دعونا في البداية، ونحن نتحدث عن مسار الحرب الجارية
في غزة، أن نؤكد على قناعة أصبحت من المُسَلَّمات لدى معظم الاستراتيجيين
السياسيين والعسكريين؛ مفادها أن نتيجة معركة طوفان الأقصى حُسِمَت في يومها الأول
أي في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر بهزيمة الكيان الصهيوني، وتفوق وتقدم
المقاومة من خلال انتقالها من حالة الدفاع إلى حالة الهجوم. فالنجاح الذي شهده
الهجوم على غلاف غزة وما حققه من إنجازات تتلخص في اختراق مواقع عسكرية،
والاستيلاء على بنك معلومات استخباراتية، وأسر عشرات الجنود، أدى إلى تقويض ثلاث
دعامات استراتيجية تأسس عليها الكيان الصهيوني الغاصب وتتمثل في:
- تقويض دعامة الأمن الوجودي المشجع على هجرة المزيد
من اليهود الصهاينة وضمان بقائهم واستقرارهم.
- تقويض دعامة التفوق العسكري المحقق لكل شروط الهيمنة
والردع في المنطقة.
- تقويض دعامة التفوق الاستخباراتي الذي كان يُقدم على
أنه يخترق كل الأنظمة ويستبق كل المخططات ويتحكم ويُحَدِّد معالم كل الأحداث في
المنطقة.
لقد تمكنت المقاومة من خلال معركة طوفان الأقصى أن
تُظهِر الكيان الصهيوني على غير صورته النمطية، وتكشف حقيقة ضعفه وتسقط جميع
المقولات التي كان يُسَوَّقُها عن نفسه؛ من قبيل الجيش الذي لا يقهر، والاستخبارات
التي لا يخفى عليها من العالم خافية.
بعد مرور 100 يوم عن الحرب على غزة، وبعد سقوط ما يقارب 24 ألف شهيد، وما يناهز 10 آلاف مفقود، وما يزيد عن 55 ألف جريح، وتدمير ثلثي البنية العمرانية، ونزوح مئات الآلاف من شمال غزة نحو جنوبها، واستهداف كل المرافق المدنية بما فيها المستشفيات والمدارس والجامعات والكنائس والمساجد ومؤسسات الأونروا ومنع قوافل المساعدات، لم يحقق الجيش الصهيوني أيا من أهدافه التي أعلن عنها
فالسابع من تشرين الأول/ أكتوبر وما حمله من تداعيات
استراتيجية، كان لحظة فارقة في تاريخ المقاومة، وكان منعطفا جديدا في مسار القضية
الفلسطينية، حيث أخرجها من دائرة التهميش إقليميا ودوليا وجعلها قضية كل العالم،
كما أفشل كل المخططات التي كانت تحاك ضد الشعب الفلسطيني بعد الإعلان عن صفقة
القرن، وانطلاق مسلسل التطبيع، وبدء الإعداد لشرق أوسط جديد تلعب فيه "
إسرائيل"
دور القائد الإقليمي في المنطقة. وكل هذا لا يمكن أن يتحقق إلا بتصفية القضية
الفلسطينية إما عن طريق المساومة أو عن طريق القضاء على المقاومة، فكانت معركة
طوفان الأقصى عملية استباقية وحرب استراتيجية ساهمت من جهة في تعطيل كل مخططات
التصفية التي باركتها الأنظمة العربية المطبعة، وساهمت من جهة أخرى في إعادة
القضية الفلسطينية إلى واجهة المنتظم الدولي.
هكذا وبعد مرور 100 يوم عن الحرب على غزة، وبعد سقوط
ما يقارب 24 ألف شهيد، وما يناهز 10 آلاف مفقود، وما يزيد عن 55 ألف جريح، وتدمير
ثلثي البنية العمرانية، ونزوح مئات الآلاف من شمال غزة نحو جنوبها، واستهداف كل
المرافق المدنية بما فيها المستشفيات والمدارس والجامعات والكنائس والمساجد
ومؤسسات الأونروا ومنع قوافل المساعدات، لم يحقق الجيش الصهيوني أيا من أهدافه
التي أعلن عنها عبر وسائل الإعلام والمتمثلة في:
- تحرير الرهائن.
- القضاء على حماس.
- إقامة سلطة إدارية منزوعة السلاح في غزة.
أما الهدف الميداني غير المعلن عنه والذي كان ولا زال
يصبو إليه الجيش المجرم من خلال آلة تدميره الهمجية، فهو تخيير أهل غزة بين الموت
على أرضهم أو الهجرة إلى سيناء.
