وكأن
مصر تنقصها حرائق طائفية، حتى يتم استدعاء البابا
تواضروس، بطريرك الأقباط
الأرثوذكس، ليصب مزيدا من الزيت على النار بتصريحاته الاستفزازية ضد الرئيس الراحل
الدكتور
محمد مرسي رحمه الله. جملة من الاتهامات والادعاءات والأكاذيب تضمنها حديث
البابا لإحدى القنوات التابعة للأجهزة الأمنية المصرية قبل أيام، كشفت ما كان
البابا يخفيه من قبل، مثل حالة الفرح الشديد بتسرب أنباء فوز الفريق أحمد شفيق في
الانتخابات الرئاسية عام 2012، التي انقلبت بعد دقائق قليلة إلى حالة حزن وبكاء
وعويل بعد التأكد من فوز الدكتور محمد مرسي، ثم جملة من الانطباعات السلبية التي رسمها
عن الرئيس مرسي عبر لقاءاته واتصالاته معه، عقب توليه رئاسة لجمهورية ورئاسة تواضروس
للكنيسة، وادعائه أن مصر كانت تسرق من أهلها بوصول مرسي إلى الرئاسة (لا أدري من
هم أهلها الذين يقصدهم)، وأن كلام مرسي الشفهي لا يعكس ما في قلبه، وكأن البابا شق
عن صدر الرئيس فعلم ما يدور داخله.
في
هذا الحديث التلفزيوني أيضا، اعترف البابا أنه كان داعما للانقلاب على مرسي، ليس
فقط بحضوره مشهد الانقلاب يوم 3 تموز/ يوليو 2013 بل قبل ذلك؛ حين زارته كاترين أشتون،
مفوضة العلاقات الخارجية في الاتحاد الأوروبي على رأس وفد أوروبي رفيع، التي
حدثته أن مرسي رئيس منتخب فكيف تناهضونه وتريدون عزله؟ ولكنه رد عليها ردودا لم
تقنعها عن مبررات الخروج على مرسي، فراح يردد أمامها جملة من الأكاذيب التي انتشرت
في ذلك الوقت، ومنها أن مرسي باع حلايب وشلاتين للسودان، وأنه يستعد لبيع سيناء، وقد
يبيع القاهرة نفسها.
من المفارقات أن من عيّن تواضروس بابا للأقباط هو الرئيس مرسي، وذلك بعد إجراءات القرعة الهيكلية داخل الكنيسة، وسيظل توقيع مرسي على قرار تعيين البابا مسجلا غير قابل للمحو إلى يوم الدين، وإذا كان البابا يستحيي من هذا التوقيع، فعليه أن يعد كل إجراءات تنصيبه لاغية، ويعيدها ليقوم السيسي بالتوقيع عليها، لكنه حتما لن يفعل ذلك.
هذه
التصريحات تمنحنا الفرصة لحوار موضوعي حول موقف مرسي وحكومته من الأقباط، بعد أن
عرفنا الآن وبشكل مباشر كيف كان موقف الكنيسة منه، وهذه فرصة أيضا لحوار غير مباشر
مع البابا نفسه، بصفتيه الدينية و"السياسية" التي يتنصل منها كثيرا، لكنها
لا تفارقه أبدا.
* * *
من
المفارقات أن من عيّن تواضروس بابا للأقباط هو الرئيس مرسي، وذلك بعد إجراءات
القرعة الهيكلية داخل الكنيسة، وسيظل توقيع مرسي على قرار تعيين البابا مسجلا غير
قابل للمحو إلى يوم الدين، وإذا كان البابا يستحيي من هذا التوقيع، فعليه أن يعد كل إجراءات تنصيبه لاغية، ويعيدها ليقوم السيسي بالتوقيع عليها، لكنه حتما لن يفعل
ذلك.
