كشفت
حرب غزة الأخيرة عن أزمة عميقة تواجه جوهر القانون الدولي وبنية
مؤسساته، وهي أزمة لا تقل حدة وخطورة عن تلك التي واجهها العالم بعد الحرب
العالمية الأولى وافضت في النهاية إلى
اندلاع الحرب العالمية الثانية.
فحرب غزة كشفت عن مجموعة من أوجه القصور في القانون الدولي وآلياته،
والتي تعكس تحديات كبيرة في تحقيق العدالة وحماية حقوق الإنسان في ظل النزاعات
المعاصرة، وضعف فعالية آليات التنفيذ للمؤسسات الدولية لقراراتها ومحاسبة الجناة،
حيث تبقى الكثير من القرارات التي تصدر لمحاسبة الجناة دون تأثير حقيقي على الأرض.
فعلى الرغم من إصدار قرارات دولية تدين الانتهاكات، تظل هذه القرارات
غالباً غير مُلزمة ودون تأثير عملي على الأرض، وتواجه تحدي ازدواج المعايير حيث
شاهد العام التحرك السريع في تطبيق القانون بصرامة في الحرب الأوكرانية في حين كان
هناك تلكؤ وعوائق كبيرة في حرب غزة، وهذا التناقض أضعف الثقة بفاعلية القانون
الدولي.
واجهت المنظمات الأممية الكثير من الضغوط السياسة فالأونروا مثلا
أوقف التمويل عنها بحجة مساعدة حماس، المحكمة الجنائية هددت بالعقوبات من قبل
الكونغرس الأمريكي، إضافة إلى إبطال العديد من مشاريع القرارات في مجلس الأمن
الداعية لوقف الحرب بالفيتو الأمريكي. ويعد التسييس أهم التحديات التي تواجهها
الأمم المتحدة.
إذا كانت حرب غزة قد علمتنا شيئاً، فهو أن الأمل في العدالة الدولية لا يزال حياً، ولكنه يحتاج إلى دعم وإصلاح شامل ليكون قادراً على مواجهة تحديات العصر الحديث. إن إعادة النظر في آليات عمل الأمم المتحدة ومؤسساتها هو خطوة ضرورية لضمان أن تظل هذه المؤسسات قادرة على حماية حقوق الإنسان وتعزيز السلام العالمي.
وواجهت هذه الحرب تحدي القصور في العديد من النصوص القانونية الحالية
التي صيغت في سياقات تاريخية مختلفة ولم تحدث لتواكب التحديات الراهنة، هذا القصور
يظهر بشكل جلي في التعامل مع الجرائم الجديدة التي تُرتكب في النزاعات الحديثة مثل
حرب غزة.
كما وتواجه هذه الحرب ضعف الحماية للأفراد والمنظمات الإنسانية، وتعد
الأونروا والعاملين فيها، والعاملين في المطبخ العالمي، وغيرهم ممن تعرضوا إلى
انتهاكات خطيرة دون القدرة على حمايهم وهذا يقتضي العمل علي تعزيز آليات الحماية
بشكل أفضل، فهناك عدم قدرة للمحاكم الدولية علي التدخل الفوري، حيث شاهدنا المدعي
العام خان وصل إلى أمام بوابة رفح والاكتفاء بعقد مؤتمر صحفي، ولم يتحرك إلا بعد
مرور ما يقارب سبعة أشهر على الحرب وارتكاب مجازر إبادة جماعية من قبل جيش الحكومة
الإسرائيلية، فالإجراءات الطويلة والمعقدة أصبحت تشكل تحديا، وإشكالية تحدي من
فعالية هذه المحاكم في تقديم العدالة السريعة، إضافة إلى الانقسام الدولي إزاء
العديد من القضايا، وضعف التعاون الدولي، وغياب عقوبات فعالة ورادعة ضعف المسألة
الجنائية باستثناء القليل من الجناة.
