اليوم تدخل
جنوب أفريقيا معركة قانونية
ساحتها محكمة العدل الدولية، أعلى هيئة قضائية على مستوى العالم، ضد دولة
الاحتلال
الاستيطاني الصهيوني، لأجل
فلسطين، تتهم الاحتلال الصهيوني بانتهاك اتفاقية مناهضة
جريمة الإبادة الجماعية، بارتكاب وتسهيل ارتكاب جرائم إبادة ضد السكان المدنيين في
غزة.
الملف القانوني الذي تقدمت به جنوب أفريقيا،
يشكل وثيقة تاريخية قانونية وسياسية مهمة،
تقدم للأجيال وهي صورة من صور التطهير العرقي الذي تمارسه دولة الاحتلال منذ عام
٤٨، وهي معركة يدرك الاحتلال أهميتها وخطورتها على صورته، وموقفه الأخلاقي الذي
حاول بناءه خلال سنوات طويلة عبر آلته الدعائية، كواحة قانون وديمقراطية وحقوق
إنسان في وسط صحراء استبدادية عربية شاسعة ومميته.
إضافة إلى دخوله في هذه المعركة
وهو منكسر عسكرياً، و يشعر فيها أنه مجرد من مخالبه الإجرامية، التي يرفعها في وجه
أبناء فلسطين، فالمعركة القانونية والأخلاقية التي تأتي في سياق نضالي، كمعركة
اليوم، تهز الأرض التي يقف عليها المحتل،
تشعره أن دائرة النهاية تقترب، وأن العالم الذي أوجده ودعمه، بل ومنحه صكوكا ظالمة،
قد ينقلب عليه، وهو الذي كان يرى نفسه الطفل المدلل له، ويتحرك في المنطقة على هذا
الأساس من الدلال الشرس، وتفتح بابا كبيرا للتساؤلات العميقة والوجودية حول
البدايات والمألات، فالمحتل يمتلك أدوات تسوق الخرفات والزيف للشعوب لوجوده.
لا أريد ان أخوض في المنطق القانوني للمعركة، وأبعادها الإجرائية، فهذا أمر قد خاض
فيه الكثير من المتخصصين، فقط أردت أن أعرج على نقاط مرتبطة بالقضية النضالية
الفلسطينية، وبحقها في الإنصاف القانوني، في لحظة تحرر تاريخية للوعي العالمي،
وأهم هذه النقاط:
ـ تدخل جنوب أفريقيا
المعركة القانونية متسلحة بتاريخ نضالي مشرف، ضد نظام فصل عنصري، ما زالت آثاره القاسية بادية للعين
في كل زاوية وملامح كل أحرار أفريقيا، ولذا تنطلق جنوب أفريقيا من خلفية أخلاقية،
وإرث وفيّ للأب الروحي لحركة النضال لجنوب افريقيا "نيلسون مانديلا"
الذي أصبح عنوانا للنضال العالمي، وهذا يمنحها قوة أخلاقية، ومصداقية لدى الشعوب
التي تراقب المعركة اليوم، وقضاة جنوب أفريقيا أيضا يتمتعون بسمعة جيدة، على الطرق
المحتل على المستوى الرسمي أو المحامون الذين يمثلونه، وخلفياتهم السلوكية التي
ارتبطت مؤخرا في فضائح جيفري إبستين الجنسية.
تدخل جنوب أفريقيا المعركة القانونية متسلحة بتاريخ نضالي مشرف، ضد نظام فصل عنصري، ما زالت آثاره القاسية بادية للعين في كل زاوية وملامح كل أحرار أفريقيا،
ـ تأتي هذه الدعوى وأنظار العالم الحر من أقصى الشرق إلى
أقصى الغرب، ومن أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب، يراقب مصداقية المحكمة، كآخر قلاع
المؤسسة الاممية التي كتبت حرب غزة وفاتها أخلاقياً وإنسانياً ووظيفياً، فإما
تنتصر للضحايا بعيدا عن الحسابات السياسية، ونفوذ اللوبيهات، وإما تهيل على نفسها تراب النسيان، وتدفن في مقبرة التواطؤ،
فبعد مواقف الأمين العام للأمم المتحدة الجيدة، واستعراض مدعي عام المحكمة
الجنائية، يشعر الجميع أن الأمم المتحدة ليست أداة من أدوات العالم الاستعماري،
وغير قادرة على تمثيل الضحايا والمقهورين في هذا العالم.
ـ لحظة التصلب
النفسي التي يعشيها الشعب الفلسطيني، بعد ٧ أكتوبر، ومعها النفسية العالمية
المتحدية للكثير من الضغوط في الجامعات، الصحف، أماكن العمل، وحتي على وسائل
التواصل الاجتماعي، بل وتحدي المآلات والمخاوف التي قد يسببها التهديد بسن قوانيين
قاسية مستقبلاً، في مقابل الانكسار والخوف الذي يسكن الاحتلال والداعمين له،
والذين يخشون اللحظة القانونية، كلحظة خلاص أولي، القانون الذي يهيمن على الحياة
الغربية، ويضبط إيقاع حياتها، وبل حتى الكيان الإسرائيلي المحتل الذي ظل يفتخر
زمناً بأنه الدولة القانونية الوحيدة في صحراء الاستبداد العربي، هذه اللحظة ستعزز
هذا التصلب، وستمنحهم بعداً قانونيا أممياً للمطالب والنضالات العالمية، فالقانون
الذي قام عليه الكيان المحتل، اليوم يقف أمامه، وأمام امتحان الاعتراف به واحترام
قراره، في حالة كان منصفاً ومنحازاً وهو ما نرجحه، ويزيد من حالة التراجع على مستوى
الدعم للاحتلال، ولذا سمعنا العديد من التصريحات والمخاوف التي تنتاب قادة الكيان الإسرائيلي من هذه الدعوى.
ـ إسرائيل اليوم
ليست إسرائيل ٢٠٠٤ عندما صدر بحقها قرار من نفس المحكمة قضى بوقف سياسة الاعتقالات
التعسفية، والإفراج عن المعتقلين الذين اعتقلتهم إسرائيل، وقامت بتنفيذ ذلك القرار
على الأقل لأجل صورتها الخارجية، فإسرائيل تواجه انقساما داخليا، على مستوى التصور
والفكرة والمستقبل، حيث يزداد سؤال المصير، وهاجس البقاء، الكثير من المفكرين والسياسيين الصهاينة الذين عاشوا
وربما ولدوا في الأرض المحتلة، لديهم حالة إفاقة دفعتهم إلى اتخاذ مواقف واضحة من
إسرائيل كدولة احتلال، وتمارس سلوكا لاإنسانيا ضد الفلسطينيين، بل ذهبوا إلى تفنيد
الزيف والخداع الذي أسست عليها هذه الدولة.
خارجياً تواجه الصهيونية تحدي الحفاظ على
الصورة النمطية، صورة الضحية، وصورة القوة التي تعمل في الخفاء، بالظل، هذه الهزة
ميادينها شوارع أمريكا والغرب والعالم الذي ينتمون له، حيث أصبح الطوفان البشري
يطالب بفك الارتباط بهذا الكيان، ويعري جرائمه .
ـ أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي تتفوق على
المؤسسات الإعلامية التي صنعها وسيطر عليها اللوبي الصهيوني، وخلقت شباباً لا يرون
في إسرائيل نموذجاً للديمقراطية واحترام حقوق الانسان، بل دولة تنتمي إلى عالم
الاستبداد والوحشية والتطرف، هز هذا الوعي سكون الجامعات الكبرى ومحطات النقل
والاحتفالات الرسمية والعامة، والطرقات العامة الرئيسية، وجعل من فلسطين وغزة
أيقونة نضال إنساني، مما سيزيد من أهمية هذه الدعوى والقرار الصادر فيها، سيخضعها
وقضاتها تحت مجهر النشطاء على هذه الوسائل، والبحث في كل تفاصيل الخلفيات.
خارجياً تواجه الصهيونية تحدي الحفاظ على الصورة النمطية، صورة الضحية، وصورة القوة التي تعمل في الخفاء، بالظل، هذه الهزة ميادينها شوارع أمريكا والغرب والعالم الذي ينتمون له، حيث أصبح الطوفان البشري يطالب بفك الارتباط بهذا الكيان، ويعري جرائمه .
ـ ندرك تماماً أن المؤسسات الأممية تتكئ على خلفية سياسية،
وأعضاءها يمثلون مصالح الدول، ومع ذلك فإن أي قرار سيصدر، أقصد القرار المستعجل
سينعكس بصورة كبيرة على إسرائيل، وعلاقاتها مع الدول بما فيها الدول الداعمة لها،
وحتى المجتمع الإسرائيلي الذي سيرى الكثير من شبابه انكشاف جزء من الغطاء الذي
تتدثر به إسرائيل المجتمع الدولي وقراراته، وسيمنع المنصفين منهم أو حتي المستغلين
السياسيين فضاء للحديث بصوت أعلى عن الانقسام والمخاوف، وهذا سيعمق الانقسام داخل
المجتمع الإسرائيلي الذي بدا منقسماً مؤخراً حول صلاحيات المحكمة العليا.
ـ يخسر الموقف
العربي والإسلامي الرسمي الكثير من اعتباره، خاصة الدول الأطراف في اتفاقية مناهضة
التعذيب، والتي عددها يزيد عن ١٣ دولة، وتسقط حجج السياسة والأمن القومي، بعدم
الانضمام إلى دعوى جنوب أفريقيا، باعتبارها متواطئة سياسيا ووظيفياً مع الاحتلال،
وهذا قد يفتح باب لانزلاقات سياسية في وسط النخب السياسية وحتى الحاكمة في حال فتح
نقاش عالمي حول مبررات عدم الانضمام، خاصة وأن دولة مثل جنوب أفريقيا، لا تنتمي
للمحيط العربي والإسلامي، بل واعترفت بإسرائيل منذ بداية احتلالها لفلسطين، ولم
تقطع علاقتها به، ولو أنها في مستوياتها الدنيا ـ مكتب اتصال ـ بعد قرار ترامب
الاعتراف بالقدس عاصمة للاحتلال.
ـ سيخسر مشروع
التطبيع الكثير، وسيفقد العديد من المبررات السياسية والأخلاقية التي كان يسوقها، بعد الاندفاع السريع وغير المبرر، بحجة محاربة الإرهاب، وازدهار الشرق
الأوسط، وغيرها من المبررات التي سيقت خلال السنوات القليلة الماضية، حيث سيحول
المحتل إلى حالة إرهابية مقلقة، بغض النظر عن التأخر في الفصل النهائي للدعوى
والذي قد يمتد للسنوات، لكن ستفتح هذه الدعوى نقاشاً عميقا ًوعالياً حول مشروعية
التعامل مع المجرم، وسيضع الحكام أمام عقبة أخلاقية وقانونية كبيرة.
وفي الأخير فهل نحن أمام محطة قانونية يمكن
البناء عليها، وفتح باب كبير وواسع مستقبلا لمقاضاة الاحتلال الإسرائيلي على
جرائمه، ومشروعيته التي تنظر فيها المحكمة لإصدار فتوى بشأنه؟
ندرك أن الأمر ليس سهلاً إجرائياً وقانونياً،
وسيأخذ الفصل النهائي وقتاً طويلاً، لكن اتخاذ قرار مستعجل في غضون شهر أو أقل،
سيكون حديث العالم في المرحلة المقبلة.