في كانون الثاني/
يناير ١٩٨٦ شاع خبر انتحار الجندي طالب الحقوق "
سليمان خاطر" في محبسه بالسجن
الحربي، بعد عشرة شهور من حكم المحكمة العسكرية التي حكمت عليه بالمؤبد في تشرين
الأول/ أكتوبر ١٩٨٥ بتهمة قتل عدد من السياح
الإسرائيليين، الذين حاولوا اجتياز نقطة
الحراسة المكلف بحمايتها في رأس برقة، بين طابا ونويبع، وذلك بعد أن أمرهم بالتوقف
فلم يمتثلوا.
وفي أيلول/ سبتمبر
١٩٩٨ شاع خبر وفاة ضابط المخابرات السابق "
محمود نور الدين" في محبسه بسجن
"مزرعة طرة"، مشفوعا بأنباء تشكك في وفاته بشكل طبيعي، وذلك بعد أحد عشر عاما قضاها في
السجون المصرية، بعد أن حكم عليه القضاء بالمؤبد، بتهمة تشكيل تنظيم
"ثورة مصر"، والقيام بعدة عمليات اغتيال لدبلوماسيين إسرائيليين في القاهرة،
وذلك في أعوام ١٩٨٥ و١٩٨٦ و١٩٨٧.
ولأني راقبت الحدثين
من داخل معتقلي، واللذين أثارا اهتمامي بشكل كبير لأهمية القضيتين، ولأهمية الحدثين
بالنسبة لشعبنا، الذي كان ولا زال متعلقا وجدانيا وثقافيا بفلسطين وبالصراع مع الكيان
الصهيوني، فضلا عن تفاعله الكبير مع الحدثين، والذي لم تكن تخطئه العين حتى من خلف
الأسوار.. ونظرا لاهتمامي السابق
بقراءة كوامن العقل الصهيوني، وكيف يتعامل مع خصومه، لم يمر الحدثان على تفكيري مرور
الكرام، وحاولت أن أجمع الأخبار والمعلومات حولهما من هنا ومن هناك، وقد لاحظت خلال
فترة سجني الطويل أن السجين قد يتاح له من المعلومات ما لا يتاح للأحرار، وقد يكون
مستعصيا عليهم معرفته، سواء تعلق الأمر بالمعلومات خلف الأسوار أم خارجها.
القرائن المتواترة التي توفرت يومها من داخل السجون وخارجها، كانت قد وضعت -على أقل تقدير- علامات استفهام حول وفاتهما، بما كان يوجب فتح الباب لتحقيق شفاف، وإعلان نتائجه على الرأي العام، ولا سيما أن القضية تتعلق باتهام الكيان الصهيوني بانتهاك السيادة الوطنية، والتعدي على مواطنين مصريين على الأراضي المصرية، بل وفي حوزة وحماية الأمن داخل السجون
حاولت أن أعرف هل
كان انتحارهما فعلا ذاتيا، أم أنه شبيه بالانتحار المزعوم للدكتور "كمال السنانيري"،
والذي عاينت قدرا بنفسي ملابسه مدرجة بدمائه، وذلك في سجن استقبال طره بعد استشهاده
بست سنوات، وذلك في بدايات ١٩٨٦، حيث حاولت الاحتفاظ بها دليلا على الجريمة، لكن المراقبات
الأمنية الحثيثة لم تسعفني.
لكن على كل حال فإن
القرائن المتواترة التي توفرت يومها من داخل السجون وخارجها، كانت قد وضعت -على أقل
تقدير- علامات استفهام حول وفاتهما، بما كان يوجب فتح الباب لتحقيق شفاف، وإعلان نتائجه
على الرأي العام، ولا سيما أن القضية تتعلق باتهام الكيان الصهيوني بانتهاك السيادة
الوطنية، والتعدي على مواطنين مصريين على الأراضي المصرية، بل وفي حوزة وحماية الأمن
داخل السجون!
لا زلت أذكر كيف تفاعلت
وزملائي داخل السجون مع القضيتين، بل مع الاغتيالين، فعندما أشيع ما أشيع عن انتحار
"سليمان خاطر"، خرجت المظاهرات في جميع أنحاء مصر، رافضة الاعتراف بالنبأ
الخطير، وملقية اللوم على نظام مبارك، الذي قصّر في حماية سليمان، ويسعى للتغطية على
جريمة الكيان الصهيوني المركبة، وخاصة أنه قد قال في التحقيقات ما ينفي عنه كل شبهة
للانتحار: ''أنا لا أخشى الموت ولا أهابه، إنه قضاء الله وقدره، لكني أخشى أن يكون
للحكم الذي سوف يصدر ضدي آثار سيئة على زملائي الجنود، تصيبهم بالخوف، وتقتل فيهم وطنيتهم".
لا زلت أذكر كيف كنا
نعقد يوميا في سجننا اجتماعا عاما، في انتظار انتهاء زيارات السجن، حيث كان المسجونون
من غالبية محافظات مصر، وكان كل زائر يأتي من زيارته محملا بجملة من الأخبار التي تنقلها
له أسرته، ويعقد لها "مؤتمرا صحفيا" في ساحة السجن، يتناول أهم مظاهر التفاعل
الشعبي في المدن والقرى مع القضية، واستنكارهم لخبر انتحار سليمان، فيما يشبه ثورة
شعبية عمت غالبية المحافظات.
وشاءت الأقدار أن
يكون سجني "ليمان طره" في منطقة المعادي بالقاهرة، قريبا من مسرح عمليات
تنظيم "ثورة مصر" بقيادة ضابط المخابرات "محمود نور الدين" ضد
عملاء الموساد، وشعرت يومها بمطاردات السيارات التي كانت قريبة من السجن في إحدى العمليات،
كما سمع البعض طلقات الرصاص المصاحب لها، وهو ما اضطر إدارة السجن لإغلاق الزنازين
في الظهيرة كإجراء أمني، قبل موعد الإغلاق بعدة ساعات.
