لطالما كان
التضامن هو علاقة قوّة، علاقة مبينة على شكل العالم اليوم، تضامنٌ موجهٌ من بلدان مزدهرة "عالم أول" نحو قضايا بلدان نامية "عالم ثالث"، هذا التضامن قائم على المعرفة، وإدراك تفاصيل وحيثيات القضية المتضامن معها، بشكل أدق الصورة الإنسانية والثقافية لهذه القضية القادمة من بعيد عند المتلقي الجاهز للتضامن.
في حال القضية
الفلسطينية كان التضامن العالمي معها متواجداً دوماً بالرغم من السردية المضادة التي خلقتها دولة الاحتلال، ولكن في السنوات الأخيرة نرى تقدما لبروبغندا وسرديات دولة الاحتلال ليتراجع التضامن العالمي مع القضية وتفضح حرب الإبادة الجارية في غزة اليوم ضعف سردية التضامن معهم، السردية القائمة على ظلم تاريخي وتعاطف نتيجة الحاجة للتكفير عن الذنب وكذلك سردية دولة الحريات الأولى في الشرق الأوسط المظلم الذي تمارسه حتى اليوم.
تاريخياً سجل الفنانون حضوراً واضحاً في دعم القضية الفلسطينية، فمنهم من تطوع لدعم القضية بشكل مباشر مثل "جاك لوك غودارد" (1930-2022) المخرج ورائد الموجة الجديدة في السينما الفرنسية حيث توجه غودارد بعد معركة الكرامة عام 1970 إلى الأردن ليصور فيلماً وثائقياً عن المقاومة الفلسطينية ويقع أيلول الأسود أثناء تواجده هناك ليحمل أرشيفه إلى فرنسا ويقدم فيلماً ينتقد فيه العالم الأول ومفهوم التضامن، يقدم صورة خاما عن معنى أن تكون متضامناً من خلف تلفازك، معنى أن تكون مواطناً من دولة متقدمة ومعنى أن تحيا كلاجئ فلسطيني، يقارن غودارد بين الحياتين هنا في فرنسا وهناك في فلسطين ويطلق على فيلمه اسم "هنا وهناك".
كذلك الحال بالنسبة لصعلوك المسرح والكاتب المتمرد "جان جينيه" (1910-1986) الذي أصبح اسمه "الملازم علي" داخل المخيمات الفلسطينية بعد أن زار الأردن بتصريح خاص من "ياسر عرفات" عام 1970 وقضى سنتين كاملتين في المخيمات الفلسطينية رفقة الفدائيين الفلسطينيين وحركة التحرير، وفي عام 1982 صدف أن تواجد جان جينيه في بيروت ليكون شاهداً على مجزرة صبرا وشاتيلا، ويوثقها في مقاله "أربع ساعات في شاتيلا" المقال الذي وصف صورة العنف بأبشع أشكاله.
اليوم بعد أن لعبت السوشيال ميديا دوراً كبيراً في إيصال صوت من لا صوت لهم، لم يعد التضامن مقتصراً على المهتم، بل أصبحت سرديات الفلسطينيين موجودة وحاضرة في مواجهة سنوات من سرديات الاحتلال الكاذبة التي عمل لتكريسها سنوات طويلة، فلم يعد التضامن يقتصر على أولئك المهتمين والراغبين بالبحث، أصبحت الشعوب تدرك أثر البروبغندا عليها، وكذلك الحال بالنسبة للفنانين.
ومن الفعاليات التي خلقت أثراً وعرفت الناس بالقضية الفلسطينية معرض "ماذا تقدّم فلسطين للعالم" الذي افتتح في باريس الشهر الفائت وعرضت فيه "حقائب جينيه"، وهي مسوداته ورسائله في فترة عزوفه عن الكتابة، أغلب بقايا الحقائب هي من آثار رفقته للشعب الفلسطيني والفدائيين الفلسطينيين.
وكذلك يقوم اليوم بعض المغنين وخصوصاً الأصغر سناً بالتضامن بأسلوبهم الخاص سواء عن طريق السوشيال ميديا مما ينشر الوعي ومعرفة القضية، أو بطرق أخرى، فعارضة الأزياء الفلسطينية الأصل "جيجي حديد" لم تتوقف يوماً عن التوعية بالقضية ودحض البروبغندا الإسرائيلية وفضح تاريخهم المزيف، وكذلك الحال بالنسبة لمغنين شباب، ففي 14 تشرين الثاني/ نوفمبر استغل مغني الراب الأمريكي "ريدفيل" مشاركته في مهرجان Camp Flog Gnaw ليعرض في ختام فقرته فيديو يظهر قائمة بأسماء أطفال غزة الذين قتلوا على يد الاحتلال ويرفع العلم الفلسطيني.
