سياسة دولية

كيف أعادت حركة حماس تشكيل "الحرب السرية"؟

لقد استخفّت "إسرائيل" بالتداعيات الاستراتيجية لحرب الأنفاق- الأناضول
نشرت مجلة "فورين أفيرز" تقريرًا، يسلط الضوء على التحول الذي أحدثه استخدام حركة حماس للأنفاق في غزة، في حربها مع دولة الاحتلال الإسرائيلي.

وقالت المجلة، في تقريرها، الذي ترجمته "عربي21"، إنه عندما شنّت حماس عملية في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، أصبح من الواضح أن حجم مجمّع حماس تحت الأرض غير مسبوق، والأكثر أهمية هو أنها تسببت من خلال استمرارها في العمليات السرية لأشهر، في تأخير النصر الإسرائيلي، ما أدّى إلى تكاليف دبلوماسية وسياسية لا يمكن تصورها.

‌وأوضح التقرير، أنه "يصعب مقارنة هذه الحرب بأي حرب أخرى سوى الحرب العالمية الأولى، حيث سقط عدد لا يحصى من الجنود البريطانيين والألمان أثناء محاولتهم كشف الأنفاق وتلغيمها وحفرها، ولا يوجد أي استخدام آخر للأنفاق في الحرب يقترب من هذا المثال، ولا حتى تحصّن أسامة بن لادن بجبال أفغانستان التي مكنته من الهرب من القوات الأمريكية، ولا تنظيم القاعدة في مالي حيث استُخدمت الأنفاق في شن هجمات من مخابئ منيعة تحت الأرض". 

وأضاف أن "استخدام حماس للأنفاق متقدم للغاية لدرجة أنه يشبه إلى حد كبير الطريقة التي تستخدم بها الدول الهياكل تحت الأرضية لحماية مراكز القيادة والسيطرة مقارنة بما هو معتاد بالنسبة للجهات الفاعلة غير الحكومية".

وأشارت المجلة إلى أن تعزيز حركة حماس لقدراتها تحت الأرض أدّى إلى زعزعة تقييم دولة الاحتلال الإسرائيلي للتهديدات التي تمثلها الأنفاق، إذ لم تتخيل دولة الاحتلال، بحسب التقرير أن "تتورط في حرب بهذ الحجم تحت الأرض. وكان تركيزها منصبًا على إزالة أنفاق حماس التي تعبر إلى الداخل". 

وتابعت: "من المرجّح أن تؤدي الحرب في قطاع غزة إلى تطوير عقيدة جديدة وأساليب جديدة للتعامل مع هذا النوع الفريد من الحروب. ولا شك أن نظام الأنفاق التابع لحماس قد لفت انتباه الجيوش الأخرى والجهات الفاعلة غير الحكومية، وجميعها تشير إلى مدى فاعليتها في بقاء حماس في غزة".

وأكّدت أنه "الآن بعد أن تغلبت حماس على معظم العقبات الكامنة في الحرب تحت الأرض ــ مثل الاتصالات، والملاحة، وانخفاض مستويات الأكسجين وغيرها ــ فقد توفرت كل الأسباب للاعتقاد بأن هذا التكتيك سوف يستمر في الانتشار. فقد أدى استخدام حماس المبتكر للأنفاق إلى إعادة تعريف القيمة الاستراتيجية لسطح الأرض، وغيّر المواجهات العسكرية". 

صعب المنال
أوضحت المجلة أن البقاء تحت الأرض لفترات طويلة ليس أمرًا هينًا، وذلك وفقًا لإفادة مئات المقاتلين الأوكرانيين الذين عاشوا في الأنفاق أسفل مصنع آزوفستال للصلب خلال الهجوم الروسي على ماريوبول سنة 2022، حيث إنه سرعان ما نفد منهم الطعام ومياه الشرب، وكانوا يفتقرون إلى أبسط الترتيبات الصحية والطبية، ناهيك عن التواصل مع العالم الخارجي، ولكن هذا لم يشكل أي مشكلة بالنسبة لحماس في غزة.

واسترسلت: "الأشخاص الذين كانوا يعيشون ويقاتلون في أنفاق آزوفستال لم يتمكنوا من البقاء على قيد الحياة لأكثر من شهرين تحت الأرض، إلا أن حماس حافظت على وجود عسكري تحت الأرض لمدة تقارب الثمانية أشهر. ويعود الفضل في هذا الأداء القياسي إلى متاهة طويلة من الممرات تحت الأرض تمتد عبر غزة وتضم مطابخ مجهزة بالكامل، وغرف قيادة مفروشة، ومراكز بيانات متطورة، وحمامات مبلطة، وزنزانات احتجاز مسيجة، ومناطق عمل مخصصة".