لم
يكتف مرسي بتوقيع قرار تعيين تواضروس وهو إجراء بروتوكولي، بل إنه هنأه على
اختياره، واستقبله في القصر الرئاسي مع وفد كنسي، وحاول تقديم رسائل طمأنة
للمسيحيين من خلاله، وهي الرسائل التي ادعى البابا في حديثه الأخير، أنه لم يكن
يصدقها لأنها ليست نابعة من القلب!! وحرص مرسي لاحقا على استشارة الكنيسة في
تعيينات الأقباط في الوزارة، أو مجلس الشورى، أو بعض الهيئات الأخرى، ولكن كل ذلك
لم يشفع لمرسي عندها.
لنعد
إلى الخلف قليلا، فبعد ثورة 25 يناير، حرص الإخوان على التواصل مع الكنيسة المصرية
طلبا لحوار معها حول هموم وهواجس الإخوان، وقد كنت شخصيا رفقة زميل آخر من نقلْنا
هذا الطلب إلى الأنبا موسى، أسقف الشباب، بحكم علاقة صداقة قديمة جمعتنا به، وقد
استقبلَنا في مكتبه مرحبا بهذا الطلب، واعدا بنقله إلى البابا شنودة في ذلك الوقت،
ثم رد علينا بأن البابا سيعرض الطلب على مجلس كنسي مشترك مع الطوائف المسيحية
الأخرى. ثم لم يأت رد بعد ذلك فتيقنّا أنه الرفض للفكرة، فكان البديل لذلك هو حوار
مع الأقباط خارج الكنيسة، عبر مسارين أحدهما شبابي بين شباب الإخوان والشباب
القبطي، وقد تمت منه عدة جولات في مكتب الإرشاد ومكتب المهندس خيرت الشاطر، نائب
مرشد الجماعة، وبعض الجمعيات المسيحية، ومسار آخر مع شخصيات مسيحية مدنية، وقد عقدت
بعض جلساته في نقابة الصحفيين المصرية، وهي حوارات لم تستمر طويلا، لكنها أسست
لعلاقة انفتاح بين الطرفين، وبنت قدرا من الثقة، وعبر خلالها الأقباط عن مخاوفهم، وتم التعاطي الإيجابي معها.
وعقب
وفاة البابا شنودة في آذار/ مارس 2011 توجه الدكتور مرسي بصفته رئيس حزب الحرية
والعدالة على رأس من قيادات الحزب؛ ضم نائب رئيس الحزب الدكتور عصام العريان،
وحسين إبراهيم، زعيم الأغلبية في البرلمان، والمهندس سعد الحسيني، رئيس لجنة الخطة
والموازنة في البرلمان؛ إلى مقر الكاتدرائية لأداء واجب العزاء.
حين وصل مرسي إلى الحكم، كأول رئيس مدني عبر صندوق الانتخابات (وهو ما أحزن الأقباط بتعبير البابا)، حرص على اختيار مسيحي لأول مرة كمساعد لرئيس الجمهورية، وهو المهندس سمير مرقس، صحيح أن شخصيات مسيحية تولت مناصب مثل رئاسة الحكومة أو البرلمان في العهد الملكي، ولكنها لم تتجاوز وزارات الدرجة الثانية في العهد الجمهوري.
* * *
حين
وصل مرسي إلى الحكم، كأول رئيس مدني عبر صندوق الانتخابات (وهو ما أحزن الأقباط
بتعبير البابا)، حرص على اختيار مسيحي لأول مرة كمساعد لرئيس الجمهورية، وهو
المهندس سمير مرقس، صحيح أن شخصيات مسيحية تولت مناصب مثل رئاسة الحكومة أو
البرلمان في العهد الملكي، ولكنها لم تتجاوز وزارات الدرجة الثانية في العهد
الجمهوري، فكان منصب مساعد رئيس الجمهورية هو الأرفع لشخصية مسيحية منذ 80 عاما
على الأقل (تولى بطرس غالي الجد منصب رئيس الوزراء في 1908-1910 وتولى ويصا واصف
منصب رئيس البرلمان في 1928).
