نشرت صحيفة "الغارديان" مقالا لكاتب العمود
فيها أديتا تشكربورتي، قال فيه إن الآلاف الذين يتظاهرون داعين لوقف إطلاق النار في
غزة والسلام يستحقون أفضل من الانتهاكات بحقهم والتقليل من قيمتهم.
وبدأ مقالته بالتذكير بأكبر تظاهرة شهدتها لندن
احتجاجا على خطط حرب العراق في 2003، حيث كان موقف الإعلام منها كما هو موقفه من
التظاهرات المنددة بالحرب في غزة والمؤكدة على ضرورة وقف إطلاق النار. وتحدث عن
موقف الإعلام من التظاهرة المليونية تلك، فقد قال ويليام ريز- موغ في صحيفة
"التايمز" إن المشاركين فيها كانوا يرتدون ملابس وشعارات وكأنهم في
مباراة كرة قدم، ومهما كان حضورهم ونيتهم فهم "يحافظون على غرف التعذيب في
بغداد"، وهم "الحمقى المفيدون لصدام" حسين. لكن المتظاهرين كانوا
بريطانيين مثل محرر "التايمز"، لكن هذا ليس مهما، فالبلد كان في حالة
حرب، "معنا أو ضدنا"، ومن اعترضوا وطلبوا مزيدا من الأدلة نُظر إليهم
كخونة.
ووافق الصحافيون على أن التظاهرة حينها كانت الأكبر،
إلا أن تجار النسخ قدموا تعميمات أكبر عنها، فالكاتب في صحيفة "ذي صن"
ريتشارد ليتلجون نفث غضبه على المتظاهرين بأنهم "لا يزالون عالقين في زمن
اتحادات الطلاب". وقالت باربرة إيميل من "تلغراف" إن "الهدف
الحقيقي من التظاهرة هو
إسرائيل وأمريكا وحرية التعبير"، وحذرت
"التايمز" من وجود العديد من الناشطين المسلمين والأعضاء السابقين في
حركة الحد من الأسلحة النووية والمعادين للعولمة ويمكن أن تقدم التظاهرة ستارا
للإرهابيين.
وبعد عقدين لا يزال العراق قائما كدليل عملاق على فشل
صنعته النخبة، وثبتت صحة الناشطين المسلمين والمحرضين اليساريين ودعاة الحد من
الأسلحة النووية، مهما وصفتهم تلغراف في افتتاحية لها بالقذرين، فيما ثبت خطأ
منافسيهم الذين يحصلون على رواتب عالية.
ومع تقدم العالم نحو حرب واسعة في غزة، فإن السلطة
الرابعة لم تتعلم من أخطائها ولم تنس شيئا، بعبارة تشارلس تاليران القديمة عن
العائلة الفرنسية الحاكمة. ففي هذا الأسبوع وضعت صحيفة "تلغراف" صورة
الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غويتريش على الصفحة الأولى وبتعليق "دفاع
عن حماس"، واعتبرت "ديلي ميل" ما قاله في مجلس الأمن
"هجوما" على إسرائيل، مع أنه بدأ خطابه بشجب لا لبس فيه لهجمات حماس في
7 تشرين الأول/ أكتوبر، ولكنه ألمح إلى أن الهجمات لم تحدث من فراغ، في إشارة إلى الاحتلال
الطويل والحصار. وقبل ذلك وصفت صحيفة "آي" مسيرة في لندن ضد الحرب في
غزة على أنها "مناصرة نشطة لمنظمة مصنفة"، وبعد شجب للصحيفة خففت من
نبرتها.
وعندما هتف أحد المشاركين في مسيرة منفصلة لحزب
التحرير كلمة "جهاد" قفزت وزيرة الداخلية سويلا بريفرمان واعتبرتها خطاب
كراهية، وهو مجال متخصصة فيه الوزيرة وأطلقت الكثير منه. وعلقت "تلغراف"
على المسيرة هذه بأنها مجموعة من المتطرفين "المستوردين" الذين يختبئون
في "لندستان" من أجل "التآمر على تدمير
بريطانيا".
وعليه، فالإعلام والنخبة السياسية في بريطانيا تستعد للإثارة
غير المباشرة للحرب، فقد قال رئيس الوزراء البريطاني في لقائه مع رئيس الوزراء
الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بتل أبيب "نريدكم أن تنتصروا".
وأمر كهذا يحدث في أوروبا، فقد حاولت فرنسا منع
التظاهرات المؤيدة للفلسطينيين، وفي ألمانيا دعا زعيم حزب الاتحاد الديمقراطي
المسيحي، حزب أنجيلا ميركل وهولمت كول، كل المهاجرين للتعهد بدعم أمن إسرائيل.
