مع الإعلان عن الهدنة الإنسانية لأربعة
أيام، ثم تمديدها ليومين، فأكثر، اتجه كثيرون للتفاؤل "المشروع" بقرب
الوصول إلى إعلان وقف إطلاق النار. وذلك بسبب استمرار العوامل التي تضافرت لفرض
هدنة إنسانية كانت مرفوضة، من قِبَل قادة أمريكا وقادة الكيان الصهيوني، وهي فشل
جيش العدو، بتحقيق أيّ إنجاز عسكري مهم، في الحرب البريّة، مقابل انتصارات
للمقاومة من جهة، وتعاظم التظاهرات العالمية خاصة في أمريكا وأوروبا من جهة ثانية،
وقد أطاحت بسمعة كل من الكيان وأمريكا، بل الغرب كله، بسبب حرب الإبادة الإنسانية،
وجرائم الحرب بحق المدنيين وبيوتهم، وصولاً إلى تسوية أحياء بكاملها بالأرض في
قطاع
غزة.
فالمعادلة التي تحكم نتنياهو الآن هي
الرضوخ للضغط الأمريكي لقبول الهدنة بشروط المقاومة، وعدم القدرة على البقاء في
الحكم طويلاً، إذا فُرض عليه وقف إطلاق النار.
أما بايدن فيحكمه عدم القدرة على
الصمود طويلاً أمام
رأي عام ضاغط، بسبب دعمه لحرب الإبادة، مع فشل الجيش الصهيوني
في الحرب البريّة من جانب، كما عدم قدرته على ابتلاع انتصار المقاومة، وثباتها
بكامل سلاحها وقوّتها في قطاع غزة، بعد وقف إطلاق النار، من الجانب الآخر.
هذا ما يجعل الوصول لوقف إطلاق النار
متأرجحاً بين الخيارين، ما دام مرهوناً بعدم حسم الموقف الأمريكي، وفرضه على
نتنياهو "وحلفائه" بأن يوقف إطلاق النار، ومن ثم احتمال، أو ابتلاع
مرحلة يحيى السنوار، ومحمد الضيف، والمقاومة المنتصرة (عز الدين القسّام وسرايا
القدس وكل فصائل المقاومة) وغزة والضفة الغربية والقدس والقضية
الفلسطينية، ما بعد
وقف إطلاق النار.
البعض راح يتوقع أن قادة أمريكا والغرب
ودول العالم اقتنعوا، أو سيقتنعون، أن لا بدّ من حل القضية الفلسطينية، بإعطاء
الفلسطينيين شيئا، مثلاً "دويلة". وهذا البعض أغفل أن القضية لا تحلّ
بإعطاء شيء للفلسطينيين (لبعضهم طبعاً)، وهو ما لم يحدث طوال 75 عاماً، عاشتها
القضية بلا حلّ. وتعايشت دول العالم، وفي المقدمة أمريكا مع لا حلّ. وهذا له
تفسيره أمريكياً وأوروبياً، ودولياً. أيضاً، لأن الحلّ كان دائماً بيد الكيان
الصهيوني وأمريكا. وقد اختارا، "لا حلّ" إلاّ وكل فلسطين للكيان
الصهيوني، وعلى الفلسطينيين الرحيل المتدرج. ومن ثم لا حلّ للقضية الفلسطينية، ما
لم يتحقق هذا الحلّ. ولكن أثبت تاريخ القضية الفلسطينية والصراع أن حلّهم محال.
الأمر الذي حكم الوضع دائماً: لا حلّ، وإنما معادلة ما للصراع في ميزان القوى، وهو
ما ساد منذ 75 عاماً، وقبله إذا شئت منذ 1920، عندما بدأ فرض المشروع الصهيوني.
طبعاً الحل الممكن الوحيد الآخر، وهو
أن كل فلسطين هي للشعب الفلسطيني (طبعاً مع الحق العربي والإسلامي)، ومن ثم
تحريرها من النهر إلى البحر (أو من البحر إلى النهر كما فعل قطاع غزة). وأيضاً
رحيل المستوطنين الذين جاءوها (جميعهم)، بلا شرعية وبانتهاك القانون الدولي. فهو
كيان غير شرعي، ولا يملك إلاّ قانون الغاب، باستخدام القوّة والمجازر.
ومن ثم ما دام لا يستطيع أن يقبل بحلّ
الدولتين، أو الدولة الواحدة، أو أيّ حلّ غير حلّ كل فلسطين له، وتهجير (اقتلاع)
كل أهلها فسيكون، ما بعد وقف إطلاق النار، الاستمرار بالصراع، وبمعادلة جديدة:
معادلة 7 أكتوبر، ومعادلة هزيمة الإبادة والتدمير، وكسب الرأي العام، ومعادلة
الحرب البريّة التي ستنتهي، كما يبدو من معطيات الهدنة الإنسانية، وتمديدها إلى
وقف لإطلاق النار، ويد المقاومة هي العليا.
إن كل من يفكر بنهاية سريعة للحرب في قطاع غزة عليه ألّا ينسى أنها جزء من قضية فلسطين، وما "طوفان الأقصى" إلاّ الشهادة بالاستراتيجية وبالدم على مشكلة وقف إطلاق النار التي لا تَحلّ إلاّ مشكلة استمرار القتال، ووقف العدوان الوحشي على أهل القطاع، وما يَحل بهم من تقتيل وتدمير لبيوتهم، وكوارث إنسانية ومادية، لا حصر لها.
لهذا ما يمكن توقعه مع الوصول لوقف
إطلاق النار، سواء أكان قريباً، أم متعثراً، أم بعد جولة قتال جديدة، وبالنتائج
السابقة نفسها، أو أسوأ بالنسبة إلى جيش الكيان الصهيوني، وإلى المشاركة الأمريكية
بطائراتها وقذائفها وقبتها الحديدية، هو انتصار المقاومة. ومن ثم، فإن ما سيكون
بعده على ضوء وقائع الميدان، ما يلي (بهذا القدر أو ذاك):
1 ـ ستبقى المقاومة مسيطرة على القطاع،
أو أغلبه، وستبقى محتفظة بسلاحها، وبكامل جهوزيتها لمواجهة تجدّد القتال، كما ضمان
عدم حصول العدو، أو أمريكا في السياسة، على ما فشلوا بالحصول عليه في الحرب.
2 ـ كل ما سيحاول "البعض"
طرحه من مشاريع تتعارض مع وضع المقاومة، كما أعلاه، مصيره الفشل، أو الانفجار على
قاعدته، قبل أن ينطلق، مثلاً مشروع تشكيل قوات دولية وإسلامية وعربية لإدارة الوضع
في قطاع غزة. لأن ما لم يستطع الجيش الصهيوني وأمريكا تحقيقه بالقوّة والصدام، كيف
يمكن لأيّ تشكيل دولي أن يحققه. بل هيهات أن يتشكل أصلاً اتفاق بين دول لم يتم
اتفاقها على ما هو أدنى من هذا بكثير. طبعاً ستفشل لأسباب أخرى أيضاً.
3 ـ لا يمكن الوصول لوقف دائم لإطلاق
النار ما لم يتضمن تحريراً كاملاً لقطاع غزة، من أيّ وجود عسكري صهيوني. أي يجب
دحر
العدوان العسكري.
4 ـ إن تحرير الأسرى من خلال تبييض
السجون، على أهميته كانتصار لصمودهم، وللشعب الفلسطيبني كله، لن يكون كافياً. لأن
ثمة قضايا راهنة، مهمة جداً، تحتاج إلى أن تصبح على الأجندة، وتُعطى الأولوية، مثل:
أ ـ تحرير المسجد الأقصى من احتلال
الجيش الصهيوني له، ومحاولة اقتسام الصلاة فيه، أو اقتحاماته وانتهاك ساحاته. وكل
هذا مخالف لـ"ستاتيكو". أي القانون الدولي للأماكن المقدسة الذي لم تجرؤ
قوّة على تحدّيه غير الجيش الصهيوني بعد 2002. فالاحتلال البريطاني لم يفعلها،
وحتى الجيش الصهيوني، اضطر لاحترامه من 1967 إلى 2002.
وبكلمة تحرير المسجد الأقصى، وعودة
الأمن داخله لحراس الأوقاف الإسلامية الأردنية، هدف رئيس لمرحلة ما بعد وقف إطلاق
النار .
بـ ـ وثمة مهمة دحر الاحتلال الذي
يرتكب المجازر في مدن ومخيمات قرى الضفة الغربية والقدس. وبلاقيد أو شرط، فيما
الاستراتيجية اللاحقة لوقف إطلاق النار، ستمضي بثبات لتحرير كل فلسطين.
إن كل من يفكر بنهاية سريعة للحرب في
قطاع غزة عليه ألّا ينسى أنها جزء من قضية فلسطين، وما "طوفان الأقصى"
إلاّ الشهادة بالاستراتيجية وبالدم على مشكلة وقف إطلاق النار التي لا تَحلّ إلاّ
مشكلة استمرار القتال، ووقف العدوان الوحشي على أهل القطاع، وما يَحل بهم من تقتيل
وتدمير لبيوتهم، وكوارث إنسانية ومادية، لا حصر لها.
وبكلمة، إننا بعد وقف إطلاق النار أمام
مرحلة جديدة ابتعد فيها أي حل سياسي، كما كان بعيداً منذ النكبة 1948/1949 حتى
اليوم. فنحن أمام تشكل حالة فلسطينية جديدة لاستمرار الصراع مع الكيان الصهيوني،
تختلف عن كل الحالات السابقة التي عرفها الصراع: حرب وجود.
إنها حالة حدّدها السابع من تشرين
الأول/ أكتوبر 2023، وحدّدتها حرب العدوان ومقاومته، لتلتقي مع ما حدّدته حرب سيف
القدس في الضفة الغربية والقدس 2021، وتداعياتها حتى الآن.
إنها الحالة التي يقرّر فيها الشعب
الفلسطيني ما يُريد، أكثر من أيّة حالة سابقة، ومرحلة سابقة.