وأردفت: "يبدو أن حماس غير مقيدة بالصعوبات الجيولوجية والهندسية والتخطيطية، أو الخوف من القدرة على البقاء. فقد كان لدى المجموعة متسع من الوقت لصقل مهاراتها وتجريبها وتحسينها، ومن المؤكد أن عقودًا من الحفر ساعدت في ذلك، إذ يبلغ عرض نفق تم اكتشافه بالقرب من المعبر الحدودي بين غزة وإسرائيل، المعروف باسم معبر إيريز، حوالي العشرة أقدام وعمقه 164 قدمًا، وقد تم حفره باستخدام معدات حفر مدنية، وهي سابقة من نوعها بالنسبة لحركة حماس". 

مع ذلك، بيّن التقرير أنه "حتى أفضل مهارات الحفر لا تجهّز المقاتلين للبقاء لفترات طويلة تحت الأرض، حيث الظروف قاسية والأكسجين نادر والتواصل مع العالم الخارجي محدود. وقد أظهرت حماس أن سنوات من التدريب والتخطيط الدقيق يمكن أن تساعد في تجاوز هذه العقبات، فأنفاق حماس تضم أماكن للنوم، وقاعات ومباني أخرى تحت الأرض، مجهزة بالتهوية والكهرباء والحمامات وشبكات اتصالات بدائية لكنها فعالة". 

"مع تحسّن البنية التحتية، تضاءلت سلبيات العيش والعمل تحت الأرض، وأتاحت المخزونات الهائلة من الوقود والغذاء والمياه داخل الأنفاق العيش والقيام بعمليات عسكرية تحت الأرض. وضمّنت مرافق إنتاج الأسلحة الواسعة تحت الأرض استمرار إمدادات الأسلحة وتوزيعها دون انقطاع" تبرز المجلة في تقريرها.

وأفادت أنه "من المعروف أن مستخدمي الأنفاق يخرجون منها للتزود بالإمدادت، واستنشاق الهواء النقي، والتواصل مع العالم الخارجي، لكن قيادة حماس بالكاد شوهدت فوق الأرض، وفي نيسان/ أبريل، أفادت تقارير بأن زعيم حماس في غزة، يحيى السنوار، قد زار قواته فوق الأرض، ولا يتضح عدد المرات التي خرج فيها مقاتلو حماس من الأنفاق للتزود بالإمدادات أو الراحة، لكن الواضح هو أن حماس تمكنت من تنفيذ العمليات العسكرية دون انقطاع، ورغم تعرضها للضربات، فقد تمكنت بشكل عام من ضمان استمرار التسلسل القيادي من قاعدتها العسكرية تحت الأرض".

وأبرزت أن "استخدام حماس للهياكل تحت الأرضية يشبه إلى حد كبير الطريقة التي تستخدم بها الدول هذه الهياكل، وليس الجهات الفاعلة غير الحكومية. وتعتمد الدول على هياكل تحت الأرض لإيواء مخابئ دائمة يصعب الوصول إليها لتكون قادرة على العمل كمراكز للقيادة والسيطرة في أوقات الأزمات، ومن الممكن أن هذه المرافق المدفونة عميقا تؤوي القادة، وتدعم البنية التحتية لإنتاج الأسلحة، وتضمن استمرار التسلسل القيادي في حالات الطوارئ".

وأكدت أنه "من المعروف أن كندا والصين وإيران وإسرائيل وروسيا والولايات المتحدة تمتلك هذه الأنواع من المنشآت المدفونة بعمق، وهي أكبر حجمًا وأفضل تجهيزًا وأكثر تحصينًا وأعمق من الأنفاق".

وعلى النقيض من ذلك، فإن التقرير يقول: "استخدمت الجماعات الأنفاق في الأساس للهروب من تكنولوجيا المراقبة والعمل دون أن يتم اكتشافها. وتُستخدم هذه الأنفاق البدائية للاختباء وتنفيذ هجمات مفاجئة، لكن في غزة، تشبه العديد من الأنفاق التي كشفها الجيش الإسرائيلي الهياكل الموجودة تحت الأرض في إيران وكوريا الشمالية، وأصبح سقفها الأسمنتي المقوس علامة مميزة حيث يُستخدم الأسمنت لبناء ممرات أنفاق أكبر، ومقارنة بأنفاق حماس السابقة فقد تحسنت هندستها بشكل كبير، وأصبحت الأنفاق الآن أقل عرضة للانهيار، ومضاءة بشكل جيد، وأكثر ملاءمة للعيش".

