منعاً لأي التباس، أقول في السطر الأول، وفي الفقرة الأولى من مقدمة هذا المقال، أنني على قناعة تامة، بأن المملكة العربية
السعودية، لن تقدم على أي خطوة سياسية تتناقض مع «مبادرة السلام العربية» أو خارج إطارها المعروف والمعلَن في بيان القمة العربية التي عقدت في بيروت سنة 2002.
قبل الشروع في شرح أسباب ترسّخ هذه القناعة لَدي، لا بدّ من استعراض جذور ومنابع هذه «المبادرة» بل، وقبل الشروع في ذلك، أرى فائدة، وضرورة، تسجيل ملاحظة أنها في حقيقتها، وفعلاً، ليست «ردّ فعل» لمبادرة من عدو أو حليف أو صديق، وإنما هي «مبادرة» وفِعل، تركَت، وتترك لكل الآخرين، دور ممارسة ردّ الفِعل.
ـ إثر اغتيال الملك فيصل بن عبد العزيز آل سعود، (ربما انتقاماً لدوره الإيجابي الحاسم، وفي نتائج حرب العاشر من رمضان، السادس من أكتوبر/تشرين الأول 1973، أي قبل خمسين سنة، بالتّمام والكَمال) تمّت مبايعة وليّ عهده، خالد بن عبد العزيز، ملكاً للمملكة العربية السعودية، ومبايعة الأمير فهد بن عبد العزيز وليّاً للعهد. وبهذه الصّفة، ترأّس الأمير فهد وفد المملكة العربية السعودية إلى أقصر مؤتمر قمّة عربية، عُقد في مدينة فاس في المغرب، واستمر خمس ساعات فقط. في قمّة هذه الساعات الخمس، بادر الأمير فهد إلى تقديم «خطة سياسية سعودية» تضمّنت شروط التوصّل إلى حلّ للقضية الفلسطينية، ووضع نهاية لما تمّ اعتباره «الصّراع العربي الصهيوني» و«الصّراع الفلسطيني الإسرائيلي» ليكون بديلاً عن السياسة الإسرائيلية والأمريكية التي اعتمدت مبدأ التسويف ومواصلة التآمر، واعتماد سياسة «إدارة الصراع» وليس حلّه.
ـ لم يكُن اعتراض الرئيس السوري، حافظ الأسد، مفاجئا على «المبادرة السعودية». وتناقلت وكالات أخبار كثيرة في حينها، رواياتٍ وأخباراً تحدّثت عن ضغوط من الاتحاد السوفياتي، للتّصدي ولإفشال المبادرة السّعودية. وهكذا انتهت «قمة السّاعات الخمس» بقرار «تعليق» اجتماعات قمّة فاس، والدّعوة إلى قمّة عربية استثنائية لاحقة، في فاس، لم يُحدّد موعدها.
ـ لم يكن أبوعمّار، يملك في تلك المرحلة، طائرة خاصة تنقله، ومن معه، إلى حيث يشاء، والى حيث يمكن أيضاً. وفي هذه الأثناء، اقترح الوفد الليبي على أبو عمّار أن يستقل الطائرة الخاصة بهم إلى طرابلس، وأن يستقلّها بعد ذلك إلى حيث يشاء.
ـ قبِل أبو عمّار العرض شاكراً، وكان لي شرف مرافقته في ذلك المؤتمر وتلك الرحلة. وفي ساعة متأخرة من الليل، أثناء رحلتنا من فاس إلى العاصمة الليبية، طرابلس، قال لي أبو عمّار، بصوتٍ خفيض، كي لا يسمعه أيّ من أعضاء الوفد الليبي: «هذا ليس مؤتمر فاس.. هذا مؤتمر فؤوس على رأسنا». كان حزيناً ومتجهّماً.
ـ حين وصلنا طرابلس، فوجئنا بوزير الدفاع الليبي في استقبال أبو عمار، وفوجئنا أكثر بإبلاغ أبو عمّار أن «الأخ القائد معمّر القذافي» يرغب بلقاء أبو عمّار، وأنه بانتظاره في مدينة سِرت الليبية.
انتقل أبو عمّار، بطبيعة الحال، وبنفس الطائرة، ونحن معه، إلى سِرت، وكانت تلك «ليلة بيضاء» حيث استمر الحديث مع القذّافي حتى طلوع الصّبح، وفوجئت أنا عندما قال أبو عمّار للقذّافي: «هذه قمّة فؤوس على رأسنا». لكن القذّافي وعد أن الثورة الفلسطينية ليست وحدها، وأن ليبيا ستكون معها وتدعمها بكل الوسائل.
