عقب مصرع الرئيس
الإيراني إبراهيم رئيسي أعلن الناطق باسم مجلس صيانة
الدستور في إيران هادي طحان نظيف أنّ مهام الرئيس الراحل ستوكل إلى نائبه الأول
محمد مخبر وفقا لمواد الدستور، ولكن يبقى ذلك، إجرائيا على الأقل، مشروطا بموافقة
المرشد الأعلى للثورة علي خامنئي. فالمادة 131 من الدستور نفسه تقتضي ذلك. وسيكون
دور محمد مخبر محدودا وستكون سلطاته منقوصة. فلن تُطلق عليه صفة الرئيس ولن يتسنّى
له طلب إعادة النظر في الدستور أو حجب الثقة عن الوزراء وفق المادة 132. وسيتقاسم
هذه السلطة مع نائبه الأول ورئيس البرلمان ورئيس السلطة القضائية حتى إجراء
الانتخابات في غضون خمسين يوما.
لقد أجيز دستور الجمهورية الإسلامية الإيرانية، الذي أعدّه مجلس
خبراء القيادة في 175 مادة سنة 1979 م بعد استفتاء شعبي. ثم تمّ تعديله بعد عشر
سنوات. فدُمج منصب رئيس الوزراء مع منصب رئيس الدولة وسمّي المنصب الجديد
رئاسة
الجمهورية. وأصبحت فصوله الأربع عشرة تضم مائة وسبعا وسبعين مادّة. ولكنه ظل يفرض
على ممارسة الحكم قيودا كثيرًا ما تذمّر منها السّاسة شأن الرئيس الإصلاحي السابق حسن روحاني أو
السياسي المحافظ محمد رضا باهنر. فدفعتنا هذه الوضعية المركّبة إلى تملي مواد
الدستور الإيراني لمحاولة التّبسط في كيفية تنظيمه للسلطات والبحث في طبيعة ضبطه
للعلاقات بين أطرافها وتحديد أرضيتها الفكرية.
1 ـ مهام الرئيس في الدّستور الإيراني
في الدستور الإيراني موادّ عديدة تضبط مهام الرئيس. ولكنها موزّعة
بين الفصول المختلفة. فتوجب المادة السادسة "أن تُدار شؤون البلاد في جمهورية
إيران الإسلامية بالاعتماد على
رأي الأمة الذي يتجلى بانتخاب رئيس الجمهورية،
وأعضاء مجلس الشورى الإسلامي وأعضاء سائر مجالس الشورى ونظائرها، أو عن طريق
الاستفتاء العام في الحالات التي نص عليها الدستور".
ووفقا للمادة الثالثة عشر بعد المائة "يعتبر رئيس الجمهورية
أعلى سلطة رسمية في البلاد بعد مقام القيادة، وهو المسؤول عن تنفيذ الدستور، كما
أنه يرأس السلطة التنفيذية" وتستثني هذه المادة شأنها شأن المادة الستين "المجالات
التي ترتبط مباشرة بالقيادة أو ما يخصّص للقائد مباشرة". وتمنحه المادة
السابعة والثمانون صلاحية تشكيل مجلس الوزراء ـ ولكن يجب "وقبل أي خطوة ـ أن يحصل لهم على ثقة مجلس الشورى الإسلامي،
ويستطيع خلال فترة تولّيه أن يطلب من مجلس الشورى الإسلامي منح مجلس الوزراء الثقة
في الأمور المهمة، والقضايا المختلف عليها".
ولئنّ نصت المادة الرابعة عشر بعد المائة على أنّ الرئيس ينتخب
انتخابا مباشرا من قبل الشعب فإنّ المادة التي تليها تفرض عليه المرور عبر مصفاة
مجلس صيانة الدستور. فلا بدّ أن يكون "من بين الرجال المتدينين" ولا بدّ
أن تتوفر فيه الأمانة والتقوى. وأن يكون "مؤمنًا
ومعتقدًا بمبادئ جمهورية إيران الإسلامية والمذهب الرسمي للبلاد". وفضلا عن
مسؤوليته أمام الشعب وممثليه (مجلس الشورى الإسلامي) يكون مسؤولا أمام القائد.
