في
مشاهد النهاية من فيلم عمر المختار الشهير، عينت المحكمة العسكرية الإيطالية
محاميا ليدافع عن عمر المختار بعد أن طالب الادعاء بتوقيع عقوبة الإعدام عليه؛
طالب المحامي بمعاملته كأسير أحرب، فضجت القاعة والحضور اعتراضا قبل أن يستخدم
القاضي العسكري مطرقته ليضرب بها في محاولة استعادة الهدوء في القاعة. كان الحوار
قانونيا وسياسيا عميقا بشكل سهل ممتنع وبسيط في آن واحد، فالأسير حتى في أعراف
القوى الاستعمارية آنذاك لا يقتل، ولذا اعتبره الادعاء متمردا عسكريا على الدولة
الإيطالية وليس أسيرا في معركة تحرر وطني.
إن
ما تقوم به إسرائيل من نزع الصفة التحررية عن المقاومين الفلسطينيين وسلب مفهوم
الأسير ممن تحتجزهم فصائل
المقاومة في
غزة ليس بجديد على أية قوى استعمارية
واحتلال، فدائما ما يجرد
الاحتلال المقاومين من شرف المواجهة ويصبغهم بصفة الإرهاب
والتمرد على السلطة المستقرة. ولهذا تطلق إسرائيل على المحتجزين صفة الرهائن وليس
الأسرى الذي وقعوا في الأسر في إطار نزاع دولي. وكلا التعريفين يشتمل على حقوق
وواجبات مختلفة تماما عن الآخر.
ما تقوم به إسرائيل من نزع الصفة التحررية عن المقاومين الفلسطينيين وسلب مفهوم الأسير ممن تحتجزهم فصائل المقاومة في غزة ليس بجديد على أية قوى استعمارية واحتلال، فدائما ما يجرد الاحتلال المقاومين من شرف المواجهة ويصبغهم بصفة الإرهاب والتمرد على السلطة المستقرة. ولهذا تطلق إسرائيل على المحتجزين صفة الرهائن وليس الأسرى
وحتى
نرد الأمور لأصلها، فإن كل ما يجري حولنا منذ أربعة شهور بعد اندلاع عملية طوفان
الأقصى يحدث بشكل رئيس حتى يتحرر الأسرى الفلسطينيون المحبوسون بغير وجه حق، ومن
أجل توفير الاحتياجات الأساسية للمعيشة لأهل غزة، أي أن جوهر المعارك والمطالب
يدور بشكل رئيس حول فكرة الأسير في سجون إسرائيل والقطاع الأسير المحروم من مقومات
الحياة.
إن
للأسير مكانة خاصة في الثقافة العربية والإسلامية، ويكفي أن نقرأ سورة الإنسان
لنجد المطلب الإلهي من إيثار الأسير على النفس في الطعام: "ويُطعمون الطعام
على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا"، وتأتي الآية التالية لها لتوضح أن مثل هذه
المعاملة هي استراتيجية أخلاقية قبل أن تكون تكتيكيا يستخدم من باب الحيلة
والعلاقات العامة لتبييض الصورة وكسب معركة الرأي العام: "إنما نطعمكم لوجه
الله لا نريد منكم جزاء ولا كفورا".
ولولا
هذا الوازع الإيماني، أتصور أن مشهد معاملة المقاومين الفلسطينيين كان سيختلف
كثيرا عما بدا لوسائل الإعلام وبشهادة عدد من الأسرى أنفسهم ممن أطلق سراحهم في
الشهور الماضية. ومن دون هذا الوازع، من المستحيل أن يتحكم المسلحون في أنفسهم
ويتغلبون على مشاعر الثأر والانتقام عندما يقع في أيديهم أسير لعدو أذاقهم الويلات
وحرمهم من أبسط مقومات الحياة، ولم يراع أية أخلاقيات أو مبادئ في حربه المفتوحة
التي لم تستثن العزّل من النساء والأطفال وكبار السن.
أخلاقيات الحرب في الثقافتين العربية والإسلامية كثيرة، وربما حالت وضعية الحروب الحديثة دون تطبيق هذه الأخلاقيات بسبب عدم تكافؤ ميزان القوى بين الدول العربية والإسلامية والقوى الاستعمارية خلال القرنين الماضيين لصالح قوى الاحتلال، وهو الأمر الذي جعل الحرب اللا أخلاقية المتجردة من كل معايير هي الأصل
إن
أخلاقيات الحرب في الثقافتين العربية والإسلامية كثيرة، وربما حالت وضعية الحروب
الحديثة دون تطبيق هذه الأخلاقيات بسبب عدم تكافؤ ميزان القوى بين الدول العربية
والإسلامية والقوى الاستعمارية خلال القرنين الماضيين لصالح قوى الاحتلال، وهو
الأمر الذي جعل الحرب اللا أخلاقية المتجردة من كل معايير هي الأصل. إن معاملة
الأسرى هي النزر اليسير من أخلاقيات الحرب في الثقافتين العربية والإسلامية الذي
سمح له الواقع المعاصر من الظهور.
وللدلالة
على حرص الصحابة والتابعين على أخلاقيات الحروب، يروى أنه كان بين معاوية بن أبي
سفيان والروم عهد، وكان يتجه نحو أراضيهم حتى إذا انتهت المدة المحددة للمعاهدة،
بدأ معاوية في شن هجوم. في هذه الأثناء، ظهر رجل يركب فرساً ويكبر "الله
أكبر، الله أكبر، الوفاء وليس الغدر"، وتبين أنه عمرو بن عبسة؛ استدعاه
معاوية واستفسر منه، فأخبره عمرو بأنه سمع سيدنا الرسول صلى الله عليه وسلم يقول:
"من كان بينه وبين قوم عهد فلا يشد عقدة ولا يحلها حتى ينقضي أمدها أو ينبذ
إليهم على سواء". على إثر ذلك، تراجع معاوية بالجيش وعاد.
twitter.com/HanyBeshr