كان
سمير مرقس من المثقفين الأقباط غير الطائفيين، وشارك مع بعض المثقفين الأقباط
الآخرين في بناء جسور تواصل حقيقية مع مثقفين ونخب إسلامية، ساهمت معا في خفض
التوترات
الطائفية. وقد شاركته شخصيا ضمن اللجنة الشعبية للوحدة الوطنية منتصف
التسعينيات؛ ضمت أيضا الراحلين عادل حسين، وحسن دوح، وصلاح عبد المتعال، وجورج
إسحق، وجورج عجايبي، ومن الأحياء: أحمد الجمال، وجمال أسعد عبد الملاك.
وكانت
مواقفه (سمير مرقس) الوطنية هي التي أهلته لمنصب مساعد الرئيس لأول مرة، وكان
مكلفا ببعض الملفات الرئاسية، لكنه غادر الرئاسة مع احتدام الأزمة السياسية، بعد
الإعلان الدستوري الذي أصدره الرئيس مرسي أواخر تشرين الثاني/ نوفمبر 2012، لتحصين
الجمعية التأسيسية للدستور حتى تنجز مهمتها.
وإلى
جانب سمير مرقس، فقد اختار مرسي ضمن مستشاريه أيضا الدكتور رفيق حبيب، الذي كان
نائبا لرئيس حزب الحرية والعدالة، ثم كان هو الرئيس الأخير للحزب بعد الانقلاب.
والغريب أن سمير مرقس اعترف "بعظمة لسانه" أنه تحرك في الشأن القبطي دون علم الرئاسة التي منحته ثقتها، حيث أكد في حديث تلفزيوني، أنه وقع على وثيقة
تجليس البابا تواضروس بطلب من الكنيسة ودون إبلاغ الرئاسة؛ خشية تأخر أو امتناع
الرئيس مرسي عن التوقيع!!
يكرر
قادة الكنيسة بدءا من البابا تواضروس أسطوانة أن مرسي لم يزر الكنيسة لتهنئتهم في
عيد الميلاد أو عيد القيامة، وهذا صحيح، لكن ما لا يذكره هؤلاء أنه لم يسبق مرسي
أحد من الرؤساء السابقين إلى هذا التقليد، فلا الرئيس محمد نجيب ولا عبد الناصر
ولا السادات ولا مبارك شارك في قداس عيد الميلاد، بل كان التقليد دوما هو إرسال
مندوب من رئاسة الجمهورية، وأحيانا يكون أحد الوزراء المسيحيين. ومع ذلك فقد أرسل
الرئيس مرسي رئيس وزرائه هشام قنديل إلى الكاتدرائية للمشاركة في حفل التجليس،
وهنأ مرسي البابا الجديد (زعم البابا أن التهنئة لم تكن من القلب!!)، واستقبله مع
وفد من كبار رجال الكنيسة بعد أيام من تجليسه كما ذكر تواضروس بنفسه، الذي أوضح
أن الزيارة كانت لشكر الرئيس من ناحية ولتعزيته في وفاة أخته من ناحية ثانية.
وحين
تعرضت الكنيسة للاعتداء عقب أحداث منطقة الخصوص، أمر الرئيس مرسي بتشكيل لجنة
تحقيق، وقال؛ إن الاعتداء على الكنيسة اعتداء عليه شخصيا. وهنا نشير إلى ما قاله
البابا في تصريحاته الأخيرة؛ أنه اتهم علنا خلال تلك الأحداث الرئاسة بالتواطؤ،
وهو اتهام خطير لكنه لم يحدث، وما حدث بالفعل وسجلته وسائل الإعلام جميعا التي
نقلت تصريحات البابا، هو الاتهام بالتقصير في مواجهة المعتدين، وفارق كبير بين
التقصير والتواطؤ، وفي كل الحالات فإن تلك مسؤولية وزارة الداخلية، التي ثبت أنها
لم تكن مخلصة للرئيس مرسي!