2 ـ مهام القائد ودور الخبراء المنتخبين
انطلاقا من المرجعيات الشيعية يشار إلى قائد البلاد بالمرشد الأعلى
للثورة الإسلامية أو الإمام أو الولي الفقيه. ولكن هذه الإشارات مجرّد تواضع لا
أكثر. والدستور الذي يخصص الفصل الثامن ليضبط كيفية اختياره يقتصر على وصفه
بالقائد. فتذكر المادة السابعة بعد المائة ما يلي: "بعد المرجع المعظم
والقائد الكبير للثورة الإسلامية العالمية ومؤسس جمهورية إيران الإسلامية سماحة
آية الله العظمي الإمام الخميني (قدّس سره الشريف) الذي اعترفت الأكثرية الساحقة
للناس بمرجعيته وقيادته، توكل مهمة تعيين القائد إلى الخبراء المنتخبين من قبل
الشعب...". فيختارون من يرونه أعلم بالأحكام والموضوعات الفقهية ويعلنونه
قائدا. ويمكن أن يكون هذا العَلم من بينهم أو من خارج المجلس. ورغم ما يوكل له من
ولاية للأمر و تحمّل لكل المسؤوليات المترتّبة عليها، ينصّ الدستور على أنّه
يتساوى مع كل أفراد البلاد أمام القانون. وتضبط المادة التاسعة بعد المائة منه
الشروط اللازم توفرها في القائد وصفاته مما يؤهله ليكون السلطة العليا. فتتعلّق
عامّة بالكفاءة العلمية الدينية والسياسية والاجتماعية والإدارية والتدبير
والشجاعة والقدرة الكافية للقيادة.
وتضبط المادة العاشرة بعد المائة وظائفه وصلاحياته. فمن مهامه، تعيين
السياسات العامة لنظام جمهورية إيران الإسلامية، بعد التشاور مع مجمع تشخيص مصلحة
النظام، والإشراف على حسن تطبيقها وإصدار الأمر بالاستفتاء العام والقيادة العامة
للقوات المسلحة وإعلان الحرب والسلام والنفير العام وتنصيب كبار المسؤولين أو
عزلهم أو قبول استقالة من يتخلّى عن مهامه منهم. ويُعهد إليه تنظيم العلاقات بين
السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية وحل ما ينشأ بينها من الخلافات.
ويؤكّد الدستور الإيراني بجلاء سلطته على رئيس الجمهورية. فهو من
يمضي حكم تنصيبه بعد إجراء الانتخابات. وله أن يعزله إن اقتضت مصلحة البلاد
ذلك. ولكن بعد صدور حكم المحكمة العليا
يثبت تخلفه عن وظائفه القانونية أو بعد رأي مجلس الشورى الإسلامي بعدم كفاءته
السياسية على أساس المادة التاسعة والثمانين.
3 ـ أدوار المؤسسات الدستورية ووظائفها
فضلا عن القائد والرئيس تسهم مؤسسات عديدة في نظام الحكم وفق علاقات
المتشابكة، وفضلا عن السلطة القضائية يتولّى مجلس الشورى الإسلامي السلطة
التشريعية. فتنصّ المادة السابعة على أنّ مجلس الشورى الإسلامي وأعضاء سائر مجالس الشورى تمثّل مصدرا من مصادر
اتّخاذ القرار وإدارة شؤون البلاد وتشمل هذه المجالس، مجلس الشورى الإسلامي،
ومجالس شورى المحافظة والقضاء والبلدة والقصبة والناحية والقرية ومجالس شورى
المؤسسات الاقتصادية والإدارية. ويتمثّل هدفها في [إشراك الشعب في التطبيق الناجح
والسريع للبرامج الاجتماعية والاقتصادية والعمرانية]. ويعيّن القانون كيفية تشكيل
هذه المجالس وحدود وظائفها وصلاحياتها.
ويضطلع مجلس صيانة الدستور بدور المحكمة الدستورية. ولمّا كان
الدستور يقتضي أن تصدر جميع القوانين والقرارات في مختلف مجالات الحياة إلى
الخلفية الإسلامية أشارت المادة الحادية والتسعون إلى أنه "يتم تشكيل مجلس
باسم، مجلس صيانة الدستور، بهدف ضمان مطابقة ما يصادق عليه مجلس الشورى الإسلامي
مع الأحكام الإسلامية والدستور." فيُعهد إلى الفقهاء ورجال القانون دور
المراقبة. ولكنه يبقى مؤسسة تابعة للقائد لكونه يعيّن نصفهم.
4 ـ محاولة في تصنيف طبيعة النظام الإيراني
يمكننا أن نذهب، في ظل الدساتير المقارنة، إلى أن الحكم في إيران
يبدو قريبا من النّظام الرئاسي. فالدستور يفصل السلطات الثلاث ويجعل السلطة
التنفيذية تجتمع لدي مؤسسة قيادة الثورة ومؤسسة الرئاسة. فتكون لديهما معا صلاحيات
واسعة. والرئيس ينتخب عن طريق الاقتراع المباشر. ويشكل حكومته لتنفيذ برنامجه
السياسي تكون مسؤولة أمامه بعد أن يجيزها مجلس الشّورى. ويبدو حرص الدستور
الإيراني جليّا على أن يأخذ بعين الاعتبار التداول السلمي على السلطة. وفي الآن
نفسه في هذا الدّستور ما يجعل الحكم قريبا من النظام الشبه الرئاسي. فهو نظام
متعدّد الرؤوس يوزّع مراكز النفوذ على سلطات ومؤسسات دستورية تمنع الرئيس من
الاستئثار بالحكم.
والمعضلة في محاولة التصنيف هذه أنها تعتمد البعد الشّكلي الصرف. ففي
العمق وفي الإجراء أيضا لا تحول المؤسسات الدستورية الكثيرة والمتداخلة دون سلطة
القائد المطلقة غير المحدّدة بزمن. فكل المؤسسات تحت رقابته أو سيطرته. وسلطته فوق
سلطة رئيس الجمهورية وسلطة مجالس الشورى. فيمكنه عزل الرئيس أو حل مجالس الشورى في
حال ما قدّر انحرافا ما عن الوظائف القانونية. ويكون لمجلس صيانة الدستور التابع
له سلطة تقدير مدى ثبوت "مخالفة
موازين الشريعة والدستور" ـ
5 ـ النظام الإيراني من التداول السلمي على
السلطة إلى الحكم الثيوقراطي
أ ـ دستور ضمن أفق ولاية الفقيه
يكرّس الدّستور الإيراني سلطة الفقيه على مختلف مظاهر الحياة.
فالقائد الذي يختار على أساس مدى تفقّهه أولا وانضباطه لمقولات الفقه الشيعي
وقدرته على إنفاذها في الحياة العامّة، يهيمن على بقية السلطات. فيفرغها من أي
صلاحياتٍ حقيقية ويحرمها من حق مراقبة عمله، ما يجعل منه مطلق الصلاحيات، متحرّرا
من الضوابط والإكراهات.
تمثّل والإمامة المركز في هذا المعتقد. فهو منصب إلهي يُنزّل ضمن تصوّر الشيعية لعدم انقطاع الوحي بموت الرّسول واستمراره مع هؤلاء الأئمة. فالله وحده الذي يختار الإمام ويعينه في منصبه. ويشير إليه بما يتعيّن عليه أن يفعل. ولكن العقل الشيعي واجه معضلة جسيمة. فكيف السبيل لتدبير شؤون المسلمين في فترة الفراغ هذه الممتدّة بين اختفاء الإمام وظهوره مجدّدا في آخر الزّمان والتي تسمى عندهم بعهد الغيبية؟.
تمثّل هذه الهيمنة في حقيقة الأمر تجسيدا لمفهوم و"لاية الفقيه
الجامع للشرائط في عصر الغيبة وحاکميته بحيث ينوب الولي الفقيه عن الإمام المنتظر
في قيادة الأمة وإقامة حکم اللّه على الأرض". وفقا للموسوعات الشيعية الموجّهة للدستور
الإيراني. وبالفعل فالفصل الأول منه، وعنوانه الأصول العامّة، يضبط الأرضية
الفكرية لكل مواده. فينصّ التفريع الخامس من المادة الثانية على أنّ نظام
الجمهورية الإسلامية يقوم على أساس "الإيمان
بالإمامة والقيادة المستمرة، ودورها الأساس في استمرار الثورة التي أحدثها الإسلام"
وتشير المادة الثانية عشرة إلى أنّ "الدين الرسمي لإيران هو الإسلام والمذهب
الجعفري الاثنا عشر، وهذه المادة تبقى إلى الأبد غير قابلة للتغيير".
ومعتقد الشيعة الإمامية الإثنا عشرية كما نعلم يرى أن اثني عشر إماما
تعاقبوا على منصب الإمامة بعد وفاة النبي أوّلهم علي بن أبي طالب وآخرهم محمد بن
الحسن العسكري، الإمام الذي اختفى عن الأنظار سنة 329هـ، ولكنّه، وفق معتقدهم،
سيظهر في آخر الزمان بعد أن تمتلئ الأرض جورا ليقيم دولة الحق والعدل.
وتمثّل والإمامة المركز في هذا المعتقد. فهو منصب إلهي يُنزّل ضمن
تصوّر الشيعية لعدم انقطاع الوحي بموت الرّسول واستمراره مع هؤلاء الأئمة. فالله
وحده الذي يختار الإمام ويعينه في منصبه. ويشير إليه بما يتعيّن عليه أن يفعل.
ولكن العقل الشيعي واجه معضلة جسيمة. فكيف السبيل لتدبير شؤون المسلمين في فترة
الفراغ هذه الممتدّة بين اختفاء الإمام وظهوره مجدّدا في آخر الزّمان والتي تسمى
عندهم بعهد الغيبية؟.
لا بدّ من ولاية كبار الفقهاء وتدخّلهم لسدّ ما يحدث من فراغ تشريعي
عندئذ، وفق معتقد الشيعة الإمامية الإثنا عشرية. فينوبون الإمام ليرشدوا المسلمين
إلى ما يتعيّن عليهم فعله. ويتولّون الإفتاء في الأحكام الشرعية. ويحسب لآية الله
الخميني تجسيد هذه التصوّرات عمليّا. فقد منح الفقيه المرشد سلطة مطلقة تجمع بين
دور الإمام والرسول. وكان لفكره هذا انعكاسه المباشر على الدستور الإيراني. فجاء في مادته الخامسة منه "في زمن غيبة
الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه) تكون ولاية الأمر وإمامة الأمة في جمهورية
إيران الإسلامية بيد الفقيه العادل، المتقي، البصير بأمور العصر، الشجاع القادر
على الإدارة والتدبير".
ب ـ النظام الإيراني.. من الحكم بشريعة الله إلى الحكم باسمه ومشيئته
تقصي المادة الثانية من المشهد السياسي من لا يمارس
السياسة على أساس
"الإيمان بالله الأحد (لا إله إلا الله) وتفرده بالحاكمية والتشريع، ولزوم
التسليم لأمره. والإيمان بالوحي الإلهي ودوره الأساس في بيان القوانين والإيمان
بالإمامة والقيادة المستمرة، ودورها الأساس في استمرار الثورة التي أحدثها الإسلام".
فتجسّد سلطة الفقيه المطلقة على الحياة السياسية بحكم نيابته عن الإمام الغائب.
يؤكد الخمينيّ في كتابه "الحكومة الإسلاميّة"، ترجمة وإعداد مؤسّسة
تنظيم ونشر تراث الإمام الخمينيّ، في الصفحة 86 الامتياز الفقهاء هذا، متحدثا عن
منزلهم في تدبير الشأن العام. فـ"ـلو أسّس الشخص الحائز هاتين الخصلتين
الحكومة"، ويقصد شرط الكفاءة الدينية التي تتجسّد عبر العلم والسلوك والكفاءة
لسياسية، "تثبت له الولاية نفسها التي كانت ثابتة للرسول الأكرم الله عليه
وآله وسلم، ويجب على جميع الناس إطاعته".
ضمن هذه الأرضية الفكرية إذن يتنزّل الدستور الإيراني. فيهمش دور رئيس الدولة ويقصر دوره على صلاحيات وزير أوّل في النّظام الرئاسي ويختزله في
سياساته وتكريس سلطته المطلقة. وبالمقابل يوجّه مواده كلّها لفائدة الفقيه المرشد
الموجّه الذي يستفيد من عهد الغيبة. ويجعله يستأثر بدور الأنبياء والفقهاء. فيعبر
بالإسلام السياسي من طموح الحكم بشريعة الله إلى منوال ثيوقراطي يجعل من الفقيه
مصدرا للشريعة وحاكما باسم الإله.