لم ينقضِ شهر على كارثة السيول في
درنة ومدن وقرى شرق
ليبيا حتى أخذ التركيز عليها يتراجع رويدا، وعندما تطفو على السطح قضايا أخرى تشغل
المسؤولين ويتجه الإعلام إلى تغطيتها سينتقل ملف درنة وأخواتها إلى ذيل قائمة الأخبار
اليومية، ثم يتحول خبرا أسبوعيا عبر حدث يثيره المتضررون تعبيرا عن سخطهم ومعاناتهم
التي لن تنتهي.
الإنسان بطبعه يألف، والكوارث والفواجع التي تهد الجبال
حين وقوعها تصبح مع مرور الوقت شيئا مألوفا يتعاطى معه الناس ببرود، وهنا يصح
المثل القائل "ما يحس بالنار إلا اللي واقع فيها". لكن الوضع بالنسبة
للمسؤولين ينبغي أن يكون مختلفا، ذلك أن عملهم ومهامهم هي إنهاء معاناة المتضررين
وحل مشاكل المنكوبين مهما بلغ حجمها وتعقيدها، أو عليهم أن يستقيلوا ويتركوا
المكان لمن يستطيع أن يتحمل المسؤولية.
التداعيات التي نجمت عن السيول كبيرة، ويمكن القول إن
هناك ثلاث ملفات تفرض نفسها على أصحاب القرار هي:
السلطات المحلية والمركزية يمكن القول إنها تخفق في معالجة الملفات الثلاث، فالهوة بين الأعداد المعلن عنها رسميا من الضحايا وبين من تفتقدهم مدينة درنة كبير، قد يصل إلى عشرة آلاف مفقود، ومسار عملية البحث وانتشال الجثث لا يسعف في جسر هذه الهوة والوصول إلى رقم قريب من العدد الفعلي لضحايا السيول
- المفقودون.
- إيواء النازحين وتوفير الاحتياجات الأساسية للمتضررين.
- إعادة
الإعمار، أو إصلاح ما دمره الإعصار والسيول.
وبالنظر إلى أداء السلطات المحلية والمركزية يمكن القول
إنها تخفق في معالجة الملفات الثلاث، فالهوة بين الأعداد المعلن عنها رسميا من
الضحايا وبين من تفتقدهم مدينة درنة كبير، قد يصل إلى عشرة آلاف مفقود، ومسار
عملية البحث وانتشال الجثث لا يسعف في جسر هذه الهوة والوصول إلى رقم قريب من العدد
الفعلي لضحايا السيول.
وكذا الحال بالنسبة إلى ملف توفير احتياجات المتضررين
خاصة النازحين منهم والذين يبلغ عددهم أكثر من 40 ألفا، إذ ما تزال الجهود دون المستوى
بكثير، ويبدو أن معاناة النازحين ومن يفتقرون للاحتياجات الأساسية ستطول.
التحدي الأكبر هو ما يطلق عليه مجازا "إعادة
إعمار" المناطق المتضررة، والتي تأتي في مقدمتها درنة، فالكارثة خلفت دمارا
هائلا في المباني العامة والخاصة والطرق والجسور والسدود، كما أن السيول كشفت عن نقاط
ضعف واختلالات كبيرة ينبغي تلافيها عند إعادة إصلاح ما خلّفته.
يتخوف المنكوبون والمتضررون أن يواجهوا الإهمال الذي
واجهه المتضررون من الحروب التي وقعت في مناطق عدة منذ العام 2011م، حتى إذا
تجاوزت المدينة الإهمال وظلت أولوية بالنسبة لمتخذي القرار فإنها يمكن أن تقع في
مصيدة التجاذب السياسي أو الأعمال السريعة التي لا تفي بالغرض.
أعتقد أن الإعمار أكبر من قدرات السلطات الحالية، فهو
مفهوم واسع يتعدى أعمال البناء والتشييد إلى التطوير الاقتصادي والاجتماعي وحتى
الثقافي، ويتطلب استقرارا سياسيا وإداريا وموارد كافية واستراتيجية مكافئة ومؤسسات
فاعلة، وجميعها مفقود في الظروف التي تعيشها البلاد اليوم.
من المتوقع أن يرتهن ملف إعادة تأهيل درنة إلى الوضع السياسي، وستطول المعاناة إذا طال النزاع، ذلك أن الفرقاء الليبيين لم ولن يفلحوا في تحييد القضايا الاقتصادية والاجتماعية والإنسانية عن نزاعاتهم، بل يجعلونها ضمن دائرتها وساحاتها
المؤشرات الأولية تدلل على أن الحكومة الليبية المعينة
من البرلمان، برئاسة أسامة حماد، تريد الهيمنة على ملف "إعادة الإعمار"،
وسارعت إلى الدعوة لمؤتمر دولي بهذا الخصوص، وإذا أصرت على المضيّ في هذه الخطوة
منفردة فإنها قد تواجه صدودا وتفاعلا محدودا كونها لا تحظى بالاعتراف الدولي.
وسيكون الخيار أمام هذه الحكومة الاعتماد على الشركات
المصرية لتنفيذ مبانٍ سكنية ومنشآت خدمية من مدارس ومرافق صحية وغيرها، على أمل أن
يوفر لها المصرف المركزي التمويل اللازم، إلا أنها ستكون أعمالا محدودة، كما أنها
يمكن أن تواجه تحديات تتعلق بالوضع السياسي منها احتمال الاتفاق على تغيير حكومي،
أو تطور النزاع بشكل يحرمها من التمويل اللازم.
لذا فمن المتوقع أن يرتهن ملف إعادة تأهيل درنة إلى
الوضع السياسي، وستطول المعاناة إذا طال النزاع، ذلك أن الفرقاء الليبيين لم ولن
يفلحوا في تحييد القضايا الاقتصادية والاجتماعية والإنسانية عن نزاعاتهم، بل
يجعلونها ضمن دائرتها وساحاتها.
المَخرَج يبدأ من جهود منظمة وقوية من داخل المدينة؛
يتوفر فيها الإجماع المحلي حول جسم درناوي واحد تنشط فيه كافة كفاءات ونشطاء
المدينة، ليشكل قوة ضغط تحرك المسؤولين صوب الاحتياجات المطلوبة، ويكون له دور في
تقدير وتحديد تلك الاحتياجات، والمشاركة في وضع استراتيجدية إعادة تأهيل المدينة
بنيويا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا والمساهمة في الإشراف على تنفيذها.