لم يكشف العدوان الصهيوني على غزة، وقبلها عملية طوفان
الأقصى، تواطؤ وعمالة الأنظمة العربية المصطفة مع العدوان والمعتدين، بتآمرها أو
بصمتها وعجزها عن القيام بما يتوجب عليها ولو من اللحاظ الأمني القومي الصرف، فقط،
وإنما كشف هذا العدوان أيضا عن أكذوبة وحدة الساحات التي روّجت لها
إيران طوال
الفترة الماضية، ليتبين أن الساحات المقصود بها هي الساحات الإيرانية، التي تريدها
إيران وليس التي تريدها
المقاومة الفلسطينية.. تجلّى ذلك منذ اليوم الأول حين
تقاعس
حزب الله اللبناني عن الدخول في المعركة مكتفيا حتى الآن بالمناوشات
المضبوطة والمدوزنة مع الكيان الصهيوني، إن كان من خلال "معركة العامود"
أو من خلال قصف نقاط صهيونية داخل الأراضي اللبنانية المحتلة، وهو الأمر الذي أزعج
المقاومة الفلسطينية التي تطالب وتناشد من أجل دخول الكل في المعركة.
سارعت إيران منذ اليوم الأول وعلى لسان مرشدها علي
خامنئي ثم الوكيل اللبناني الحصري نصر الله؛ إلى التصريح بأن عمليات طوفان الأقصى
فلسطينية خالصة، ولا علاقة ولا علم لإيران ولا حزب الله فيها، وذلك من أجل تجنب
وتحاشي الرد الصهيوني والأمريكي في طهران وبيروت، وبكل تأكيد فإن الصهاينة يعلمون
ذلك علم اليقين. ولكن إيران سعت بالمقابل إلى الالتفاف على ذلك باستعراض قوة وهمي،
كان عبر الإيعاز إلى أذرعها في سوريا والعراق بضرب قواعد عسكرية أمريكية سبق أن ضُربت
بشكل روتيني لأشهر، وتهدف في حقيقتها إلى ترحيل القوات الأمريكية من المنطقة
للاستفراد بها، وهو سلوك وعمل إيراني متواصل منذ سنوات ولا علاقة له عسكريا
وسياسيا بما يجري في غزة.
وفي نفس السياق والهدف تم الإيعاز للحوثي بالتحرك في
البحر الأحمر والذي كان باستهداف سفن بعضها لها علاقة بإسرائيل، ولكن لذلك أيضا
علاقة بالسيطرة على البحر الأحمر للضغط على السعودية والدول المطلة على باب
المندب، وتعظيم شروط التفاوض الحوثي في أي جولة
تفاوض قادمة مع السعودية أو الغرب.
واستمرت التصريحات بين الطرفين الأمريكي والإيراني
مؤكدة على أن توسيع الحرب غير مرغوب به صباحا تدعو إليه أمريكا، ومساء تؤكد عليه
إيران، إذ إنه لا يخفى على أحد أن الطرفين ليس من مصلحتهما توسيع الحرب، ما دام
التوسع سيصب في مصلحة أعدائهما الذين قاتلوهما لسنوات في العراق وسوريا واليمن.
نقول هذا الكلام ليس ضربا بالودع، أو قراءة بالفنجان
وإنما لو كانت إيران وأذرعها العسكرية التي تتشدق صباح
مساء بحب فلسطين ومصلحتها، وتتلفع بعباءة المقاومة الفلسطينية صادقة فيما تقول،
لكانت أمرت حزب الله اللبناني بالتحرك، أو لتحركت على الأقل القوى الإيرانية
وأذرعها العسكرية التي فتكت بالشعب السوري على مدار 12 عاما ونيف، وهي المتواجدة
على مرمى حجر من الجولان المحتل، لكن إيران وأذرعها اكتفت بالمناورات من خلال دفع
مليشياتها الطائفية نحو الحدود الأردنية.
وكل هذا يثبت بالدليل القاطع أن القضية الفلسطينية
وجراح غزة إنما هي أداة لغسل جرائمها ومجازرها التي اقترفتها ولا تزال بشكل يومي
في إدلب والشمال السوري المحرر عبر قصف المناطق السكنية المأهولة بالسكان، فضلا
عما اقترفته على مدار تلك السنوات من قتل وتهجير واغتصاب للأرض.
ولعل الصمت الأسدي على القصف اليومي في غزة، والقصف
شبه اليومي لمطار دمشق ومواقع إيران وحزب الله في دمشق، يعزز ما نقوله، فهم غير
معنيين أبدا بالرد على الصهاينة، ولذلك رأينا الصمت الإيراني حتى الخرس في مواجهة
قصف شبه يومي لمواقعها في دمشق وحلب وحتى الجزيرة السورية.
لعل المقاومة الفلسطينية أدركت اليوم أنها وحدها التي
ينبغي عليها تقليع شوكها بأيديها، مع شعبها المصابر المرابط في غزة والمدن
الفلسطينية الأخرى، مدعومة من أهلها وحاضنتها السنية في العالم الإسلامي الفسيح،
هذه الحاضنة التي بدت عاجزة اليوم للأسف عن الدعم العسكري، لأنها على مدى عقود وهي
تنزف دما وفقرا وتهجيرا بسبب العدوان الإيراني وأذرعه في العراق وسوريا ولبنان
واليمن ومناطق أخرى، هذا العدوان الذي أضعف دول الطوق الفلسطيني لهذا اليوم، فكانت
عاجزة فيه عن تقديم مساعدة لأهلها في غزة سوى التظاهر والدعم المالي والمعنوي،
لأسباب ودواع تحدثنا عنها وبات الجميع يدركها ويعرفها.
حين يصرخ البعض أين العرب في هذه المحرقة التي يتعرض
لها أهلنا في فلسطين الحبيبة وفي غزة العزة، ينبغي أن يلتفت قليلا إلى الوراء
ليتذكر بأنه طوال الفترة الماضية كان قادة الاستبداد العربي مشغولين بفتح جراحات
جديدة لشعوب تلك الدول.
فكلنا نعرف كيف تم تصحير الحياة الدينية والسياسية في
السعودية، حيث المئات من أهل الخير والصلاح والتقى والعلم والفضل خلف القضبان، وهم
الذين حملوا همّ فلسطين وهم المقاومة. أما في مصر، كنانة الله في أرضه، فقد رأينا
ما حل من جريمة ندفع ثمنها كلنا كعرب اليوم، حيث تغوّلت إيران والصهاينة علينا
لتقزيم دور مصر تماما، فباتت حارس معبر رفح الأمين للصهاينة. أما ما فعلته الطغم
الحاكمة في اليمن وسوريا والعراق ولبنان لأهلنا فغدا معروفا للجميع، فالشعوب تعاني
على مدى عقود كما تعاني فلسطين الحبيبة، فلقد باتت هذه الشعوب مكبلة ومقيدة في
مواجهة طغاتها، فضلا عن مساعدة أهلنا في فلسطين الغالية..
لكن من المعاناة يُولد الأمل بإذن الله، وهذا الصمود في
غزة سيكون نصرا فلسطينيا خالصا لا منّة فيه لطاغية ولا لنظم استبدادية، سيكون نصرا
فلسطينيا مدعوما من الأمة المظلومة في مواجهة الظلم المتعدد الجبهات من صهاينة
يهود أو صهاينة عرب أو صهاينة إيران. فالكل يعاني، ولكن بإذن الله كما أن ثمار
المزروعات لا نناله إلاّ بتشقق الأرض، فتبرز النبتة ثم ننال الفاصولياء والبازلاء
والبندورة وغيرها، فإن نبتة المقاومة اليوم مع الصبر والمصابرة سنجني منها كل الثمار
قريبا، ثم بجهود المقاومين في غزة ودمشق وصنعاء وبيروت وبغداد والقاهرة وغيرها،
فاثبتوا وأبشروا.