كانت الأنظمة العربية تدوس على شعوبها
بذريعة الانشغال في معركة تحرير
فلسطين، وتسرق أموال هذه الشعوب بذريعة تسخير
الموارد للحرب على إسرائيل، ومنذ بدايات القرن الماضي وحتى هذه الأيام، تعتقد شعوب
عربية انه لولا التضحية لأجل فلسطين لكانت أحوالها أحسن.
خطر على بالي هذا الكلام وأنا اقرأ التقارير عن اقتحام
القوات الإسرائيلية لمصلى باب الرحمة في الحرم القدسي، بأحذيتهم، وإهانة المصلين،
وتفتيش المصلى، هذا في توقيت متزامن مع معلومات متسربة مثلا، عن مخطط لتقسيم سورية
إلى ستة دول عرقية وطائفية ومذهبية، ومخطط آخر لإقامة دولة درزية في سورية، وما يجري
مثلا من مذابح وصراعات في السودان توطئة لتقسيم هذا البلد نهاية المطاف، وصولا إلى
بقية أغلب الدول العربية، حيث التفقير والتجهيل والفساد وسرقة حقوق الشعوب،
والتنكيل والقمع، وهكذا تضيع القضية الأولى أي فلسطين، مقابل شعوب منهكة ومرهقة،
يتم إرهاقها اليوم بحروب مستجدة استكمالا لاستنزاف الأنظمة لها باسم فلسطين ومعركة
التحرير.
الرابط هنا بين الجهتين غريب، ويمر اليوم خبر اقتحام الأقصى،
أو أي مصلى بشكل باهت وعادي، والذين تناسوا الأقصى وما قاموا باسترداد فلسطين، يا
ليتهم عاشوا على الأقل في بلادهم بشكل جيد، ولو نسوا فلسطين وقضية الأقصى مثلا،
مقابل تحقيق ازدهار أو تفوق أو رفاه في دول كثيرة، لفهمنا الأمر وتقبلناه، لكن
يثبت اليوم أن دفع قضية فلسطين إلى الوراء، وانهاك شعوب المنطقة بوسائل مختلفة،
يصب كله لصالح المشروع الإسرائيلي، بأدوات محلية، من أجل أن تبقى إسرائيل هي الأقوى،
ومن خلال توليد الخراب في كل المنطقة، ولقد كانت فلسطين أول ضربة في كل بنية هذه
المنطقة، وجرت خلفها ما جرت على الجميع.
الذي يقرأ تقارير التنمية الإقليمية والدولية يشعر بهلع
أمام ما يجري في العالم العربي، فالأمية مرتفعة، والفقر منتشر، والجهل لا يغيب، والصراع
الطبقي في أعلى درجاته، وفرص التنمية تكاد تكون منعدمة، فتسأل نفسك عن كثير من هذه
الأنظمة فلا هي حاربت لأجل فلسطين، ولا هي صرفت أموالها لأجل فلسطين، ولا هي ركزت
على شعوبها، وطورت من شخصيتهم الاجتماعية، والتعليمية، ولا فعلت شيئا سوى التنكيل
بكل سوار فلسطين التاريخي والممتد.
فلسطين هنا لا يمكن لها أن تعود دون "خزان الدم"
الذي حولها وحواليها، في هذه المنطقة الممتدة، ومن الوهم هنا تصغير فلسطين على
مقاسات من ينتزعون تمثيلها اليوم، فقط، أو من يظنون أن الحل سيأتي من داخل فلسطين،
خصوصا، أن من انتزعوا تمثيلها وبيننا وبين ذكرى اتفاقية أوسلو المنكرة ثلاثة أيام
فقط، يستحقون اليوم محاكمة سياسية عما اقترفوه حين اصروا انهم الممثل الشرعي
والوحيد للشعب الفلسطيني، وحين منحوا إسرائيل شرعية الوجود وثلاثة أرباع
فلسطين-حتى الآن-، وحين فرطوا بحقوق كثيرة، ولم يخرجوا بربع دولة، بل باتت فعلتهم
وصمة عار يتم رميها في وجه الفلسطيني إذا عاتب عربياً صالحت دولته إسرائيل بقوله
انتم أصحاب القضية صالحتم إسرائيل، فلماذا تسجلون اللوم والعتب على سجلات تاريخنا
ووجودنا، برغم أن الفعلة هي فعلتكم، قبل أي أحد آخر.
اقرأ تقارير عن تاريخ مصلى باب الرحمة البالغ من العمر
1300 عام وكيف جاءت هبة الرحمة لتفتحه بالقوة عكس ما تريده إسرائيل ويسترد روح
الصلاة فيه وهو المستهدف إسرائيليا، لاعتبارات دينية، وبحاجة إلى ترميم تمنعه
إسرائيل، فأشعر بالأسى أمام أمة لم يعد يعنيها شيء، فهي إما مشغولة بفقرها برغم
غنى أرضها، أو مشغولة بحروب الدم والفتن الأهلية، أو بما يأتي به الرفاه الفائض عن
الحاجة من إهمال لكل ما يجري في الجوار.
نعبر توقيتا مؤلما، وأظنه أقسى التواقيت في حياة هذه
الأجيال، وربما من نصيب أعمارنا أن نرى أسوأ من ذاك الذي عاشه الآباء والأجداد،
ولا أحد يعرف ما الذي ستأتي به الأيام، حتى تصير أمنيتك أن لا ترحل من شدة الأسى،
وهي الفاعل الخفي، وراء كل نوبة قلبية في هذا الزمن الصعب أيها القوم، حتى لو
تجاهل الأطباء خطورة الأسى مقارنة بقصص الشرايين.
فلسطين بركة لمن لا يتخلى عنها، ولعنة على من يخذلها،
والأقصى أمانة في أعناق ملياري عربي ومسلم، حتى لو تجاهلوا ذلك لسبب أو آخر، فهذا
تجاهل مدفوع الثمن.
(الغد الأردنية)