استقالتها كشفت عن حالة من الإحباط
والتمرد تسود أروقة و"كارادورات" وزارة الخارجية وغالبية الإدارات
الأمريكية، بسبب حرب الإبادة الجماعية التي يشنها
الاحتلال على قطاع
غزة.
تبدو كأنها جزء من تيار عريض بدأ صوته
يعلو ضد انحياز إدارة الرئيس الأمريكي جو بادين غير المشروط والمنفلت لآلة الموت
والقتل الإسرائيلية التي تمادت إلى أقصى حدود التوحش.
لم تكن تخطط في البداية للاستقالة
العلنية، لأنها لم تر أن موقعها مؤثر إلى هذا الحد، وفكرت في الاستقالة بهدوء،
لكن عندما نقلت هذه الفكرة لزملائها بالعمل، قال كثير من الأشخاص: "ارفعي
صوتك من أجلنا أيضا".
أنيل
شيلين، المولودة في عام 1985
بولاية نيو مكسيكو في الولايات المتحدة الأمريكية، حاصلة على درجة الدكتوراه من
قسم العلوم السياسية بجامعة "جورج واشنطن"، ودرجة البكالوريوس من
"كلية جالاتين للدراسات الفردية" بجامعة نيويورك.
وتدربت كمساعدة تدريس في مجال الكتابة
المكثفة المخصصة في السياسة المقارنة والأمن الدولي وسياسة الشرق الأوسط.
شغلت منصب مديرة برنامج عميد
"كلية إليوت للشؤون الدولية" للفترة ما بين عامي 2017 و2018.
وعملت في "معهد كوينسي لفن
الحكم" بواشنطن، وزميلة غير مقيمة في "مركز معهد بيكر للشرق
الأوسط"، وتركزت أبحاثها على السلطة الدينية في الشرق الأوسط، وتحديدا تقاطع
الهويات الدينية والوطنية في الممالك العربية. وهي تحلل آثار مكافحة التطرف العنيف، وتشجيع التسامح الديني في الأردن والمغرب وعمان والسعودية.
بالإضافة إلى الكتابة الأكاديمية، ظهرت
تعليقاتها العامة في "واشنطن بوست"، و"ذا جلوبال بوست"،
و"مركز بيركلي للدين والسلام والشؤون العالمية" بجامعة جورج تاون.
وسبق لها أن قدمت رؤيتها لحكم ولي
العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، كما عبرت في أكثر من موقف عن رأيها في
اتفاقيات التطبيع العربية مع الاحتلال برعاية الرئيس الأمريكي الأسبق دونالد ترامب
والتي رأت بأنها "دفعة علاقات عامة سيتحمل الطرف
الفلسطيني المستبعد جميع
التكاليف". وبان "الصفقة، بخلاف كونها حيلة دعائية، لا تمثل تحولا كبيرا
في العلاقات الجيوسياسية".
وفيما بعد انضمت شيلين إلى وزارة
الخارجية الأمريكية من خلال زمالة مع مكتب الديمقراطية والعمل وحقوق الإنسان كجزء
من مكتب شؤون الشرق الأدنى، وتم تكليفها بتعزيز حقوق الإنسان وإعداد تقارير سنوية
حول هذه القضية.
وكان تركيزها ينصب على تعزيز حقوق
الإنسان في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وهو العمل الذي تعقد بسبب الحرب في غزة.
وعلى وقع هذه الحرب حاولت شيلين إثارة المخاوف داخليا من خلال برقيات اعتراض
ونقاشات مع زملائها، لكنها خلصت في النهاية إلى عدم جدوى ذلك طالما تواصل الولايات
المتحدة إرسال الأسلحة إلى الاحتلال.
ولم تجد أمامها من طريق سوى الاستقالة
من منصبها كمسؤولة للشؤون الخارجية بمكتب شؤون الشرق الأدنى للديمقراطية وحقوق
الإنسان التابع لوزارة الخارجية، احتجاجا على سياسة إدارة الرئيس جو بايدن حيال
قطاع غزة.
شيلين، أوضحت في رسالة أسباب
استقالتها، بعد عام من العمل في منصبها، عبر شبكة "سي إن إن" الأمريكية،
قالت فيها: "مهما كانت المصداقية التي كانت تتمتع بها الولايات المتحدة
الأمريكية كمدافع عن حقوق الإنسان، فقد تم القضاء عليها تقريبا منذ الحرب (في
غزة)".
تقول "الإدارة ووزارة الخارجية لم
تفعلا شيئا ملموسا في مواجهة مقتل عشرات الآلاف من الفلسطينيين الأبرياء أمام أعين
العالم أجمع".
وقالت: "أستقيل من منصبي في وزارة
الخارجية لأنني لا أستطيع أن أخدم إدارة تسمح بهذه المجازر التي ترتكبها إسرائيل.