ـ لم تكن تخوّفات أبو عمار بعيدة عن واقعٍ متوقّع. إذ نحو بعد سبعة أشهر فقط، وفي الأسبوع الأول من حزيران/يونيو 1982، شنّ جيش
الاحتلال والاستعمار الإسرائيلي، «معركة سلامة الجليل» حيث اجتاح جنوب لبنان، وحاصر العاصمة اللبنانية، بيروت، وكان الصّمود الأسطوري لقوات الثورة الفلسطينية والمقاومة الوطنية اللبنانية، والذي استمر ثلاثة أشهر في وجه الأقوى بين جيوش المنطقة، وانتهى إلى خروج أبو عمّار وقوات الثورة الفلسطينية من بيروت.
ـ في كل أشهر الصمود الفلسطيني لم يصل إلى قوات الثورة الفلسطينية، و«عمودها الفقري» حركة فتح، أي دعم أو سلاح ليبي، وإن وصلتنا أخبار عن صواريخ ليبية مداها أكثر قليلاً من خمسين كيلومتراً، تم تسليمها لـ«الجبهة الشعبية ـ القيادة العامة» بقيادة أحمد جبريل، ولم يتم إطلاق أيٍّ منها طوال فترة القتال.
ـ فور خروج أبو عمار من بيروت إلى اليونان، بيخت يوناني، واصل أبو عمّار رحلته إلى فاس، حيث عقد «مؤتمر القمة العربية الاستثنائي» يوم 6.9.1982، وحضرته جميع الدول العربية، باستثناء مصر، (بطبيعة الحال) وليبيا معمر القذافي، وخرج لاستقبال أبو عمّار جميع رؤساء الوفود العربية، باستثناء الرئيس السوري، حافظ الأسد.
ـ صدر عن تلك القمة العربية الاستثنائية، بيان كانت ديباجته: «اعتماداً على مشروع فخامة الرئيس الحبيب بورقيبة الذي يعتمد الشرعية الدولية أساساً لحل القضية الفلسطينية، وعلى مشروع جلالة الملك فهد بن عبد العزيز حول السلام في الشرق الأوسط،
وفي ضوء المناقشات والملاحظات التي أبداها أصحاب الجلالة والفخامة والسمو الملوك والرؤساء والأمراء،
فقد قرر المؤتمر اعتماد المبادئ التالية:
ـ كانت تلك ثمانية مبادئ، تحدّثت عن انسحاب إسرائيل من جميع الأراضي العربية المحتلة، بما في ذلك القدس الشرقية، وإزالة المستعمرات، ووضع الأراضي الفلسطينية (الضفة، والقدس الشرقية منها، وقطاع غزة، لمدة أشهر معدودة فقط تحت رعاية الأمم المتحدة) ثم إقامة دولة فلسطينية مستقلة، وعاصمتها القدس الشرقية. لكن البند السابع في ذلك البيان كان: «يضع مجلس الأمن الدولي ضمانات السلام بين جميع دول المنطقة، بما فيها الدولة الفلسطينية المستقلة» وهذا ما جعل البعض يعترضون عليه ويرفضونه، من المنظمات والفصائل الفلسطينية، بمن في ذلك قياديون في حركة فتح، كان أبرزهم فاروق قدّومي، أبو اللطف، عضو اللجنة المركزية لفتح، ورئيس الدائرة السياسية في منظمة التحرير الفلسطينية.
ـ بعد ذلك هذا «جاءت مبادرة السلام العربية» بقرار من القمة العربية التي عقدت في بيروت، في آذار/مارس 2002، بعد وأثناء اقتحام جيش الاحتلال والاستعمار الإسرائيلي لمدن وقرى الضفة الفلسطينية، وحصار أبو عمّار في مقر الرئاسة في رام الله.
هذا هو تاريخ «مبادرة السلام العربية» السّعودية المنشأ والرعاية والإنجاز.
من هذا التاريخ إلى واقع هذه الأيام:
ـ لم يكن للمملكة العربية السعودية، حتى في أيام استنكافها عن لعب دور فاعل في الساحات العربية والإقليمية والدولية، أي مصلحة في التخلي عن مبادرة هي صاحبتها.
ـ يعرف الأمير محمد بن سلمان أن السعودية في مرحلة صعود.
ـ يعرف الأمير محمد بن سلمان أن السعودية، وبفضل مبادرات متواصلة منه شخصياً، أصبحت لاعباً مؤثراً يملك وزناً بالغ الأهمية على الصعيد العربي والإقليمي والدولي، في «نادي دول النظام الدولي الجديد الصاعد».
ـ يعرف الأمير محمد بن سلمان أن إسرائيل في مرحلة هبوط.
يعرف الأمير محمد بن سلمان أن إسرائيل عضو في «نادي دول النظام الدولي المتهاوي قيد الاندثار» لمصلحة نظام عالمي قيد التّشكّل، وأن للمملكة العربية السعودية فيه وزنا ودورا.
هذه أسباب تجعلني على يقين أن كل ما تقوله إسرائيل ورئيس حكومتها، ليس أكثر من تمنيات، لن تتحقق، ما لم يَنَل الشعب الفلسطيني حقوقه المشروعة.
القدس العربي اللندنية