فأمام هذا العجز العسكري الصهيوني الغربي، وأمام
الصمود للمقاومة الفلسطينية في غزة على كل جبهات القتال، وأمام فشل العملية البرية
وتكبد العدو خسائر فادحة في الأرواح والعتاد، لم يجد الجيش "الأكثر أخلاقية
في العالم" بُدّاً من استهداف الأطفال والنساء ورفع الكلفة البشرية؛ للدفع
بالحاضنة الشعبية للمقاومة إلى الانقلاب عليها وإرغامها على ترك أنفاقها ووضع
سلاحها حفاظا على الأرواح والممتلكات وضمانا لحياة، كيفما كانت هذه الحياة، وهو
الأمر الذي لم يتَأتَّ لجيش الاحتلال ما جعله متورطا في حرب استنزاف لا قِبَلَ له
بها، والحل الوحيد الذي يمتلك قراره هو الانسحاب من غزة وهو يجر أذيال هزيمته
التاريخية.
لم يتوقف الدعم العالمي لفلسطين في الحراكات الشعبية بل تعداه ليشمل دعما دوليا رسميا من خلال رفع دولة جنوب أفريقيا دعوى قضائية أمام محكمة العدل الدولية ضد الكيان الصهيوني متهمة إياه بنية الإبادة الجماعية في حق الشعب الفلسطيني الأعزل. وتعد هذه المحاكمة لحظة فارقة في تاريخ الكيان الغاصب كونه يَمثُل لأول مرة كدولة أمام محكمة دولية، ويُرغَم على وضعه في حالة دفاع تماما، وتوجه له تُهَمُ جرائم حرب
وفي خضم 100 يوم من الحرب على غزة وصمود مقاومتها،
استفاق ضمير العالم واستعادت الشعوب وعيها وصحت من غفوة الكذبة الصهيونية في معظم
عواصم العالم، وانكشفت حقيقة "إسرائيل الضحية"، وعبَّرت المسيرات
والوقفات التضامنية مع فلسطين والمقاطعات للبضائع والمحلات والشركات الداعمة
للكيان الصهيوني عن مطالبة كل أحرار العالم بإنهاء الاحتلال الصهيوني وتحرير
فلسطين من النهر إلى البحر حيث تَرَدَّدَ في كل أنحاء العالم شعار: "palestine
will be free from the river to the sea"
لم يتوقف الدعم العالمي لفلسطين في الحراكات الشعبية
بل تعداه ليشمل دعما دوليا رسميا من خلال رفع دولة جنوب أفريقيا دعوى قضائية أمام
محكمة العدل الدولية ضد الكيان الصهيوني متهمة إياه بنية
الإبادة الجماعية في حق
الشعب الفلسطيني الأعزل. وتعد هذه المحاكمة لحظة فارقة في تاريخ الكيان الغاصب
كونه يَمثُل لأول مرة كدولة أمام محكمة دولية، ويُرغَم على وضعه في حالة دفاع
تماما، وتوجه له تُهَمُ جرائم حرب بعدما كان يُعَربِد طيلة 75 سنة على قرارات
المنتظم الدولي ومؤسساته.
صحيح أن أحكام محكمة العدل الدولية لن تكون ملزمة كما
هو الشأن في حرب روسيا على أوكرانيا، لكنها ستخرج الكيان الصهيوني من دور ضحية
الهولوكست الذي قُدِّمَ للعالم كتبرير لاحتلاله أرض فلسطين، إلى مجرم يتوجب عليه
ترك الأرض لأصحابها، ومن ثم فإن محكمة العدل الدولية إن هي قضت شكلا واستعجالا
خلال الأيام القابلة، بوجود نية الإبادة الجماعية لدى الجيش الصهيوني المجرم، فإن
هذا الحكم سيكون بمثابة منعطف آخر في تاريخ القضية الفلسطينية، وسيكون له الأثر
البليغ في تغيير المناخ السياسي الدولي تجاه ما يسمى "دولة إسرائيل"،
وسيفقد هذا الكيان رابع دعامة لتأسيسه ألا وهو التعاطف الشعبي الغربي مع حق اليهود
الصهاينة في وطن آمن ومستقر، والذي كان وليد تأنيب الضمير الأخلاقي من "محرقة
الحرب العالمية الثانية".