بالإضافة إلى إصرارها على اجتياح رفح التي تؤوي نحو 1.5 مليون شخص، والنهج
الإسرائيلي في تجويع أكثر من مليوني شخص داخل القطاع".
ولفتت إلى أن تل أبيب استخدمت قنابل
أمريكية قتلت أكثر من 32 ألف فلسطيني، بينهم 13 ألف طفل، إلى جانب عدد لا يحصى من
المفقودين تحت الأنقاض.
وأوضحت أن الإدارة الأمريكية توصلت قبل
بضعة أيام فقط إلى نتيجة مفادها أن "إسرائيل تصرفت وفقا للقانون
الدولي"، واصفة ذلك بأنه "خسارة خطيرة للأساس الأخلاقي".
وأردفت "قول ذلك بينما تمنع
إسرائيل دخول المساعدات الإنسانية وتضطر الولايات المتحدة إلى إسقاط المواد
الغذائية جوا هو استهزاء بأطروحات إدارة بايدن بشأن القانون ومصير الفلسطينيين
الأبرياء".
وهذه ثاني استقالة لمسؤول في الخارجية
الأمريكية بعد استقالت المدير العام لقسم توريد الأسلحة للحلفاء والشركاء بوزارة
الخارجية الأمريكية جوش بول من منصبه بسبب خلاف حيال طريقة تعامل إدارة بايدن مع
الوضع في غزة.
وأشاد بول باستقالة شيلين، مشيرا إلى
أنها "ستترك مكتبا مكلفا بالدفاع عن القيم العالمية، بما في ذلك احترام سيادة
القانون والمؤسسات الديمقراطية وحقوق الإنسان".
كما استقال مسؤول كبير في وزارة
التعليم الأمريكية وهو طارق حبش بسبب موقف الولايات المتحدة من العدوان الإسرائيلي
على قطاع غزة والقصف المدمر الذي أحدث كارثة إنسانية وصحية في القطاع.
وجاءت الاستقالات في الوقت الذي تواجه
فيه إدارة بايدن ضغوطا من العديد من الديمقراطيين للدعوة إلى وقف دائم لإطلاق
النار وتقييد كيفية استخدام دولة الاحتلال للأسلحة الأمريكية وغيرها من المساعدات
العسكرية في غزة.
ونهاية العام الماضي، دعا مسؤولون في
مناصب مختلفة بإدارة بايدن عبر رسالة مشتركة إلى وقف بيع الأسلحة لدولة الاحتلال.
ودفع ارتفاع عدد الشهداء الفلسطينيين
مجموعة تطلق على نفسها اسم "الفيدراليون المتحدون من أجل السلام" إلى
تنظيم إضراب للعاملين من عشرين وكالة اتحادية بداية هذا العام.
وفي الشهر التالي، توفي أرون بوشنيل،
وهو جندي أمريكي يبلغ من العمر 25 عاما، بعد أن أشعل النار في نفسه أمام السفارة
الإسرائيلية في واشنطن؛ احتجاجا على حرب غزة.
ولعدة أشهر، سعى مسؤولو إدارة بايدن إلى
معالجة الأصوات المعارضة، وشارك وزير الخارجية أنتوني بلينكين في "جلسات
استماع" مع الموظفين الأمريكيين العرب والمسلمين واليهود .
لكن كل ذلك لم يوقف حالة الإحباط التي
تتسع، فيما بلينكن وكبار مستشاريه يتجاهلون الإحباط الداخلي المتزايد إزاء سياسة
الخارجية الأمريكية.
استقالة أنيل شيلين قد لا تكون مؤثرة
بشكل حاسم، لكنها ألقت الضوء على التحولات في رؤية الكثير من الأمريكيين لطبيعة
دولة الاحتلال، وما تشكله من خطر على مصالح الولايات المتحدة نفسها وعلى العالم.
وعبرت عن تيار صامت يخاف التحدث لأسباب
شخصية، تقول أنيل: "يشعر الكثير من زملائي بالخيانة، أكتب لنفسي ولكني أتحدث
باسم كثيرين آخرين، بما في ذلك الفيدراليون المتحدون من أجل السلام".
رسالتها التي كتبتها للعالم تشرح فيها
ظروف الاستقالة والتي ربما تجعل كثيرون يستيقظون ويزيحون الغشاوة عن عيونهم وعن
ضمائرهم: " آمل أن تسهم استقالتي في الجهود العديدة لدفع الإدارة إلى سحب
دعمها للحرب الإسرائيلية، من أجل مليوني فلسطيني تتعرض حياتهم للخطر، ومن أجل
مكانة أمريكا الأخلاقية في العالم".
أنيل شيلين صوت شجاع، فضلت خسارة منصبها
ومصالحها على أن تخون ضميرها.