هل ضاعت
غزة فعلا؟ وهل من حقنا أن نتساءل حول ما إذا كان صبر المدنيين هناك
قد نفد؟ تكشف الفيديوهات المنشورة حول وضع السكان هناك أن الغزاويين لم يعد
باستطاعتهم تحمل سياسة التنكيل
الإسرائيلية بمختلف الوسائل؛ من القنابل التي
تتساقط على رؤوسهم ليلا نهارا وصول الجوع الذي يحاصرهم. وهذا أمر مفهوم ومنطقي، فالذين
يعيشون هناك والمحاصرون برا وبحرا وجوا بشر وليسوا آلهة، هم ضحايا الحرب ووقودها،
يحترقون في كل ساعة دون أن تكون لهم القدرة على الدفاع عن أنفسهم.
فالمقاومة لا تزال نشيطة وفاعلة ومتمركزة في مواقعها، لكنها غير قادرة
عمليا على حماية مواطنيها الذين وجدوا أنفسهم يجوبون الشوارع ويلتحفون السماء
ينتظرون قدوم الموت في كل لحظة عبر قذيفة أو صاروخ. فالعدو يبتز المقاومة عن طريق
استهداف المدنيين بدون رحمة، ويعتقد بأنه من خلال ذلك يحقق أحد الهدفين؛ استسلام
المقاتلين والقضاء على أسلحتهم ومن ثم تصفيتهم وسجنهم، أو دفع المدنيين نحو الهجرة
قسرا.
الحرب رغم ضراوتها لم تفصح بعد عن نتائجها السياسية، صحيح أن معالم المدينة تغيرت تماما، وأن مئات الآلاف من المدنيين يحاصَرون في كل زاوية توجهوا إليها أو دُفعوا نحوها، مع ذلك لا يزال هناك صمود المقاومة الذي يحد من هيجان العدو ويفسد حساباته التكتيكية والاستراتيجية، ويعمق تناقضاته ويكشف طبيعته العدوانية وروحه الشريرة. حتى الذين انحازوا بالكامل إلى إسرائيل، يعيشون عزلة دبلوماسية حادة مثل الولايات المتحدة وبريطانيا
صعب على كاتب مثلي أن يزايد على الفلسطينيين ويطلب من الأطفال والنساء
والشيوخ أن يواجهوا الطائرة والدبابة والقناصة بصدور عارية، فالكلمات التي تقال هذه
الأيام أو تكتب تحولت في هذا الظرف بالذات إلى مسؤولية ثقيلة ومكلفة. حتى مع دخول
رمضان يستمر القتل والتشريد، رغم النداءات ومحاولات التوصل إلى هدنة خلال هذا
الشهر الفضيل. الإسرائيليون لا يعترفون بأي مقدس من مقدسات المسلمين؛ يحاصرون
المسجد الأقصى، ويمنعون المصلين بعد أن أطلقوا أيدي المستوطنين لضرب الفلسطينيين
والاعتداء عليهم وعلى ممتلكاتهم.. لا شيء يمنعهم من استمرار هيجانهم.
القول بأن غزة ضاعت كما ردد البعض هو
كلام مردود على قائليه، حتى لو صدر على ألسنة بعض الفلسطينيين الذين هالهم ما يحصل
في مدينتهم. الحرب رغم ضراوتها لم تفصح بعد عن نتائجها السياسية، صحيح أن معالم
المدينة تغيرت تماما، وأن مئات الآلاف من المدنيين يحاصَرون في كل زاوية توجهوا إليها
أو دُفعوا نحوها، مع ذلك لا يزال هناك
صمود المقاومة الذي يحد من هيجان العدو
ويفسد حساباته التكتيكية والاستراتيجية، ويعمق تناقضاته ويكشف طبيعته العدوانية
وروحه الشريرة. حتى الذين انحازوا بالكامل إلى إسرائيل، يعيشون عزلة دبلوماسية
حادة مثل الولايات المتحدة وبريطانيا.
لقد تحركت الشعوب ضد حكوماتها بعد أن
أدرك جزء واسع من الرأي العام الغربي أن الإسرائيليين يوظفون المحرقة النازية من
أجل تبرير مشروعهم الاستعماري البغيض. فحسب مقال بصحيفة فايننشال تايمز البريطانية،
فالحرب على غزة "تقسم أوروبا". وفي المقال إشارة إلى استطلاع أجرته مؤسسة "يوغوف" في تشرين الثاني/ نوفمبر
الماضي كشف عن أن الناخبين الشبان الذين أعمارهم دون 29 عاما هم أكثر تعاطفا مع
الفلسطينيين، على عكس الأكبر سنا (لا سيما ممن تتجاوز أعمارهم 45 عاما) الذين
يميلون إلى تأييد إسرائيل.
عندما يردد الفلسطينيون اليوم "لن يسرقوا منا رمضان" رغم هذا المشهد القاتم، فقد أثبتوا بذلك أنهم تجاوزوا حدود الألم وبيّنوا أنهم قادرون على تحدي الطغيان العسكري لعدوهم الذي يريد طردهم من أرضهم أو إبادتهم. وما دامت معنوياتهم مرتفعة إلى هذا الحد، فلن يتمكن الصهاينة من تحقيق أهدافهم
والقضايا
التي تكسب تعاطف الشباب هي التي تكون عادلة، وسينصفها التاريخ إن آجلا أو عاجلا، وقد سبق لأجيال من النخب الفلسطينية
والعربية حاولت أن تقنع العالم الغربي بعدالة القضية الفلسطينية دون جدوى إلى أن اندلعت
معركة طوفان الأقصى فكشفت المستور.
عندما يردد الفلسطينيون اليوم "لن
يسرقوا منا رمضان" رغم هذا المشهد القاتم، فقد أثبتوا بذلك أنهم تجاوزوا حدود الألم
وبيّنوا أنهم قادرون على تحدي الطغيان العسكري لعدوهم الذي يريد طردهم من أرضهم أو
إبادتهم. وما دامت معنوياتهم مرتفعة إلى هذا الحد، فلن يتمكن الصهاينة من تحقيق
أهدافهم مهما بلغ عدد الشهداء ومهما هدموا من منازل. وسواء حصل الهجوم على رفح أو
لم يتم فإن القضية باقية، والحق قائم. ومهما أصر نتنياهو وحلفاؤه من المتطرفين
اليهود على الاستمرار في تنفيذ مشروعهم الدموي حتى على حساب علاقاتهم الاستراتيجية
بالرئيس بايدن، فإنهم يحفرون بذلك القبر الذي سيُدفن فيه المشروع الصهيوني إلى الأبد.
فالجرائم لا تُنسى، قد تطول وتتأخر
ويعمل مرتكبوها كل ما في وسعهم من أجل دفنها لكن التاريخ لا يرحم؛ المهم أن يستمر
الصمود حتى ينجلي غبار المعركة. غزة ستبقى فلسطينية مهما دمروها، وكم من مدن هامة
حولها الغزاة إلى خرائب، ثم نجح أبناؤها في إعادة بنائها.