وفي السويد أعيد إحياء أغنية "تحيا فلسطين" التي قدمها الشاعر الفلسطيني "جورج توتاري" بعد لجوئه للسويد في نكسة عام 1967، وكانت الأغنية تمنع باستمرار ليعاد اليوم الاحتفال بالأغنية سواء في المظاهرات أو على وسائل التواصل الاجتماعي حيث قام عدد من مشاهير السوشيال ميديا بغنائها وبثها، وتصبح الأغنية المنسية أيقونة للتضامن مع القضية.
وكذلك أقام الكوميدي الأمريكي الشهير "رامي يوسف" في 10 كانون الثاني/ ديسمبر حفلاً لجمع التبرعات لدعم غزة وحضره عددٌ من النجوم البارزين الذين تعرضوا للعديد من الانتقادات منهم "سيلينا غوميز" و"تايلور سويفت".
أما عن الممثلين فقد تضامن كلّ منهم بطريقته الخاصة "فأنجلينيا جولي" المعروفة بنشاطها الإنساني ودورها كمبعوثة خاصة للمفوضية الخاصة للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، أدانت بشكل مباشر العدوان العسكري الإسرائيلي على قطاع غزة، وكذلك عادت خلال مناقشة لها مع المخرجة السورية "وعد الخطيب" على وسائل التواصل الاجتماعي لتعبر عن سخطها عن عدم العدالة في العالم وتفاوت مفهوم حقوق الإنسان في العالم.
وفي تشرين الأول/ أكتوبر وقع 55 فناناً بارزاً منهم "خواكين فينيكس، كيت بلانشيت، كريستين ستيوارت وسوزان ساراندون"، رسالة مفتوحة للرئيس الأمريكي “جو بايدن"، تحثه على الدعوة لوقف إطلاق النار، وكذلك الأمر بالنسبة لنجوم عالميين فالممثلة الإسبانية بينلوبي كروز شاركت على صفحتها "قصة" story على الانستغرام تدعو فيها لوقف إطلاق النار.
وعلى غرار الفنانين الأمريكيين وقع فنانو بريطانيا عريضة تتهم صناعة الفنون والثقافة بالتواطؤ لإسكات الأصوات الفلسطينية ومنهم الممثلة "أوليفيا كولمان، والمخرج كين لوتش، وتيلدا سوينتون، ومايك لي"، وغيرهم.
كما دعمت الممثلة والمسرحية البريطانية "جولييت ستيفنسون" القضية في حوار لها لوكالة الأناضول القضية الفلسطينية وتحدثت عن المسيرة الصامتة الداعمة للقطاع الطبي في غزة والتي شارك فيها عاملو القطاع الطبي في لندن.
وقام الممثل البريطاني والمسرحي الشهير "برايان كوكس" 77 عاما بمفاجأة جمهوره عبر إلقائه قصيدة للشاعر الفلسطيني الشهيد "رفعت العرعير" الذي قتله الاحتلال هو وزوجته وأبناءه في غزة بعد أن كان شاعراً ومترجماً ومدرساً للأدب الإنجليزي في غزة.
لا يمكن تحجيم الدور الذي تلعبه اليوم وسائل التواصل الاجتماعي في رفع الوعي تجاه القضية الفلسطينية، ولا يمكن كذلك عدم الاهتمام بالمشاهير سواء فنانين أو مشاهير السوشيال ميديا فقد خلق تضامنهم أثراً لا يمكن تغييبه حيث يحاول الكيان الاستعماري اليوم دحضه بكل ما يملك من قوة إعلامية، فتارة نرى صفحة إسرائيل بالعربية تنشر أخبارا كاذبة عن عدد الوافدين الجدد لدولة الاحتلال لجذب تعاطف عالمي معه، ومع هذا ثغرة السوشيال ميديا وسرعة وصول المعلومات والأخبار جعلت صوت الفلسطينيين يصل أخيراً إلى كل مهتم، وأصبحت روايات الحكومات والدول قابلة للنفي والتكذيب بعد أن شهد العالم كله حرب الإبادة الجارية حتى اللحظة، ولعل التضامن فقط لا يكفي اليوم، ولكنه على الأقل بصيص أمل وتقدم بسيط حيث زادت نسبة الوعي بالقضية وإدراك ماهية العالم الحقيقية.
ما يحدث اليوم يشبه أثر الصورة الذي حدث في ستينيات القرن الماضي أثناء حرب فيتنام، عندما بدأت صور الحرب تنتشر وتحرك الشعب لأول مرة من هول ما يحصل رافضاً للحرب.