخلو مذكرات ألبير من مواقف أخرى مهمة مع الإخوان في
السجن، فقد تعرف على قيادات أخرى، فقد التقى صالح أبو رقيق، وحسن العشماوي، ومحمد
مهدي عاكف.
ورغم معرفة ألبير بعاكف قبل السجن، إلا أنه نقل لنا صورة مهمة عن
الإخوان في السجن، حيث دعت مجموعة الشيوعيين في السجن للإضراب عن الطعام، احتجاجا
على قرار تكليفهم بالعمل في الجبل، في تقطيع الحجارة، ولم يتجاوب الإخوان معهم في
هذا الإضراب، ليس لرفض التعاون مع الشيوعيين، بل لأنهم يرونه ممنوعا شرعا، وليس من
ثقافة الإخوان في السجون آنذاك، الإضراب عن الطعام، ولم تتغير هذه الثقافة إلا بعد
الانقلاب العسكري في مصر.
وهنا ملمح مهم لا بد من التنبيه عليه لمن يقرأ مذكرات ألبير، أو غيره
ممن يختلف مع الإخوان سياسيا، أو أيديولوجيا، فلا بد من فهم سياقات وأسباب اتخاذ
الإخوان موقفهم، فموقفهم من الإضراب هنا كان موقفا مبدئيا، وليس رفضا للظلم، وهو
ما مارسه الإخوان فيما بعد من منع قيادي كبير من الإضراب عن الطعام في السجن أيام
مبارك، وهو الدكتور محمد جمال حشمت، فقد تم اختطافه في عهد مبارك من الشارع للسجن،
فأضرب عن الطعام، ووقتها لم يجد النظام أحدا يحاور ويقنع حشمت بفك الإضراب سوى
قيادات الجماعة، وكان الموقف في تحركهم، هو الموقف الشرعي، وأذكر أني كتبت له ـ
وقتها ـ فتوى بالموضوع، ليحاجج به القيادات التي ستزوره لمنعه من ذلك.
لقد تعرف ألبير آريه على مرشد الإخوان المرحوم محمد مهدي عاكف، فقد
كان لدى والد ألبير مخبز كبير، وكان عاكف يأتيه لشراء كميات منه، ولما سأله ألبير
عن سر هذه الكمية، فأخبره بأنها لمعسكر، وقد كان معسكرا للتدريب بالفعل آنذاك، في
منطقة كرداسة، وشهد ألبير بأمانة عاكف المالية، ووفائه بالحقوق.
الموقف الذي استغربه بشدة ألبير آريه في مذكراته من الإخوان، أنه في
عام 1954م، حدثت حادثة شهيرة، وعرفت باسم: (فضيحة لافون)، وهو اشتراك مجموعة من
اليهود المصريين، في تفجيرين في القاهرة، وتم إلقاء القبض عليهم قبل التنفيذ، أو
أثناء فشل أحدهم في التنفيذ، وسميت باسم لافون، باسم وزير الدفاع الإسرائيلي وقتها
(بنحاس لافون)، وتم إيداعهم في السجن الحربي مع الشيوعيين والإخوان، والفلسطينيين.
تعرف ألبير آريه على مرشد الإخوان المرحوم محمد مهدي عاكف، فقد كان لدى والد ألبير مخبز كبير، وكان عاكف يأتيه لشراء كميات منه، ولما سأله ألبير عن سر هذه الكمية، فأخبره بأنها لمعسكر، وقد كان معسكرا للتدريب بالفعل آنذاك، في منطقة كرداسة، وشهد ألبير بأمانة عاكف المالية، ووفائه بالحقوق.
فلم يكن في السجن الحربي مصريون فقط، بل كانت هناك مجموعة من
الفلسطينيين قد سجنوا في عهد عبد الناصر، يحكي ألبير أن مجموعته الشيوعية، رفضت أي
معاملة داخل السجن مع المحبوسين في قضية (لافون)، بينما فوجئ من أن بعض الإخوان
تعاملوا، وكذلك بعض الشيوعيين غير مجموعته، وكانت مفاجأته الأكبر في بعض
الفلسطينيين في السجن أيضا، أنهم تعاملوا.
بل إن الفلسطينيين قد تضامنوا مع يهودي منهم عذب، ورفضوا أن يتم
تعذيب مسجون، فقد كان ألبير ومجموعته تنظر لمسجوني قضية (لافون) على أنهم جواسيس،
بينما نظر إليهم من قبل التعامل معهم في السجن من: الإخوان والفلسطينيين
والشيوعيين، نظرة أخرى مختلفة، وكان لكل منهم أسبابه ووجهة نظره.
أما الفلسطينيون فلم يكن لديهم مشكلة مع اليهود من حيث إنهم أتباع
ديانة سماوية، بل مشكلتهم مع المحتل الغاصب، من العصابات الصهيونية آنذاك. وهو نفس
ما نقله ألبير في مذكراته عندما زار فلسطين، فوجد اليهود يعاملون معاملة حسنة، رغم
أن الزيارة كانت وقت الصراع، بل وجد معاملة راقية من أهل فلسطين، على اعتبار أي
يهودي آنذاك زائر يزور أماكن مقدسة، أو مقيم، وليس محتلا.
أما الإخوان والشيوعيون الذين تعاملوا معهم في السجن، فقد كانت
معاملتهم مبنية على اعتبارين، الاعتبار الأول: أنهم لو كانوا متهمين، والتهمة
ثابتة عليهم، فهم مسجونون، والتنسيق والترتيب للتعامل اليومي في السجن، أمر مجبر
عليه السجين، بدليل تعامل الإخوان مع الشيوعيين أنفسهم في السجن، في ترتيب العجين،
وخبزه، وتنظيف السجن، وبقية التفاصيل التي يحدث فيها مقابلة، ولا ينفرد السجين ولا
فصيله بالقيام بها في السجن.
