اتخذ
البنك المركزي اليمني في العاصمة المؤقتة للبلاد عدن، جنوبا، حيث مقر الحكومة المعترف بها دوليا، سلسلة من الإجراءات ضد البنوك الموجودة في العاصمة صنعاء الخاضعة لسيطرة
جماعة الحوثيين شمالا، أثارت جدلا واسعا وأسئلة عدة حول دلالاتها وتوقيتها.
وتضمنت قرارات البنك المركزي أواخر مايو/ أيار الفائت، "إيقاف التعامل مع 6 من أكبر البنوك التجارية والخاصة في البلاد، بسبب عدم استجابتها لقرار البنك نقل مقراتها الرئيسية من صنعاء إلى عدن، المدينة الساحلية، حيث مقر الحكومة المعترف بها"، إضافة إلى منح مهلة مدتها ستون يوما لتسليم الطبعة القديمة من العملة الوطنية والمتداولة غالبا في مناطق سيطرة الحوثيين إلى البنك المركزي في عدن، تمهيدا لإلغائها رسميا، بعد انتهاء المهلة.
وبحسب مراقبين، فإن إقدام البنك المركزي في عدن على هذه الخطوة لم يكن ليحدث لو لم يحظ على موافقة ودعم السعودية، وربما الولايات المتحدة، في سياق تفعيل أدوات الضغط على الحوثيين وعبر "البوابة الاقتصادية" إذ إنه من شأنه تقويض سلطتهم، وقطع وصولهم إلى العملات الأجنبية.
كما أن إجراءات البنك المركزي الأخيرة لا تعدو كونها انعكاسا حقيقيا لحالة التأزم بين الرياض وجماعة الحوثيين، بعدما تراجعت عن التفاهمات التي تم التوصل إليها قبل أشهر، ومطالباتها بمكاسب جديدة يجب أن يتضمنها الاتفاق الذي كان مقرر إعلانه مطلع العام الجاري، وذلك على خلفيات هجماتها على السفن الإسرائيلية أو تلك المتجهة إلى موانئها في البحر الأحمر وخليج عدن.
"الرياض داعمة لها"
وفي هذا السياق، قال الكاتب والصحفي اليمني، مأرب الورد، إن القرارات التي اتخذها البنك المركزي في عدن سياسية، رغم أنها تمثل خطوات متأخرة لإنقاذ النظام المصرفي وإنهاء الانقسام النقدي في البلد.
وأضاف الورد في حديث لـ"عربي21" أنه كان يفترض اتخاذ هذه الإجراءات منذ سنوات، أو في الفترة التي أعقبت تولي أحمد غالب منصب محافظ البنك المركزي، لكن لم يحدث ذلك.
وأشار إلى أن جماعة الحوثي ظلت تكرس سيطرتها على النظام المصرفي، وفرضت أمرت واقعا، وعززت من الانقسام النقدي بعد منع تداول الفئة الجديدة من العملة التي طبعتها الحكومة في مناطق سيطرتها، بعدما تركت الأخير أمر تداولها للجماعة في أنحاء البلد.
وتابع بأنه كان يفترض أن تمتلك الحكومة الأدوات المناسبة لتداولها، بما في ذلك مناطق الحوثيين.
وأكد الكاتب اليمني أن قرارات البنك المركزي حظيت بدعم السعودية، فهي الداعم الأول للبنك، والمملكة تقف وراءها بشكل كبير، مشددا على أن هذا ليس تشكيكا بخطوة البنك أو غياب الحاجة الاقتصادية لاتخاذها.
ومضى بالقول : "ما بات ملاحظا أن هناك تصعيدا عسكريا بين الحوثيين والسعوديين على جبهات الحدود الجنوبية من المملكة، لكن ذاك التصعيد يجري بشكل صامت.. وكل طرف يعض أصابعه ويتألم بصمت".
وبحسب الكاتب والصحفي اليمني، فإن السعودية كانت قد اتفقت مع جماعة الحوثي على النقاط الخلافية خلال المفاوضات الثنائية التي دارت بينهما بعيدا عن الأطراف اليمنية.
وكانت التسريبات تشير إلى أن "الاتفاق كان يفترض أن يتم الإعلان عنه مطلع العام الجاري، لكن أحداث 7 أكتوبر في غزة أجلت ذلك أو أعاقت المضي فيه بشكل كبير".
وأوضح أنه مع دخول الحوثيين على خط المواجهة مع الاحتلال الإسرائيلي عن طريق الهجمات التي ينفذوها ضد السفن التي يقولون إنها تابعة له وتذهب إلى الموانئ الفلسطينية المحتلة، فإن "الجماعة شعرت أنها أصبحت لاعبا إقليمي أو تستطيع التأثير في مجريات الأحداث".
وتبعا لذلك، لفت الصحفي الورد: "شرعت الجماعة في بلورة ذلك على شكل مكاسب إضافية وضعتها على طاولة المفاوضات مع الرياض، وتريد تضمينها في الاتفاق الذي كان مزمعا الإعلان عنه".
وقال، إن "السلطات السعودية من الواضح أنها رافضة، فيما تصر جماعة الحوثي على أن يتضمن الاتفاق بينهما على مكاسب تدخلها العسكري بحريا".
وأضاف أنه في الوقت الذي واجهت الرياض مشكلة رفض الحوثيين، أعلنت الولايات المتحدة رفضها للاتفاق برمته حتى في حال ذهب السعوديون لتنفيذ الاتفاق مع الحوثيين.
والموقف الرسمي للإدارة الأمريكية يشير إلى أنه لا يمكن مكافأة الحوثيين على ما يقومون به في البحر الأحمر"، بحسب المتحدث ذاته.
وفي ظل التوتر غير المعلن بين السعودية والحوثيين، ونظرا لأن المملكة -يقول الكاتب والصحفي الورد- "لم تعد تمتلك أوراقا عسكرية لتستخدمها ضد الجماعة منذ الهدنة (انتهت في أكتوبر/ تشرين أول 2022)، ومن قبلها.. لجأت إلى تفعيل خيار المواجهة الاقتصادية ضد الجماعة الحوثية وبطابع وطني وأهداف يمنية، فيما هي تبقى مختبئة في الخلف".
ومع ذلك، قال إن جماعة الحوثي تدرك أن المملكة وراء دعم البنك المركزي لإقرار إجراءاته الأخيرة، فمن دون دعمها لا يمكن للبنك المضي قدما فيها، وهذا ما تجلى في بيان الجماعة من اتهامات لها.
كما بين الورد أن هناك تقاطعا سعوديا أمريكيا في خطوة البنك المركزي للضغط على الحوثيين؛ لإجبارهم على إيقاف هجماتهم البحرية، وبالتالي الدخول في مساومات وتسويات لاحقة، على حسب قوله.
وعقب صدور قرارات البنك المركزي في عدن منذ أسبوعين تقريبا، اتهمت جماعة الحوثيين السعودية بالوقوف وراء تلك القرارات، محملة إياها المسؤولية عن تبعات ذلك.
"معركة اقتصادية"
من جهته، قال الصحفي الاقتصادي اليمني، وفيق صالح، إن هذه القرارات المتسارعة للبنك المركزي اليمني في عدن تجاه القطاع المصرفي والوضع النقدي في البلاد، تأتي "ضمن مساعي فرض سياسته النقدية والمالية على كافة أنحاء البلاد، وإنهاء الانقسام النقدي والعبث الحوثي بالعملة الوطنية والقطاع المصرفي "، على حد قوله.
وفي حديثه لـ"عربي21"، أكد صالح أن جماعة الحوثي اتخذت من الانقسام النقدي خلال الفترة الماضية ورقة تلعب بها ضد القطاع المصرفي والبنك المركزي في عدن، وكان لها العديد من القرارات الازدواجية تجاه الوضع المصرفي، التي تمنع تنفيذ أي خطوات أو إجراءات للبنك المركزي اليمني تجاه تحقيق الاستقرار المصرفي.
ووفق الصحفي الاقتصادي اليمني، فإن البنك المركزي في عدن أدرك مؤخرا أن أي خطوات أو إجراءات قد يتخذها لتحسين الوضع النقدي في البلاد، تصطدم بعملية الانقسام النقدي وازدواج القرارات المصرفية من قبل الحوثيين.
لذلك اتخذ قرارات جريئة، يضيف المتحدث ذاته، حتى وإن كانت مؤلمة ومكلفة، مثل "نقل المراكز الرئيسية للبنوك إلى عدن، وإلغاء الطبعة القديمة من العملة المحلية التي يتم تداولها في مناطق الحوثيين".
وقال :"ربما إذا مضى البنك المركزي إلى النهاية في ضرورة تنفيذ هذه القرارات على الواقع، وإنهاء العبث الحوثي بالعملة الوطنية، فسيكون المنجز الأهم للشرعية في معركتها الاقتصادية مع الحوثيين".