وأضافت المجلة أن "حماس زادت من اعتمادها على الأنفاق كجزء من استراتيجيتها، وتحديدًا كيفية استخدامها للأنفاق، فهي تعتبر حرب الأنفاق استثمارًا استراتيجيًا طويل المدى، مصمما لضمان بقاء سلسلة قيادتها في الحرب، وليس مجرد تكتيك لمواجهة قدرات الاستخبارات والمراقبة والاستطلاع الإسرائيلية". 

"فالجيوش لا تستطيع محاربة الأنفاق التكتيكية بنفس طريقة محاربة التهديدات الاستراتيجية تحت الأرض، ويعكس هذا التحول نحو الاستخدام الأكثر استراتيجية للأنفاق التركيز على القدرة على البقاء بدلاً من القدرة على القتال تحت الأرض" وفق المصدر نفسه.

‌ويردف: "لقد أثرت الأنفاق على العمليات في غزة بطرق لا حصر لها، فهي تقلل من احتمالية تحقيق نصر إسرائيلي سريع، وتبطئ من وتيرة العمليات، وتجعل إنقاذ الرهائن أكثر صعوبة، وتعرض المدنيين للخطر، وتعقد البيئة العسكرية والسياسية لإسرائيل. ولكن هناك جانب واحد غالبًا ما يتم تجاهله في كثير من الأحيان، وهو يحمل تبعات للحروب المستقبلية: لقد قلّلت استراتيجية حماس تحت الأرض من أهمية السطح".

وأشارت المجلة إلى أن"الصحفي الإسرائيلي، رون بن يشاي، وصف هذا النوع الجديد من القتال على نحو ملائم بأنه "حرب تُشن على مستويين مختلفين". ففي المراحل الأولى من الحرب، سعى جيش الاحتلال الإسرائيلي إلى السيطرة على السطح لكشف أنفاق حماس ودخولها في نهاية المطاف. ولكن مع تقدم العملية، فقد تحوّل الاهتمام إلى الممرات من وإلى ما تحت السطح. وأصبح السطح مجرد ممر للوصول إلى الأنفاق والمنشآت تحت الأرض ولم يعد محور القتال.

وأفادت المجلة بأن "مواجهات العدو ومناوراته البرية تغيرت نتيجة لذلك. فمن المعروف أن الحرب تحت الأرض تجعل العدو غير مرئي وبعيدًا عن متناول اليد". وهي توصف بشكل ملائم وشائع بأنها لعبة "ضرب الخلد" حيث يخرج العدو من تحت الأرض في لعبة لا نهاية لها من الاختباء والبحث. 

أما في غزة، فتقول المجلة: "اختفى العدو في غزة بشكل شبه كامل في مجمعه الهائل تحت الأرض. وأصبحت لعبة "ضرب الخلد" لعبة "انتظار الخلد". وبما أن الانتظار لم يؤدِّ إلى نتائج، فقد اضطر الجيش الإسرائيلي إلى استخدام جميع أنواع الحيل لإخراج مقاتلي حماس من تحت الأرض".

وتابعت المجلة بأن "هذا لا يعني أن مقاتلي حماس لم يظهروا أبدًا. فقد أطلقوا صواريخ قاتلة مضادة للدبابات على القوات الإسرائيلية ونفذوا أنواعًا أخرى من الكمائن. ولكن الطريقة التي تعمل بها حماس تُظهر أن استخدامها للأنفاق لم يعد تعريف البيئة تحت الأرض فقط وإنما أيضًا قيمة وطبيعة القتال البري. فقد أصبحت المواجهات مع الجانب الآخر أقل تواترًا، ومثل الأنفاق نفسها، من الصعب اكتشافها.

وشدّدت المجلة على أنه يجب على الجيوش أن تفكر في كيفية التعامل مع تضاؤل دور سطح الأرض عندما يتحول العدو من الاستخدام التكتيكي إلى الاستخدام الاستراتيجي لباطن الأرض. وسيظل السطح مهمًا في الحرب، كحد أدنى، من حيث السماح بالوصول والسيطرة على الشبكات تحت الأرض وباعتباره الموقع النهائي لمعظم المواجهات. لكن هذه التطورات تشير إلى أنه قد يكون من الأفضل تأطير الحرب تحت الأرض كمجال منفصل للحرب وليس مجرد مجموعة فرعية من الحرب البرية.

حدود التكنولوجيا
وبيّنت المجلة أن المعارك في غزة أظهرت أيضًا أن التقدم في التكنولوجيا المضادة للأنفاق فشل في ردع جماعات مثل حماس عن اللجوء إلى حرب الأنفاق. ويمكن القول إن دولة الاحتلال الإسرائيلي تمتلك التكنولوجيا الأكثر تقدمًا في العالم في مجال التكنولوجيا المضادة للأنفاق. وقد تم استخدام تقنيات متقدمة للكشف عن أنفاق حزب الله إلى الاحتلال الإسرائيلي وتحييدها في سنة 2018. 