هذا القصور ساهم في انعدام أو هز الثقة بجدوى القانون الدولي
ومؤسساته، أمام جبروت وهيمنة الدول. الكبرى، وعززت شعورا بأن المعاهدات والمؤسسات
الدولية وجدت لتكون أداة من أدوات الإدانة
للعالم الثالث، كاعتبارها أقل تقدم وحضارة من العالم الأولي، وتعاني من قصور حضاري
وحقوقي ، وتخلف اجتماعي وجب على دول العالم انتشالها عبر هذه المؤسسات، وقولبتها
قانونا عبر المعاهدات والبرامج التي تشرف عليها الأمم المتحدة، فالقانون الدولي
ليس مجرد أداة من أدوات الاحتواء للصراعات العالمية، أو قل احتوائها ضمن أطر
مؤسسية يسهل السيطرة عليها وتوجيهها، وفق الإرادة الدولية العليا للدول المهيمنة
على هذه المؤسسات. وهذا التصور الذي بدا شاذا، إلا أنه في حرب غزة تعزز بالعديد من
التصريحات والسلوكيات، ومما شكل صدمة في الذهنية الحقوقية والحضارية التي لطالما
آمنت بالقانون الدولي وقانون حقوق الإنسان، معتبرة إياه الملاذ النهائي وخلاص
الفكر الحضاري للقرن العشرين.
فالعديد من التصريحات لسياسيين كبار سمعناها، ونشرت عبر وسائل الإعلام
الدولي رداً على تصريح المدعي العام للمحكمة الجنائية باعتقال قادة من إسرائيل
وحماس، حيث صرح الرئيس بايدن "لا يوجد تكافؤ على الإطلاق بين موقفي إسرائيل
وحركة حماس" في حين قال وزير خارجيته "إن مساواة المدعي العام للمحكمة
الجنائية الدولية بين إسرائيل وحماس أمر مخزٍ".
ساهم هذا العجز الأممي، والتواطؤ الدولي، في انفجار انتفاضات
الجامعات الغربية، وتدفق المظاهرات في الشوارع الأوروبية على وجه الخصوص، كتعبير
عن حالة اليأس التي تنتاب الإنسان العالمي، والصدمة التي تلقاها لغياب العدالة في
مجتمع يرى العدالة أساس وجوده، حيث ساهمت وسائل التواصل الاجتماعي في وحدة الشعور
العالمي بالظلم، وبناء صورة صادقة لحقيقة المجتمع الدولي، ونفاقه السياسي البعيد
عن الإنسانية.
هذه الحالة الشعبية قد تؤسس لولادة المجتمع العالمي، الذي ستشكل
المنظمات والنشطاء والمهتمون بالقضايا الإنسانية نواته، تنسق وتلتقي من أجل
القضايا الإنسانية الحقوقية. رغم التحديات، إلا أن الإيمان بعالم يسوده العدالة
والإنصاف أصبح ضرورة وجودية في ظل جنون التسلح والدعم اللامحدود للأنظمة القمعية.
فلم تعد القضايا معزولة جغرافياً، بل أصبحت قضايا عالمية بتأثيرها، خاصة في ظل
الانتشار السكاني وتداخله بسبب اللجوء والهجرة، وكثير منها ينتمي إلى مناطق
الحروب، وأصبحت متأثرة بسبب الانتماء والأهل، وهي مجتمعات تتسلح بثقافة حقوق
الإنسان، ولديها فهم سياسي لمصالح الدول التي تعيش فيها، وعمل اللوبيات. فقد وجدت
سردية حقيقة بعيدة عن تأثير الإعلام، سردية كاميرا الهاتف الذكي، لتيك توك وغيرها
من وسائل التواصل الاجتماعي.
تجاوزت حرب غزة، الجغرافيا التي تدار فوقها الحرب، وترتكب فوق ترابها
المجاز الجماعية، لتدخل كل بيت، وتسكن كل ضمير، وفتحت معارك الضمير التي توجع وهو
يشاهد تفاصيل تلك الأهوال التي لم يكن يتخيل حدوثها في العصر الحديث، مقابل أضعف
التعاطي الدولي وعجز القانون الدولي الذي صيغت قواعده بواسطة الدول السياسية عن
الانتصار للعدالة ومحاسبة الجناة. برز الضمير الشعبي منددا بالجرائم البشعة التي
برزت بشاعة، الممارسات المتطرفة، بما في
ذلك التعدي على المؤسسات الأممية والاستهزاء بها وبموظفيها. وترسم صورة المؤتمر
الصحفي للمدعي العام على أبواب غزة، أو منع المقررة الخاصة للأراضي
الفلسطينية من
الدخول، حالة الاستجداء والعجز الأممي، الذي هو تعبير عن حالة العجز الدولي. وكشفت
الأمم المتحدة ومؤسساتها عارية عاجزة من القوة التي تمنح لها في مناطق أخرى من
العالم، الدول التي تنتهك حقوق الإنسان اليوم، وترتكب جرائم حرب وإبادة أو تساهم
فيها.