وقد كان إضافة للاعتبار الديني، وهو التفريق بين اليهودية
والصهيونية، كان أيضا الاعتبار الإنساني حاضرا، وهو ما برر به موقفه مهدي عاكف
رحمه الله، وقد ذكر ذلك ألبير في مذكراته، أن مهدي عاكف أخبره بـأن أحد المحكوم
عليهم في هذه القضية وهو: روبير داسا، قد أنقذ حياته في السجن الحربي بعد التعذيب
الذي لاقاه، وأن روبير كان هو من سقاه كوب الماء الذي أنقذ حياته، وقال لي: (شوف
ربنا عمل في إيه؟ بعتلي واحد يهودي ينقذ حياتي؟).
أما الاعتبار الثاني، وهو الأقوى في وجهة نظري، أن الإخوان
والشيوعيين الذين تعاملوا لا يمكن أن يشكك أحد في وطنيتهم، بل إن الشك لدى كل سجين
آنذاك، كان في السلطة التي سجنتهم، ولفقت لهم تهما، ولذا فهو ينظر إليها على أنها
سلطة ملفقة للتهم، فما يدريه أن هذا المسجون أو ذاك بالفعل مرتكب للجريمة.
وقد كان الإخوان سجنوا في السجن الحربي بتهمة قتل عبد الناصر، وقد
ناقشت في المقال السابقة مدى صحة هذه التهمة، والإخوان كقيادات ومسؤولين يؤمنون
بأنها مسرحية، نظرا لأنهم لم يقرروا هذا الفعل، ولم يعتمدوه، ولم يدع أحد منهم
إليها، ولو نظرنا للحادثين الكبيرين الذي سجن الإخوان فيه، وسجن من قاموا بعملية
(لافون)، سنجد أن الحادثين ـ مع اختلاف السبب والجريمة والهدف منهما ـ كليهما لم
يكن ملفقا مائة بالمائة، ولم يكن حقيقة مائة بالمائة أيضا.
لو نظرنا للحادثين الكبيرين الذي سجن الإخوان فيه، وسجن من قاموا بعملية (لافون)، سنجد أن الحادثين ـ مع اختلاف السبب والجريمة والهدف منهما ـ كليهما لم يكن ملفقا مائة بالمائة، ولم يكن حقيقة مائة بالمائة أيضا.
وهو ما بدأت مذكرات أصدقاء عبد الناصر المقربين جدا منه يكتبونها،
فقد اكتشفنا أن تفجيرات (لافون)، كانت ستة تفجيرات، دبر لاثنين منها: الصهاينة، عن
طريق خمسة يهود مصريين، كان منهم ثلاثة صغار في السن، بينما التفجيرات الأربعة
الباقية كانت من تخطيط وتدبير وتنفيذ جمال عبد الناصر، وهو ما اعترف به خالد محيي
الدين في مذكراته: (والآن أتكلم)، وعبد اللطيف البغدادي، وأن الذي اعترف لهم بذلك
عبد الناصر نفسه.
حيث كتب خالد محيي الدين في كتابه (والآن أتكلم) ص: 305، يقول: (وقد
روى لي بغدادي (وعاد فأكد ذلك في مذكراته) أنه في أعقاب هذه الانفجارات زار جمال
عبد الناصر، في منزله هو وكمال الدين حسين، وحسن إبراهيم، ليناقشوا معه تطورات
الأوضاع، وأبلغهم عبد الناصر أنه هو الذي دبر هذه الانفجارات لإثارة مخاوف الناس
من الاندفاع في طريق الديمقراطية، والإيحاء بأن الأمن قد يهتز وأن الفوضى ستسود،
وبطبيعة الحال فإن الكثيرين من المصريين لا يقبلون أن ت سود الفوضى بصورة تؤدي إلى
وقوع مثل هذه الانفجارات).
وهو نفس ما ذكرناه في قضية حادث المنشية، والذي أثبتت الشهادات
التاريخية فيما بعد صحة الشكوك في الحادثة، ولا شك أن ما ذكره أحمد أنور مسؤول
البوليس السياسي آنذاك، والذي قبض على محمود عبد اللطيف وهنداوي دوير، ذكر أنه ذهب
لعبد الناصر بعد التحقيق مع محمود عبد اللطيف، وقال لعبد الناصر: لقد قررت أن أصرف
عشرة جنيهات شهريا لزوجة محمود عبد اللطيف، فقال له عبد الناصر: خليهم خمسة عشر
جنيها!!
أكتفي بهاتين المساحتين التاريخيتين من مذكرات ألبير آريه، وهناك
مساحات أخرى مهمة، يمكن الاستفادة منها تاريخيا، والاشتباك الفكري أيضا معها، وهو
ما كنا ـ ولا زلنا ـ ندعو الإخوان إلى تدوين تاريخهم، بدل أن يظل حبيس صدور بعضهم،
وقد كانوا شهودا على مراحل تاريخية مهمة، ونتمنى أن يبدأ من في المهجر منهم بذلك،
وبخاصة من عاصروا مراحل التنظيم في 1965 وما بعده، ومن كانوا مع الرئيس الشهيد
محمد مرسي، قبل أن تعتري بعضهم ما يعتري الإنسان، من ضعف الذاكرة، وغياب التفاصيل،
أو الموت، الذي تنتهي به حياة الإنسان، وتفاصيله المهمة.
Essamt74@hotmail.com