في الوقت الذي يحيي فيه الإسرائيليون الذكرى الخمسين لاندلاع حرب أكتوبر، فإن المكتبة الإسرائيلية ما زالت تشهد صدور العديد من المؤلفات والكتب التي تروي إخفاقات تلك
الحرب، ونتائجها الكارثية.
آخر هذه الكتب ما أصدره المستشرق جاكي خوجي بعنوان "
مذكرات جندي
مصري تحت النار خلال حرب 1973"، يتناول فيه بطولة
جندي مصري يدعى "سعيد"، عثر جنود إسرائيليون على مذكراته الخاصة، مشيرين بتعجّب إلى بطولته وشجاعته التي أبهرتهم.
يقول المؤلف، وهو محرر الشؤون العربية في إذاعة جيش الاحتلال، وله عمود دوري في صحيفة معاريف، ومترجم رواية "ألف ليلة وليلة"، أن "محتويات الكتاب ليست رواية خيالية، بل قصة حقيقة حدثت بالفعل، خاصة بيوميات جندي مصري من سلاح المدفعية تم نسيانها خلال حرب أكتوبر، وجمعها جنود الجيش الإسرائيلي، مشيرا إلى إعجابه بلغة الجندي المصري العالية جدًا في الكتابة، متحدثا بالتفصيل عن أفراد وحدته العسكرية، حياتهم وأحلامهم، ثم جاءت رياح الحرب، ولم يكتفِ بالكتابة فقط، بل هناك رسوم وصور توضيحية لأصدقائه وبعض القادة العسكريين والمناظر الطبيعية الخلابة في سيناء".
وأضاف في
مقدمة الكتاب التي ترجمتها "عربي21"، أن "هذه المذكرات اليومية تم نسيانها في الرمال، حيث جمعها الجنود الإسرائيليون، وأبدوا تأثرهم بما قرأوه، وسلموها إلى زميل لهم، وهو جندي احتياط في الجيش يدعى عوديد يارون، وبذل المؤلف جهودا صعبة لجمع مذكراته حتى خرجت للعلن، بعد أن احتفظ بمذكراته أربعين عامًا، أي أننا أمام قصة رائعة، لم يختلقها، بل بطلها حقيقي، حدثت قصته بالفعل على أرض الواقع".
الخلل الإسرائيلي
وأشار إلى أن "الجندي المصري علم أنه سيخوض حربا قبل أسبوع، واستعد لها، مقابل الاعتراف الإسرائيلي بعمق الخلل في الجيش، وكتب سعيد؛ "أتمنى أن أقبّل والدي، ويضمني بلطف لصدره الحنون، ويمنحني قبلة حب، وأقضي الليلة مع أخويّ حمدي ونبيل، ستكون هذه المرة الوحيدة التي لن أتمكن فيها من الهرب، لقد هربت من لحظات الموت الأخرى لأنها ذكرتني بموتي، لم أكن في جنازات الآخرين، لأنني كنت أعرف أنه في يوم من الأيام ستُقام لي جنازة أيضًا، الآن ليس هناك مفر، الموت هو موتي، والجسد هو جسدي".
وجاء في مقدمة الكتاب أنه "في مساء يوم الاثنين الأول من أكتوبر 1973، وقف جندي مصري على الجانب الغربي من قناة السويس، ونظر شرقًا، نحو الضفة المقابلة الخاضعة لسيطرة جيش الاحتلال، وكتب أنه ربما يخطط الإسرائيليون لنوع من الاحتيال على المصريين، وبعد أسبوع بالضبط كان ضمن القوات التي نجحت في عبور القناة، حيث وصلت كتيبته في وحدة المدفعية رقم 16، في القطاع الشرقي في اليوم الثالث، وأقامت بمنطقة "المزرعة الصينية"، وسجل الجندي المصري مذكراته الشخصية التي جاءت في 163 صفحة صغيرة من دفتر الملاحظات مكتوبة بكثافة، وفي ظروف ميدانية، وكتب كل يوم بمهارة لافتة".
وأوضح أنه "في نهاية القتال، تم دفع القوات المصرية إلى الضفة الغربية للقناة، وقد تركوا وراءهم دبابات محترقة، وآلاف الجنود لم يعودوا، ومع مرور الوقت تدحرجت هذه المذكرات إلى يد جندي احتياط إسرائيلي، الذي كتب بدوره مذكراته الحربية، وأخذ مذكرات الجندي المصري، واحتفظ بها في منزله بجانب دفاتره الخاصة، وبعد عشر سنوات من وجودها في تراب رمال سيناء، جلست أمام المذكرتين لساعات طويلة، قرأت عن أحلامهما ومخاوفهما، دون وجود وصف للمعارك والتحركات الحربية".
قراءة القرآن
وأشار إلى أنه "فور اندلاع الحرب أخذ سعيد قلم رصاص، وفتح مذكراته، وكتب أنه خلال دقيقتين ونصف بدأت طائرات سلاحنا الجوي بعبور القناة على ارتفاع منخفض للغاية، رأينا أعمدة من الدخان، وبعد لحظات قليلة بدأ قصف مدفعي ثقيل من قبل وحداتنا، ولم يمر سوى يوم ونصف، حتى تحركت الكتيبة شرقًا بمدافعها الثقيلة وتطهير القناة، وبدأوا بالتحرك بشكل أعمق في المنطقة، وعندما وصلوا نقطة تبعد سبعة كيلومترات عن خط المياه، قرر قادتهم التوقف، مع أن طريقهم كان سهلا، ولم يمنعهم شيء من الاستمرار إلى وجهتهم، ودأب سيد على حمل القرآن بيده، ويجلس يقرأه بعد كل صلاة".
وأكد أن "الجندي المصري ظهر بعكس الإسرائيليين، لم يتفاجأ عندما أعطيت الإشارة ببدء الحرب، فقد علم وأصدقاؤه بها قبل أسبوع، ومرّت أسابيع قليلة على كتابته هذه السطور، حتى عثر الجنود الإسرائيليون على مذكراته كاملة، ولم يكن سيد ينوي أن تقع مذكراته بأيديهم، بل كتبها لنفسه منذ أغسطس 1973، قبل شهرين من اندلاع الحرب، ولم يمض وقت طويل قبل أن تضيع المذكرات إلى الأبد، وشاء القدر أن تُنسى في الرمال".
ولفت إلى أن "المذكرات ظهرت في دفتر بغلاف بلاستيكي أزرق، وفي داخله صفحات مسطرة مليئة بالكتابة العربية الكثيفة، تصفحتها بسرعة بحثًا عن اسم المؤلف، ولم يوقع إلا باسمه الأول "سعيد"، بحثت مليّاً مراراً وتكراراً من الصفحة الأولى إلى الأخيرة، ولكن لم يكن لدينا سوى الاسم الأول للمؤلف، وقد وجدت أن الجزء الأول من اليوميات مقسم إلى فصول، كل فصل مخصص لأحد أعضاء الوحدة، أحد عشر اسمًا، ظهر كل منها باسمه الكامل وعنوانه، والمنطقة والمدينة وسنة الميلاد".
انتصار المعركة
وأكد أنه "في تلك اللحظات التي قلّبت فيها اليوميات لأول مرة، وقعت عيني على كلمات لافتة، ورسوم توضيحية، ورسم صورًا لأصدقائه في المناظر الطبيعية الصحراوية التي تحيط بالقاعدة العسكرية، ومع قراءة صفحة بعد صفحة تبين لي أن هذه ليست مجرد مذكرات حرب، بل عمل أدبي، أغلقت الدفتر، وقلت لنفسي إنها "ليست مذكرات عادية، بل إبداعًا خاصًا، وإن من كتبها ليس جنديًا فحسب، بل فنانًا أيضًا".
ومما ورد في المذكرات ما ذكره سعيد أن "حرب أكتوبر شهدت انتصارا لأننا أصبنا الإسرائيليين بجروح قاتلة، وحاصرناهم، وأوقعنا بهم الكثير من الخسائر، وحولنا الهزيمة المؤكدة إلى معركة احتواء يعقبها القضاء على العدو من أراضي سيناء، ولذلك، تمكنا من إدارة المفاوضات من موقع القوة، وليس الهزيمة، والنصر ليس ما تم تحقيقه في ساحة المعركة، أو محادثات وقف إطلاق النار التي بدأت بعد الحرب، بل تحقق انتصارهم بعد خمس سنوات ونصف، حين عادت أرض سيناء لأيديهم بفضل مجهودهم العسكري، موضحا أن السلام الذي تحقق في كامب ديفيد في السياق الإسرائيلي هو حلّ القضية الفلسطينية".
أمر لافت تحدث به المؤلف الإسرائيلي، أنه "حين وقعت يده على مذكرات الجندي المصري اتصل بأحد معارفه في السفارة المصرية في تل أبيب، وسلّمه رزمة الأوراق التي لم يطالب بها أحد، وقد اعتقدت أنه سيعود بعد فترة من الزمن ويبلغه بالعثور على صاحبها.
ولعلها المرة الأولى التي تنشر فيها المكتبة الإسرائيلية كتابا يتحدث عن يوميات الحرب من وجهة نظر مصرية، رغم أنه قبل أربعة أشهر أطلق الاحتلال أرشيفاً لأكبر وأشمل موقع إلكتروني حولها، يحتوي على عشرات آلاف الوثائق والصور ومقاطع الفيديو وتسجيلات وشهادات، بما فيها 15301 صورة، 6085 وثيقة ، 215 فيلماً، 40 تسجيلاً صوتياً، 169 خريطة، ومحاضر اجتماعات حربية، ومعطيات لجان التحقيق لنتائج الحرب، ونماذج للعمليات العسكرية، كما أزيح النقاب للمرة الأولى عن بروتوكولات اجتماعات عقدتها رئيسة الحكومة مع كبار مساعديها، وتحقيقات عسكرية أجراها قادة الجيش، بجانب تقارير بخطّ اليد حول مجرى الحرب.
الأرشيف الإسرائيلي كشف بعض الأسرار والمعلومات التي تذكر للمرة الأولى، وقد اكتسب موقع الأرشيف الجديد أهميته، وحظي بمتابعة إسرائيلية وإقليمية ودولية واسعة، لكشفه تفاصيل جديدة تجد طريقها للنشر لأول مرة عن الحرب، لاسيما فيما يتعلق بسير المعارك القتالية، والإخفاقات التي مني بها الجيش الإسرائيلي، والفشل الاستخباري الذي سبقها ورافقها، ما أسفر في النهاية عن خسارته للحرب أمام مصر وسوريا بعد ست سنوات على النكسة التي ألمّت بهما في حرب تموز/ يونيو 1967 التي لم تزد عن ستة أيام، واحتلت فيها إسرائيل المزيد من الأراضي الفلسطينية والعربية في سيناء المصرية والجولان السورية.