إن النظام الحالي بحاجة ماسة إلى مراجعة شاملة تعيد للمؤسسات الدولية قدرتها على العمل بفعالية وتحقيق العدالة. إصلاح الأمم المتحدة يجب أن يشمل تعزيز أدوات إنفاذ القانون الدولي وضمان امتثاله، وإشراك المجتمع المدني بشكل أكبر في القرارات الأممية. ذلك لأن العدالة الحقيقية لا تتحقق إلا بإشراك جميع الأصوات، وضمان أن تكون المؤسسات الدولية ملاذاً آمناً للضعفاء والمظلومين، وليس ساحة للتلاعب السياسي.
إن غياب أدوات إنفاذ القانون الدولي وامتثال الدول له، رغم المعرفة
المسبقة بهذه العيوب، تفاقم بشكل مقلق في الحرب الأخيرة، وهو ما قد يشجع العديد من الدول على التمرد، بل وحتى
الانسحاب من بعض المؤسسات الدولية، على سبيل المثال، القانون الأمريكي بمعاقبة
محكمة الجنايات الدولية يمثل سابقة خطيرة وتمرداً على الإجماع الدولي، قد يفتح
الباب واسعاً للنقاش حول الازدواجية في تطبيق القانون الدولي، والسير في نفس النهج،
خاصة بعد استخدام محكمة العدل الدولية قرارا ضد روسيا في أعقاب حربها على
أوكرانيا، وهو سلوك قد يقوض فاعلية هذه المؤسسات، ويشرعن لعصر جديد من البلطجة
الدولية تستوجب إعادة النظر في المنظومة الحالية وآليات عملها وفاعليتها.
مجلس الأمن، الغرفة المغلقة لأصحاب القوة والجمعية العامة للأمم
المتحدة، اللذان وقفا في كثير من الأحيان إلى جانب الجاني ضمن بروتوكولات غير
إنسانية، يعكسان الحاجة الماسة، والضرورية لإصلاح شامل وجذري في المؤسسة الأممية لتعبر عن طموحات العالم، وهو إصلاح
لا يقتضي فقط إشراك الدول الأخرى، وإحداث
توازن بين القارات، ودول العالم الثالث، وإنما أيضا لمنح المجتمع المدني تمثيل، ودور
أكبر في التمثيل والتصويت، بعيداً عن الاعتبارات السياسية.
إن النظام الحالي بحاجة ماسة إلى مراجعة شاملة تعيد للمؤسسات الدولية
قدرتها على العمل بفعالية وتحقيق العدالة. إصلاح الأمم المتحدة يجب أن يشمل تعزيز
أدوات إنفاذ القانون الدولي وضمان امتثاله، وإشراك المجتمع المدني بشكل أكبر في
القرارات الأممية. ذلك لأن العدالة الحقيقية لا تتحقق إلا بإشراك جميع الأصوات،
وضمان أن تكون المؤسسات الدولية ملاذاً آمناً للضعفاء والمظلومين، وليس ساحة
للتلاعب السياسي.
إذا كانت حرب غزة قد علمتنا شيئاً، فهو أن الأمل في العدالة الدولية
لا يزال حياً، ولكنه يحتاج إلى دعم وإصلاح شامل ليكون قادراً على مواجهة تحديات
العصر الحديث. إن إعادة النظر في آليات عمل الأمم المتحدة ومؤسساتها هو خطوة
ضرورية لضمان أن تظل هذه المؤسسات قادرة على حماية حقوق الإنسان
وتعزيز السلام العالمي.
*محام وناشط حقوقي يمني