فشتان بين جنوب أفريقيا التي ذاق شعبها وساستها
وقادتها وبال الميز والقهر العنصري من لدن نظام الأبارتايد المجرم، والكيان
الصهيوني الذي يدعي أن قادته وساسته وشعبه المؤسس كانوا أو كان آباؤهم من الناجين
من المحرقة. ووجه الفارق أن الذين عاشوا حقا الميز العنصري وتذوقوا مرارته وخبروا
تداعياته، هبوا إلى نصرة شعب لا تربطهم به سوى الإنسانية والمعاناة المشتركة،
فوضعوا مبادئهم وقيمهم الأخلاقية فوق كل المصالح الاقتصادية. أما الكيان الجرثومي
الذي يتحدث تعرضه للمحرقة، ويتحدث عن تعرضه للإبادة الجماعية من قِبَل النازية
والفاشية الغربية الأوروبية، فهو يمارسها في حق شعب بريء لا علاقة له بها. فما
الفرق بين أن تحرق داخل فرن غازي أو أن تحرق بالقنابل والفوسفور؟ النتيجة واحدة هي
الإبادة.
في مقابل كل هذا الحراك العالمي تصطف الدول الغربية
إلى جانب الكيان الغاصب، وتعطيه الحق في تصفية المقاومة وتسمي ذلك دفاعا عن النفس،
مع تزويده بالمال والسلاح والخبرة والمعلومات، وتأمين ظهره وحمايته من مغبة توسع
دائرة وجبهات الحرب، ناهيك عن شل كل قرارات مجلس الأمن الداعية إلى وقف الحرب أو
إدانة "إسرائيل" باستخدام الفيتو. أما آلتها الدبلوماسية فلا تتوقف عن
جولاتها المكوكية بين عواصم المنطقة والإقليم لحملها على تقبل الوضع والسكوت عن
فضاعته، وإرغامها على المشاركة في حل الوضع الراهن، والمساهمة في مرحلة ما بعد
الحرب.
ين أننا إزاء تحولات استراتيجية ستُحدد معالمها نتيجة معركة طوفان الأقصى، ونتيجة محكمة العدل الدولية، أيضا يقظة الضمير العالمي وما سيكون له من تأثير في اختيار الرؤساء والحكومات خاصة في الدول المسماة ديمقراطية، بحيث أن الشعوب الغربية قد أصبحت واعية بخطورة الأحزاب والحكومات الموالية للصهيونية العالمية، وما يترتب عن ذلك من خرق للقيم الإنسانية وهدر لأموال الشعوب في دعم كيان مجرم
وبناء على كل ما سبق يتبين أننا إزاء تحولات
استراتيجية ستُحدد معالمها نتيجة معركة طوفان الأقصى، ونتيجة محكمة العدل الدولية،
أيضا يقظة الضمير العالمي وما سيكون له من تأثير في اختيار الرؤساء والحكومات خاصة
في الدول المسماة ديمقراطية، بحيث أن الشعوب الغربية قد أصبحت واعية بخطورة
الأحزاب والحكومات الموالية للصهيونية العالمية، وما يترتب عن ذلك من خرق للقيم
الإنسانية وهدر لأموال الشعوب في دعم كيان مجرم على حساب المصالح الوطنية.
أما شعوبنا العربية فقد أسقطت آخر ما تبقى من آمال
ضئيلة في الحكام العرب وحكوماتهم، وتيقنت بما لا يدعو للشك أن هذه الأنظمة هي مجرد
مقاطعات ذيلية الصهيونية اللبرالية العالمية، وأدوات طيّعة في يدها تستعملها
لإسكات الشعوب من جهة، وتصفية أم القضايا فلسطين من جهة أخرى.
فلا مناص إذن لتحرير فلسطين من توسيع جبهة المقاومة،
باعتبار فلسطين هي الجبهة الأمامية لمقاومة الصهيونية العالمية وأن باقي الدول هي
الجبهة الخلفية للمقاومة، ولئن كان دور المقاومة الفلسطينية هو المجابهة المباشرة،
فإن دور باقي الدول هو إسقاط الأنظمة السياسية الداعمة في السر والعلن للصهيونية
العالمية، سواء كانت هذه الأنظمة عربية أو غربية فالأمر سيان.
إن ما يدفعنا إلى التفاؤل المفرط حول مستقبل فلسطين هو
وضوح الطريق نحو التحرير، ووضوح العقبات الواجب اقتحامها، ووضوح الآليات الواجب
استخدامها، ووضوح مسؤولية الشعوب تجاه هذه القضية الأمانة، واقتناع كل أحرار
العالم بأن الصهيونية الليبرالية العالمية أضحت خطرا كبيرا على الإنسانية في كل
مناحي الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية.