ندع جانبا كل الذين قالوا ما جدوى الحرب، وننظر لنتائج تتراكم على طريق
تحرير
فلسطين، كل فلسطين، وحرب الطوفان، تظهر لنا في هذه اللحظة دفعة قوية على هذا
المسار، أثمرت حتى الآن الاعتراف بدولة فلسطينية مستقلة من قبل ثلاث دول وازنة في
أوروبا. "معليش" ستجني شلة أوسلو المكسب مؤقتا، ونراها تتخير من أزلامها
السفراء، ولكن المعترفين بالدولة أعرف بقانون الزمن، سيكون هناك سفراء من رحم حرب
الطوفان، يؤمنون فعلا بدولة فلسطينية مستقلة، سيملؤون المكان/ المهمة بروح
استقلالية.
تذكير بتناقضات الموقف الغربي
من الضروري ونحن نقرأ قرار المدعي العام في المحكمة الجنائية الدولية، ونعجب
لخلطه بين المجرم والضحية، أن نذكر بأن هذا النفاق ليس جديدا، فالدول الغربية في
عمومها فتحت سفارات لمنظمة التحرير الفلسطينية، باعتبارها حركة مقاومة تقود شعبا
تحت
الاحتلال نحو استعادة حقوقه، وهي المنظمة التي ولدت وقادت شعبها تحت بريق
ميثاق الأمم المتحدة، الذي يقر حق الشعوب المحتلة في تقرير مصيرها. لكن هذا الشعب
المحتل يصير إرهابيا، عندما يقاوم مقاومة مشروعة؛ هي بعض حقه المثبت بقانون الطبيعة
وبقانون الأمم المتحدة.
أن يمتد الوعي إلى السياسات العامة، فهذا مكسب أعظم، تنجر عنه مواقف مختلفة وعلاقات سياسية، لا تمر من زواريب اللوبيات الصهيونية الداعمة للكيان والمانعة لكل تحالفات أو مواقف ضده. هل حررت حرب الطوفان عقل العالم؟
لم تجد دول الغرب تناقضا بين الاعتراف بحق
المقاومة القانوني ووصف
أعمالها بالإرهاب، خاصة وهي ترى كيف أن من رفض المقاومة العنيفة، وقبل بأوسلو
والتنسيق الأمني، لم يجنِ مكسبا واحدا يسمح له بالحياة. والحقيقة أنه لا تمكن قراءة
مواقف هذه الدول وسياساتها، إلا كتكملة/ تغطية لسياسات المحتل، فهي تعمل على طمس
قضية وحق شعب، وتغيير عالم بعقل احتلالي إحلالي، لا يختلف في شيء عما كان سائدا في
سياساتها منذ القرن التاسع عشر حين خرجت جيوشها لسرقة روح العالم.
أن تحرك حرب الطوفان مشاعر الشعوب وتكشف التاريخ مكسب عظيم، لكن أن يمتد
الوعي إلى السياسات العامة، فهذا مكسب أعظم، تنجر عنه مواقف مختلفة وعلاقات سياسية، لا تمر من زواريب اللوبيات الصهيونية الداعمة للكيان والمانعة لكل تحالفات أو
مواقف ضده. هل حررت حرب الطوفان عقل العالم؟ نظن أن هذه الجملة ستكتب كثيرا، وستتحول إلى قاعدة تحليل ثم إلى حركة في التاريخ، ولا يهم هنا من يختار لمنصب
السفير.
مكاسب أخرى
تهمة معاداة السامية التي يرجم بها كل من قال كلمة في حق الشعب الفلسطيني
لم تعد تخيف، هذا ما يقوله لنا الحراك الطلابي العالمي والمسنود شعبيا، الذي بدأ
من الجامعات الأمريكية ووصل إلى جامعات العالم المؤثرة كلها. في الجامعات تصنع النخب،
والنخب تضع سياسات المستقبل ولو بعد حين. ستتأخر نتائج هذا الحراك العالمي قليلا
إلى حين تصل بعض هذه النخب إلى مواقع القرار، ولكن البذرة زُرعت في أرض بها حريات
كثيرة، بخلاف الأرضيات التي تتحرك في الشعوب العربية، ولا يستهين بأثر الحرية، إلا
من تربى تحت سقوف القمع الواطئة.
أن تظهر نجمة سينمائية بالراية الفلسطينية في ملابسها (وباحتشام عجيب) على
الزربية الحمراء في مهرجان السينما الأكثر تأثيرا في عالم الفن (مهرجان كان
الفرنسي)، فهذا ليس مكسبا هينا، فهؤلاء النجوم والنجمات هم أيقونات للشباب ولذوي
الثقافة المتوسطة؛ ينشرون وعيا ويصنعون رمزيات لا تتلاشى بسهولة.
ووجب في هذه الأيام، أن نخفف قليلا من حركة التأثيم الذاتي للشعوب العربية
وصمتها عن إسناد حرب الطوفان، فهي حتى اللحظة في مواقع التعاطف القلبي، ولم تؤثر في
شوارعها.
جمهور الملاعب الرياضية، هو نافذة لقراءة موقف الشعوب العربية، وما قام به
فريق الترجي الرياضي
التونسي، يعد علامة فارقة في مشهد يظهر من الخارج كأنه تخلّ عن المقاومة وتركها بلا سند، ولكن الجوهر المكنون غير ذلك. ولنذكر أنه منذ سنوات
قليلة مضت، كانت أنظمة التوجيه المخابراتي قد أحدثت ما يشبه الحرب الأهلية بين شعوب
عربية، على خلفية كرة القدم (بين مصر والجزائر، وبين مصر والسودان).
الشعوب العربية التي رفعت "الشعب يريد تحرير فلسطين" بالتوازي مع
"الشعب يريد إسقاط النظام"، تحتاج بعض الاحترام هذه الأيام، فهي مع
المقاومة بقلوبها وبكثير من فعالها، غير أنها حُرمت حرياتها وفي مواضع كثيرة حُرمت
من الحد الأدنى الضروري من المعيشة، فهي تكافح للبقاء، ووضعها في ردهات كثيرة لا
يختلف عن
غزة تحت الاحتلال. وهذا القدر من الاحترام يساعدها على البقاء في خط
المقاومة، ولو في حدود ما ينجز الآن، ولا شك أن فرصة ما ستواتي لتنفجر هذه الشعوب
بموقفها الحقيقي، وهذا من مكاسب الطوفان. لقد اقتنع الناس بأن النصر قريب، وأن
العدو إلى زوال. لقد بدأ حساب الزمن الباقي له، وهذا ليس إفراطا في التفاؤل.
الشعوب العربية التي رفعت "الشعب يريد تحرير فلسطين" بالتوازي مع "الشعب يريد إسقاط النظام"، تحتاج بعض الاحترام هذه الأيام، فهي مع المقاومة بقلوبها وبكثير من فعالها، غير أنها حُرمت حرياتها وفي مواضع كثيرة حُرمت من الحد الأدنى الضروري من المعيشة، فهي تكافح للبقاء، ووضعها في ردهات كثيرة لا يختلف عن غزة تحت الاحتلال.
وجب تجاوز المخذلين
الصورة الوردية الموصوفة أعلاه، لا تغفل عن وجود تيار مخذل ممتد على طول
الخارطة العربية، بدءا من جماعة "جاهد بالسنن يا أبا عبيدة". عمق هذا
التيار موجود وسط النخب العربية، وهو يمتد من شيوخ السلطة إلى يسار الأنظمة.
تكفيريون واستئصاليون يرون في نصر المقاومة انتصارا فئويا، فيقولون إنه نصر حماس
الإخوانية، وهو قولهم نفسه في الربيع العربي؛ بأنه مؤامرة غربية (ربيع عبري) لتحكيم
تيار الإخوان، دون أن ينتبه كل هؤلاء لطبيعة الانقلاب في مصر، فاتحة الردة على
الربيع العربي.
هذا التيار يملك السلطة السياسية والفكرية وخاصة الإعلامية، وهو من يخذل
حتى يصير التنسيق الأمني المقدس لشلة أوسلو حلا عندهم، ما دام يمنع حماس من الحياة
(كأن حماس نزلت من السماء ولم تخرج من رحم الشعب الفلسطيني!).
وجب تجاوز هؤلاء بوعي حاد بأنهم الطابور الخامس الذي يخدم مصلحة العدو،
ولكن كيف يكون ذلك؟ إنها معضلة تطرح نفسها على بقية نخب عربية لا نشك في وجودها
وصدقها، وإن كنا نبحث عنها بصعوبة خارج التعاطف القلبي، الذي سهلته الحواسيب
والهواتف الذكية دون أن يخرج إلى الشارع.
مفتاح هذا في تقديرنا، أن يربط كل نضال وطني من أجل الحرية بمجريات حرب
الطوفان، ونتائجها الآنية والبعيدة، ويكون ذلك أبعد من بيانات التعاطف التي جرى بها
الأمر منذ تأسست معارضة الأنظمة في البلدان العربية، التي اكتفت دوما ببيان حق
الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره.
حتى اللحظة، نكتب هذا كإمكان نظري أو أمنية جميلة، ولا نجد الجمل التفصيلية
لتحويله إلى برنامج عمل سياسي، ولكن يتبين لنا أن لا معنى لحرية شعب عربي في قُطره
دون حرية الشعب الفلسطيني وسيادته، وسأعطي مؤشرا وحيدا أو علامة على الطريق؛ لقد
تعرضت تونس من بين كل بلدان الربيع العربي إلى اعتداء غربي إجرامي على تجربتها
السياسية الديمقراطية؛ لأنها بادرت بشعار الشعب يريد تحرير فلسطين، وأرسلت حكومتها
إلى غزة فجعلت الإمكان واردا، فتم تدمير التجربة حتى عاد الشعب التونسي إلى طوابير
الخبز جائعا خائفا يترقب. من لم يبدأ من تلك النقطة، فالطوفان لم يصل إليه بعد، لكن
سيكون ممن يجرفهم الطوفان، وقد يكون ذلك بجمهور كرة القدم ذات هبّة مجنونة.