* * *
عن
زيارته الأولى للرئيس مرسي لشكره على إصدار قرار تعيين البابا، زعم تواضروس أنه لم
يكن مقتنعا بالرئيس مرسي من حيث الفكر أو حركة الجسد، وأنه لم ير هيبة المنصب التي
كان يراها في مبارك والسادات وعبد الناصر، وأنه خرج بانطباع أن مصر كانت تستحق ما
هو أفضل. وبهذا الانطباع يؤكد البابا عشقه للحكم العسكري وبطشه الذي يعتبره هيبة،
وليس للحكم المدني وسماحته التي يعدها غيابا للهيبة.
كما
يدعي البابا أنه استقبل السفير رفاعة الطهطاوي، رئيس ديوان الرئاسة، بعد شهرين أو
ثلاثة من جلوسه على كرسي البابوية، وأن طهطاوي طلب منه زيارة الرئيس مرسي لالتقاط
بعض الصور معه؛ بهدف تخفيف الاحتقان الطائفي، وأنه رفض ذلك. وهذا كلام لا يصدقه
عقل، فلا السفير رفاعة يمكن أن يطلب طلبا كهذا، ولا البابا يمكن أن يرفض الطلب حال
حدوثه، ولو كان السفير الطهطاوي حرّا طليقا، لقدم روايته الحقيقية لهذا الحدث.
موقف البابا لم ولن يكون محل إجماع قبطي، فقد صدرت عدة تعليقات قبطية تندد بحديث البابا الأخير، ورأت أنه أداة للاستقطاب والفرقة والانقسام والنفخ في النار وفتح الجروح التي لم تندمل، كما انتقدت طعنه في الرئيس مرسي الذي فارق الحياة، ولم يعد بإمكانه الدفاع عن نفسه.
من
غرائب ما ذكره البابا في حديثه، هو شكواه للرئيس مرسي بأن سيدة مسيحية اتهمت
بازدراء الأديان، وحكم عليها القضاء بغرامة 100 ألف جنيه، بينما حكم القضاء على
مسلم في تهمة مماثلة بغرامة 3 آلاف جنيه، وأن مرسي عرض عليه تحمل الرئاسة لغرامة
السيدة المسيحية. وقد سخر البابا من هذا الرد الذي اعتبره مفتقدا للياقة. والحقيقة
أن ما عرضه البابا هو الذي يفتقد إلى اللياقة، إذ ليس من حق مرسي أن يتدخل في
أحكام القضاء، وكان يمكن للكنيسة عبر محامي السيدة التقدم بشكوى للمجلس الأعلى
للقضاء حول تلك الواقعة، وليس إلى رئاسة الجمهورية التي حاولت المساعدة في الحل
بما تستطيع.
لم
يخف البابا تواضروس إذن كراهيته وعداءه للرئيس محمد مرسي قبل وبعد انتخابه، ولم
يتقبل محاولات الرئيس لطمأنته، ولم يخف أنه كان الأكثر حماسا لإتمام الانقلاب عليه،
وذلك في الجلسة التي سبقت إعلان بيان الانقلاب يوم 3 تموز/ يوليو 2013، حيث استدعت
وزارة الدفاع عدة شخصيات للتشاور، فكان منهم من أبدى ترددا أو مخاوف من عواقب
الانقلاب، لكنه هو لم يتردد للحظة واحدة كما ذكر في حديثه الأخير، متجاهلا أن
موقفه ذاك مع مواقفه اللاحقة ساهم في زيادة الاحتقان الطائفي.
ولكن، من المهم هنا التأكيد أن موقف البابا لم ولن يكون محل إجماع قبطي، فقد صدرت عدة
تعليقات قبطية تندد بحديث البابا الأخير، ورأت أنه أداة للاستقطاب والفرقة
والانقسام والنفخ في النار وفتح الجروح التي لم تندمل، كما انتقدت طعنه في الرئيس
مرسي الذي فارق الحياة، ولم يعد بإمكانه الدفاع عن نفسه.. والله فعلا عيب عليك.
x.com/kotbelaraby