وفي كانون أول/ ديسمبر 2019، أقرت جماعة الحوثي حظر التعامل مع الفئات النقدية الجديدة المطبوعة من قبل الحكومة المعترف بها، بعد انتشارها بالمليارات في الأسواق، نظرا لتهالك الفئات القديمة وشح السيولة منها، الأمر الذي انعكس على قيمة العملة المحلية واختلاف أسعارها بين مناطق سيطرة الجماعة وتلك التي تقع تحت سيطرة الحكومة.
"تعثر التفاهمات"
من جانبه، قال الكاتب والمحلل السياسي اليمني، عبدالعزيز المجيدي، إن الإجراءات الأخيرة للبنك المركزي في عدن جاءت في سياق من التطورات المحلية، أهمها انهيار العملة المحلية في ظل تعنت الحوثيين وإصراراهم على وقف تصدير النفط، وهو ما تسبب في مفاقمة الأزمة الخانقة التي تعيشها الحكومة، وانعكست على حياة الناس.
وتابع المجيدي في حديثه لـ"عربي21"، بأن تصدير النفط يكاد يكون المورد الرئيس والأهم للنقد الأجنبي لتغطية الواردات، فضلا عن ضغط المضاربات على الدولار في عدن من قبل مليشيا الحوثي وتجار آخرين.
ورأى الكاتب اليمني أن إجراءات البنك المركزي جاءت متأخرة، وكان من المفترض مواجهة الإجراءات الحوثية في الجانب الاقتصادي في وقت مبكر، عندما شرعت في تكريس الانفصال النقدي، ورفض التعامل بالعملة اليمنية التي يشرف عليها مركزي عدن، مع احتساب قيمة وهمية للعملة القديمة المتهالكة التي فرضتها على الناس في مناطق سيطرتها.
المحلل السياسي اليمني أكد أن الإجراء الأخير يشير إلى أن "الحكومة كانت مكبلة عن اتخاذ إجراء حيال سياسات الحوثي التدميرية للاقتصاد، وانهاك وسرقة مدخرات اليمنيين، وتدمير النظام المصرفي".
وقال أيضا :"ربما تكون استفادت من حالة تعثر التفاهمات بشأن خارطة الحل التي توصلت إليها السعودية مع الحوثيين، ولا شك أن ارتباط الجانب السياسي بالاقتصادي عضوي في ظل شن الحوثي حربا اقتصادية مهلكة لليمنيين في مناطق سيطرته طالت مناطق الحكومة.
وحسب المجيدي، فإنه يتوجب على البنك المركزي التمسك بإجراءاته، مع إيجاد مخارج للحد من آثار إجراءاته على المواطنين. في الوقت نفسه، سيتوجب على الحكومة القيام بواجباتها في معالجة الوضع الاقتصادي بصورة حازمة، لأن حال الناس وصل إلى مستويات غير مسبوقة من الانهيار مع تضخم أسعار السلع وغياب الموارد اللازمة لتسليم المرتبات، كما يقول.
وأوضح أنه يجب المضي قدما، وعدم ربط أي إجراءات اقتصادية بأي تفاهمات سياسية، حتى يتمكن البنك من توحيد العملة، وفرض تصدير النفط والغاز، مؤكدا على أن تفاقم ما يحدث، من شأنه خروج الأمور عن السيطرة والقضاء المبرم على حياة اليمنيين الذين يعيشون في قعر الجحيم، وفق تعبيره.
ويسعى المصرف المركزي الفرع الرئيسي في عدن، إلى "تعزيز سيطرته النقدية على القطاع المصرفي في العاصمة المؤقتة، في ظل الانقسام النقدي الذي يعصف بالبلاد من عام 2019، وذلك من خلال وضع قبضته على جميع فروع البنوك وشركات الصرافة في مناطق سيطرة الحوثيين، ولا يمكنها ممارسة هذا النشاط دون الحصول على ترخيص مسبق".
وتواجه فيه الحكومة اليمنية منذ قرابة العامين أزمة مالية خانقة، بسبب توقف الإيرادات النفطية التي تشكل 75 بالمئة من موازنة الدولة، جراء الهجمات التي شنها الحوثيون على موانئ تصدير النفط الخاضعة لسيطرة الحكومة نهاية عام 2022 شرق البلاد.
وتوقف تصدير النفط في الثلث الأخير من تشرين الأول/ أكتوبر 2022، مع بدء جماعة الحوثي شن هجمات على ميناءي قنا والنشيمة النفطيين في محافظة شبوة جنوب شرق اليمن.