كذلك، قامت دولة الاحتلال الإسرائيلي بتدريب وحدات خاصة على حرب الأنفاق، وبناء منشآت تدريب تحت الأرض، وتطوير أجهزة استشعار تحت الأرض لحماية حدودها، وإتقان المهمة الصعبة المتمثلة في رسم خرائط الأنفاق باستخدام طائرات بدون طيار. 

وفي الفترة ما بين عملية الجرف الصامد في عام 2014، وهي الحرب الإسرائيلية الأخيرة على غزة، وعملية حماس في 7 تشرين الأول/ أكتوبر، فقد عزّز جيش الاحتلال الإسرائيلي قدراته في الحرب تحت الأرض بشكل كبير، مع التركيز على التدريب والمعدات والكشف.

وأضافت المجلة أن "التكنولوجيا الإسرائيلية المتفوقة والتدريب المتقدم لم يثنيا حماس عن استثمار الكثير من الوقت والموارد البشرية في بناء الأنفاق. وفي الوقت نفسه، دفع التقدم التكنولوجي دولة الاحتلال الإسرائيلي إلى الاعتقاد بأنها أخمدت مساعي حماس تحت الأرض، على الرغم من أن العكس هو الصحيح". 

وبعبارة بسيطة، فقد أوضحت المجلة، أنه "كلما تحسنت التكنولوجيا، زادت عمليات الحفر. لقد استخفّت إسرائيل بالتداعيات الاستراتيجية لحرب الأنفاق، وهو تهديد منخفض التقنية، عند استخدامها على نطاق واسع، وبالغت في تقدير قدرة التكنولوجيا على مواجهتها. فقد ركّزت على الجوانب التكتيكية وعلى الأنفاق عبر الحدود، ما أتاح لحماس المجال لتطوير قدرات تحت الأرض لا مثيل لها".

وشدّدت المجلة على أن هم هذه المفارقة هو الدرس الرئيسي المستفاد من هذه الحرب. فإن التكنولوجيا والتفوق العسكري لا يمكنهما بمفردهما وقف الاتجاه نحو الأنفاق. فقد فشلت التكنولوجيا في ردع التهديدات القادمة من تحت الأرض ومواجهتها على حد سواء. 

وقالت المجلة: "تدرك حماس تمامًا أنه حتى التكنولوجيا الأكثر تطورًا المتاحة لن تكون كافية لمواجهة هذه القدرات، لذلك فهي تثق بشدة في هذا التكتيك. وتدرك حماس أن شبكة أنفاقها الواسعة في غزة ستؤدي إلى إبطاء الرد الإسرائيلي، وتقلل من الميزة التنافسية لإسرائيل، وتحمي كبار قادة حماس في غزة، وتلحق خسائر فادحة في صفوف المدنيين. لقد آتت الحرب منخفضة التقنية ثمارها في غزة، وهو نجاح سوف يعزز حرب الأنفاق في كل مكان".

الدروع البشرية 2.0
وقالت المجلة: "إن وضع المدنيين داخل الأنفاق كان له الأثر المقصود في تعقيد جهود الإنقاذ، وتقييد العمليات العسكرية، وتحصين الأصول العسكرية الرئيسية لحماس".

وتابعت المجلة بأن "المدنيين الذين تأسرهم حماس وتحتجزهم بمعزل عن العالم الخارجي هم أسرى"، فيما زعمت أنهم "دروع بشرية". وقد مكّنها من تحقيق أقصى قدر من الأهداف السياسية والعسكرية بما يتجاوز هدفها المعلن المتمثل في إطلاق سراح الأسرى الفلسطينيين من السجون الإسرائيلية. 

وقد أدى أخذ الأسرى إلى تمزيق المجتمع الإسرائيلي وربط حكومة الاحتلال الإسرائيلي النصر بأهداف لا يمكن تحقيقها ولا يمكن التوفيق بينها. وقد منح هذا حماس قوة على طاولة المفاوضات وجعل حلفاء دولة الاحتلال الإسرائيلي يطلبون تنازلات مقابل إطلاق سراح الأسرى. كما أنها سهلت الحرب النفسية القاسية التي تشنها حماس. 

وختمت المجلة بالقول: "يجب على الجيوش أن تنتبه إلى هذه الاستخدامات المبتكرة للتكتيكات السرية التي يمكن أن تصل بالدول إلى حافة الشلل العملياتي والسياسي، حتى تتمكن من توقع كيفية استخدام التكتيكات السرية في الحروب المستقبلية من قبل خصومها".
الأكثر قراءة اليوم
الأكثر قراءة في أسبوع