لا زلت أذكر كيف تفاعلنا
وتفاعل الرأي العام المصري مع محاكمة "محمود نور الدين" وزملائه، والتي كانت
تمثل استفزازا آخر للمشاعر الوطنية، لدرجة أن أخي "عبود الزمر" أصدر بيانا
يومها من سجنه، برغم تكلفة ذلك الأمنية، يندد بهذه المحاكمة ويطالب بوقفها، لأن الاتهام
يجب أن يتوجه لعملاء الموساد، وليس لمحمود ولا لتنظيم ثورة مصر.
وشاءت الأقدار أن
ألتقي "محمود نور الدين"، حيث تم إيداعه بعيدا عن زملائه "بعنبر التجربة"
بسجن "ليمان طره"، والذي كان يومها أسوأ عنابر سجون مصر، والذي قضيت فيه
وزملائي عدة سنوات قبلها، يعتبرونها ضرورية في عرف إدارات السجون لكسر إرادة المسجون
في بدايات سجنه، وكان هذا العنبر قريبا من "العنبر السياسي" الذي كنت وزملائي
مسجونين فيه آنذاك، وبرغم المقابلات القصيرة والنادرة مع "محمود"، إلا أنها
كانت في غاية الأهمية، لما يتمتع به من أفق سياسي رحب نفتقده كثيرا في ساحاتنا السياسية.
وكان من الضروري لإجراءات
أمن السجون التي تعودنا عليها، أن يكون الفصل لازما وجازما بين القضايا المختلفة، وأن
يكون حظر الاتصال بين المتهمين أو المسجونين فيها واجبا وضروريا، لكن طبيعة محمود أبت
عليه أن يستسلم لذلك، فكان يرفض الاستسلام لتعليمات السجن التي لم يكن يراها ضرورية،
أو لأنها تتعارض مع شهامته.
كان يرفض التعليمات
القاضية بعدم الحديث مع شباب "الجماعة الإسلامية"، والذين هم داخل ذات العنبر
الذي يقيم فيه، والذين صدرت ضدهم أحكام بالإعدام، وذلك بينما هم محبوسون داخل زنازين
لا ترى الشمس، ولا يستطيعون الاتصال بعالم الأحياء، إلا من خلال فتحة صغيرة بالباب،
قطرها خمسة سنتمترات، وكان ينتهز الفرص لكي يتحدث إليهم ويواسيهم ويصبرهم، وذلك خلال
الفسحة التي كانت متاحة له طوال النهار دونهم.
بل كان يدفع من ماله
الذي كان يستطيع تهريبه إلى داخل السجن، حيث إن اقتناء المال يعد من المحرمات في السجون،
لصول العنبر ليسمح لبعض هؤلاء الشباب بالخروج عدة دقائق لدورة المياه، ولو لمرة واحدة
في اليوم، بدلا من قضاء حاجتهم بصعوبة في إناء صغير داخل الزنزانة طوال اليوم!
لفلسطين مكانة كبيرة في قلوب المصريين، بل إنها تمتلك مفتاحا سحريا لقلوبهم وعقولهم، كما أنها تقتحم مشاعرهم وتغزو أفكارهم، فلم أرَ شعبها يجتمع على قضية مثلما اجتمع على قضيتها، ولم أرَ رموزها السياسية والثقافية قادرة على تجاوز العقبات بينهم ـ وربما إعاقاتهم ـ مثلما يحدث حين تحضر فلسطين
كم رأيت فيه شهامة
مفرطة ورجولة منقطعة النظير: وإن أنسى لا أنسى كيف كان يقف خلف باب "عنبر التجربة"،
يراقب من خلال فتحة صغيرة مروري أو أحد زملائي، ذهابا لمستشفى السجن، حيث كان هذا هو
الممر الوحيد إليها، فكان إذا رأى أحدنا توسل لصول العنبر كي يفتح الباب ليدخله، وذلك
في أحلك الظروف وأصعبها، كي يسلم على أبنائه أو تلاميذه، ويوصيهم وصية الوداع: بالصبر
والانشغال بتلاوة القرآن والدعاء، وكان لا يفوته أن يحضر من زنزانته علبة حلوى للضيف،
كي يوزعها على الشباب الذين ينتظرون تنفيذ الإعدام، وذلك من كوة صغيرة تكاد تدخلها
بصعوبة.
لا شك أن لفلسطين
مكانة كبيرة في قلوب المصريين، بل إنها تمتلك مفتاحا سحريا لقلوبهم وعقولهم، كما أنها
تقتحم مشاعرهم وتغزو أفكارهم، فلم أرَ شعبها يجتمع على قضية مثلما اجتمع على قضيتها،
ولم أرَ رموزها السياسية والثقافية قادرة على تجاوز العقبات بينهم ـ وربما إعاقاتهم ـ
مثلما يحدث حين تحضر فلسطين.
لعلنا اليوم نكون
أمام فصل جديد من الفصول التي صنعها "صلاح الدين الأيوبي" حين أراد أن يحرر
بيت المقدس، فلم يجد غير الاتحاد وحشد الأمة بكل مكوناتها لتحرير "بيت المقدس"،
واستطاع بالفعل أن يدير ملحمة تاريخية، ستظل حاضرة بيننا إلى أن يرث الله الأرض ومن
عليها.
وفي الختام أكرّر
ما بدأت به: هل حان الوقت لفتح باب التحقيق في وفاة "سليمان خاطر" و"محمود
نور الدين"؟!