لا تزال العقلية التي أوقعت الثورة العربية مطلع القرن العشرين في خديعة استراتيجية كبرى، هي العقلية السائدة والمسيطرة على العقل العربي عموماً.
بعض الدول العربية التي لم تخُض حروباً تحرُّرية، تجهل حقيقة الوسائل والأهداف الاستعمارية التي تتبدّل كما تبدّل الحرباء لونها، والتكيُّف مع البيئة التي توجد فيها.
فقط الشعوب التي عانت طويلاً تحت نير الاستعمار لفترات طويلة وخاضت ضدّه حروباً، ودفعت دماءً غزيرة ودموعاً وآلاماً هي التي تعرف حقيقة الأهداف البشعة والأنانية التي تقف خلف سياسات الاستعمار القديم والجديد.
من يُرِد معرفة حقيقة وبشاعة الاستعمار، الذي بنى إمبراطورياته وقوّته، على دماء وثروات الشعوب، عليه أن يسأل من خاضوا هذه التجربة.
فليسأل هؤلاء الشعب الفيتنامي أو الجزائري، أو الكوبي، وإن كانوا لا يرغبون في النبش في دفاتر التاريخ فليسألوا الشعب
الفلسطيني الذي يخوض كفاحاً عنيداً ويدفع أثماناً باهظة منذ أكثر من مئة عام وحتى اللحظة.
ثمة أُمّة عربية، وفق أبسط المعايير وأعقدها، والشعب الفلسطيني ظلّ متمسكاً بانتمائه لأُمّته، بالرغم من كل ما تسبّبت وتتسبّب به الأنظمة العربية التي تظنّ أنّها مستقلّة وصاحبة قرارات سيادية فيما هي تخضع لسيطرة وهيمنة وإدارة الاستعمار.
في زمنٍ كهذا من غير المستغرب أن يخرج علينا بعض الأصوات التي يتزايد زعيقها لتبرئة السياسات القطرية من خلال شيطنة فلسطين والفلسطينيين.
نموذجٌ جديدٌ قديم يظهر اسمه «الجار الله»، وهو كاتب وصحافي كويتي يكتب مقالاً مليئاً بالافتراءات والأكاذيب على الشعب الفلسطيني وقيادته، ويستحضر اتهامات وروايات من وحي عقليته المريضة تقدم الشعب الفلسطيني وقياداته وثورته، على أنّه ناكرٌ للجميل ومتآمرٌ على من يقدّمون له المساعدة، مقالته بعنوان «اعقل وتوكّل» الموجّهة لوليّ العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، لم تمرّ فيه جملة واحدة لا تنطوي على اتهام للفلسطينيين، فيما تخلو مقالته كلّها من أيّ اتهام أو توصيف أو موقف من إسرائيل، أو الولايات المتحدة الأميركية، أو غيرها من الدول الاستعمارية الداعمة للكيان الصهيوني.
فضائح إسرائيل الاحتلالية العنصرية الفاشية ملأت الدنيا حتى داخل الكيان، لكن «الجار الله»، المعروف بأنّ رصيده القومي والوطني دون الصفر لا يرى أيّاً من هذه الفضائح.
كان حريّاً بكاتبٍ يحترم نفسه إن كان صاحب رأيٍ ونصيحة يُسديها، أن يشير إلى أنّ السعي خلف «
التطبيع» مع إسرائيل، يعود بالأساس إلى رؤية تخدم المملكة العربية
السعودية حتى لو كانت لا تخدم الفلسطينيين أو العرب، ولكنها عملية تتمّ مع دولة احتلال، وأطماع توسّعية، ودولة معادية للعرب والمسلمين، دولة عنصرية فاشية وإرهابية، ذلك أن السلام لا يتمّ بين دول صديقة.
يقع العرب مرّة تلو الأخرى، في شباك الخداع الصهيوني الأميركي الذي يقدم لهم وجبات مسمومة، يعتقدون أنّها ستملأ بطونهم دون أن يدركوا أنّهم يتناولون سموماً قاتلة في نهاية الأمر.
سيظلّ بعض العرب، يُطلقون صيحة «أُكِلتُ يوم أُكِلَ الثور الأبيض»، ولكن بعد فوات الأوان.
العرب يعلنون توالياً التخلّي عن الشعب الفلسطيني وقضيّته، بعضهم بلا مبالاة، وبعضهم الآخر يتغطّى بوعود فارغة، وأموال، لا تساوي ثمن طفلٍ يُستشهد على أيدي المستوطنين أو الجيش الإسرائيلي.
السّاحة السياسية مفتوحة على فراغ، فلا مبادرة عربية للسلام، ولا أيّ مبادرة، لا عربية ولا دولية، فلقد سقطت كلّ المبادرات وكلّ الاتفاقيات وكلّ المواثيق والقرارات، التي تتعلّق بالقضية الفلسطينية.
لا يجوز في هذه الحالة أن يمنح الفلسطيني غطاءً أو موافقةً على أيّ عملية «تطبيع»، وقعت سابقاً، أو يمكن أن تقع في قادم الأشهر أو الأيّام.
إنّ في ذلك ظلماً شديداً للنفس وللشعب وللقضية، خاصّة أنّ الفلسطينيين أصحاب التجربة الطويلة مع الاحتلال وأربابه، قد أدركوا منذ زمنٍ وبالتجربة الملموسة أنّ لا الولايات المتحدة ولا إسرائيل، أيّاً كان على رأسهما قد التزمتا يوماً بما تعهّدتا به أو وقّعتا عليه.
إسرائيل مستمرّة في التمسُّك بـ «سلامها الاقتصادي»، ومتمسّكة بأهدافها لحسم الصراع وفق روايتها، وأنّها تأخذ باليد اليسرى ما تقدّمه اليمنى في أيّ وقتٍ تشاء، ولا رقيبَ ولا حسيب.
الشعب الفلسطيني اليوم، ليس هو قبل ثمانين سنة، وهو وإن كان لا يخرج من جلدته العربية، ويُراهن على شعوبها، فإنّه اليوم ملك نفسه، حاضر بوجوده وهويّته، ونضاله وأهدافه.
نعم القضية الفلسطينية عادت إلى أهلها منذ أن انطلقت الثورة الفلسطينية المعاصرة، وقد نضج أهلها، ولا بأس إن كانوا في مقدّمة الصفوف وحدهم دون أحد خلفهم.
الشعب الفلسطيني الذي يوجد على أرضه صامداً، قادر على المواجهة ومستعدّ لدفع الثمن، وهو يتصلّب عوده، ويصرّ على مقاومته لتحقيق أهدافه، كلما تعرّض إلى خذلانٍ من الأشقّاء والأصدقاء.
لن تفلح كلّ «المصالحات» العربية الإسرائيلية حتى لو انهارت أنظمة أخرى عربية أو إسلامية أمام الضغوط الأميركية، والإغراءات الأنانية القطرية، لن تفلح كلّ هذه في أن تفتّ في عضد الفلسطيني.
قد لا يستطيع الفلسطينيون أن يمنعوا انهيار بعض السدود العربية ولكن نتمنّى ألا يقع العرب الرسميُّون في فخّ مصادقة العدو، ومعاداة الصديق والشقيق.
في هذا الزمان لا يريد الشعب الفلسطيني منهم شيئاً، فالفلسطيني يتكفّل بأعبائه وقضيّته ولكن عليهم أن يتذكّروا أنّ الزمان يتغيّر، وأن أعتى الإمبراطوريات قد انهارت ولو بعد مئات السنين، أمّا الشعوب فهي الباقية.
(الأيام الفلسطينية)