وينبغي لأي شخص في بريطانيا ليس مستعدا للانضمام إلى جوقة المصفقين أن يجهز نفسه
للتشكيك بدوافعه، فلا يهم أن أكثر من 6500
فلسطيني قتلوا خلال الأسابيع الثلاثة
الماضية وانضموا إلى 1400 قتلتهم حماس، ولا يهم أن هناك أطفالا قتلوا في تشرين
الأول/ أكتوبر الحالي وأكثر مما قتل كل الناس في هجمات 9/11، ولا يهم أن الحرب ليست هي الاسم الصحيح للنزاع بين دول أكثر عسكرة على وجه البسيطة- ولدى إسرائيل
دبابات أكثر من بريطانيا بعشرة أضعاف، وغزة والتي لا تملك طائرات ولا قبة حديدية
ولا حتى مالا، إنه سحق يومي.
ويقدر المنظمون لمسيرة فلسطين يوم السبت الماضي أن عدد
المشاركين فيها كان 350 ألف شخص وهو رقم بأربعة أضعاف ما يستوعبه استاد ويمبلي،
حيث مشوا تحت المطر وسط لندن. وفي أي تجمع بهذا الحجم يمكن حدوث بعض الأشياء
السيئة والشعارات السخيفة والمشاعر القاسية، وبعض الحمقى الذين يحاولون في زوايا
الشارع إعادة تمثيل مشاهد من فيلم "الأسود الأربعة"، لكن من الخطأ
التعامل مع هذه على أنها ممثل للحركة الجماهيرية.
ولو أردنا فهم الرأي العام، لنظرنا إلى استطلاعات
الرأي حيث يريد ثلاثة من كل أربعة بريطانيين وقفا فوريا لإطلاق النار، وهي غالبية
مطلقة لا يهتم أي من الحزبين بتمثيلها. ولا أي من الأولاد الجادين، أي النواب في
ويستمنستر يتحدث عن إعادة بناء البيوت والمدارس والمستشفيات التي سويت بالأرض وإلى
أين سيذهب الفلسطينيون الذين شردوا. ولكن لماذا يجب أن تفكر بهذه الأسئلة الصعبة
في وقت تستطيع فيه التبجح؟
وهذا يقودنا للسير كير ستارمر، زعيم حزب
العمال، محامي
حقوق الإنسان السابق الذي بدأ بدعم إسرائيل، حتى لو خرقت قانون حقوق الإنسان
الدولي. وفي الوقت الذي بدأ فيه حزبه الاحتجاج، رفض فريق ستارمر الأصوات المحتجة
بأنها مجموعة قليلة من المسلمين المتذمرين والساخطين بعد فترة جيرمي كوربين. ووصل الاحتجاج
إلى لوتن وبرمنجهام حيث تم فضح أسماء أعضاء المجالس المحلية الذين أذعنوا لقرار
الحزب بمنعهم من التظاهر دعما لفلسطين ونصيحة للناخب المحلي بعدم التصويت مرة أخرى
للعمال.
وفي الأسبوع الماضي، عقد قادة المجالس المحلية اجتماعا
افتراضيا مع قيادة العمال، حيث فهم الكاتب أن السخط الأعظم لم يأت من المدن الكبرى
بل من البلدات والمدن خارج لندن، بما فيها مناطق في "الجدار الأحمر"
وبقاعدة انتخابية مسلمة كبيرة. وردا على هذا زار ستارمر مسجدا في جنوب ويلز، حيث
كتب تغريدة يطالب فيها بالإفراج عن الرهائن لدى حماس، ثم أصدر المسجد بيانا وبّخ
فيه الزعيم ومواقفه من غزة.
وفي ليلة الأربعاء غيّر ستارمر موقفه للمرة الثالثة،
بعدما قال سابقا في مقابلة إذاعية إن إسرائيل لها الحق في قطع الماء والكهرباء
والطعام عن غزة، ثم رسالة لأعضاء المجالس المحلية عبر فيها لهم عن شعوره العميق
بمحنة الفلسطينيين، وطالب في المرة الثالثة بوقف إطلاق النار للأغراض الإنسانية،
وهو ما فعله زعيم
المحافظين ريشي سوناك قبله بساعات. ولا يعرف حزب العمال بمشاعر
القاعدة وما يريد أفرادها، تماما مثلما لم يحاول الإعلام فهم دوافع الذين يخرجون
للشوارع في لندن ومعظمهم من الشباب. ويحبذ المعلقون شيطنة الذين يحتجون على قتل
الفلسطينيين بدلا من البحث عن الدوافع التي تدفعهم. وهي نفس الاستراتيجية التي
استخدمت ضد من احتجوا على حرب العراق وتحمسوا لاستقلال أسكتلندا وأثناء التصويت لبريكسيت
أو أنصار جيرمي كوربين.. التجاهل والتنميط ثم الشيطنة.
لكن لو أرادت الديمقراطية الليبرالية البقاء على قيد
الحياة، فهي لا تستطيع تهميش من تعتقد أنهم يؤمنون بالآراء غير الصحيحة. وبدلا من
استبعاد الناخبين أو تقديم سياسة هوية رمزية، فيجب على السياسة الرسمية التواصل
معهم، وإلا فإن أمثال ستارمر وسوناك سيرفضون الأعداد المتزايدة من البريطانيين
باعتبارهم متطرفين، ثم إرسالهم لأقصى السياسة المتطرفة.