كتب

أسباب التفاوت في الثراء والفقر بين الدول.. أمريكا اللاتينية واليابان نموذجا

تعد مناجم الذهب والفضة موجودات تتضاءل قيمتها مع الزمن، فبعد نحو مئتي عام، عندما حصل المستعمرون الأمريكيون على حريتهم، تفوّق الشمال الأمريكي على الأراضي الممتدة نحو الجنوب..
الكتاب: غنى الأمم وفقرها لماذا بعضها غني جدّا وبعضها فقير جدّا.
الكاتب: ديفيد لانديز ، ترجمة هدى عبد الفتاح الكيلاني.
الناشر: الهيئة العامة السورية للكتاب، دمشق، الطبعة الأولى 2023.
(عدد الصفحات 861 من القطع الكبير).


الطريق الذي اتبعته أمريكا الجنوبية

في هذا الفصل، يرى المؤرخ البريطاني أنَّ أمريكا اللاتينية اتبعت نمطا مختلفا تماما، لم تكن بداية من الدول الأكثر فقرا، في القرن السابع عشر على سبيل المثال؛ بل على العكس تماما. اعتبر الغزاة الإسبان والبرتغاليون منافسيهم الإنجليز أيتام القدر والمصير، إذ كيف يمكن للمرء أن يقارن غابات وحقول أمريكا الشمالية أو الجزر المهجورة، أو غير المجدية في جزر الأنتيل الصغرى مع الفضة والذهب في إسبانيا الجديدة والبيرو، أو مع الأخشاب الصبغية والماس والذهب في البرازيل؟ أفضل ما يمكن أن يفعله الإنجليز أن يكمنوا كالثعالب على أطراف أساطيل الذهب الإسبانية، بينما يكافح مستعمروهم من أجل البقاء في بيئة معادية. حتى في الإمكانيات الزراعية، نافست دول أمريكا اللاتينية بشكل جيد، خاصة في الأجزاء المعتدلة منها.

لكن لا شيء يبقى على حاله، ومقارنات الأمس تصبح تاريخ اليوم. تعد مناجم الذهب والفضة موجودات تتضاءل قيمتها مع الزمن، فبعد نحو مئتي عام، عندما حصل المستعمرون الأمريكيون على حريتهم، تفوّق الشمال الأمريكي على الأراضي الممتدة نحو الجنوب، حيث أصبح أكثر غنى من حيث دخل الفرد، وأكثر ثراء في توزيع الثروة. كانت الاستثناءات الوحيدة مساحات صغيرة من المحاصيل المتخصصة المربحة، وتحديدا جزر قصب السكر في منطقة البحر الكاريبي؛ ولكن فقط في حال استبعاد السكان العبيد من البيانات.

كان للتغيير في الثروة النسبية جذور عميقة، فقد عثر الإنجليز على أرض غير مكتظة بالسكان، وأزاحوا السكان الأصليين من أرضهم لإفساح المجال لعائلات المستوطنين، ما خلق مع مرور الوقت سياسة تمييز عنصري مطلقة؛ في حين وجد الإسبان الأجزاء الأكثر كثافة سكانية في العالم الجديد، واختاروا التزاوج مع السكان. يرى البعض هذا الاختلاف دليلا على العنصرية الإنجليزية أو (البروتستانتية) مقابل الانفتاح الإسباني أو (الكاثوليكي). ربما كان ذلك صحيحا؛ على الرغم من أن التوزيع السكاني له منطقه الخاص. ففي حين هاجر الإنجليز إلى المستعمرات الشمالية والوسطى بشكل عائلي، بحيث كان التوزيع العمري مشابها للتوزيع السكاني في إنجلترا، باستثناء الأشخاص الذين تتجاوز أعمارهم ستين عاما، في المقابل، لم يشجع الإسبان هجرة العائلات أو حتى النساء إلى العالم الجديد.

يقول المؤرخ البريطاني ديفيد لانديز: "بعد استسلام السكان الأصليين للعنف والإرهاق واليأس، وقبل كل شيء للمرض، لجأ الإسبان إلى استيراد العبيد السود من أفريقيا. عمل هؤلاء العبيد في زراعة قصب السكر، والتنقيب عن الذهب، وما شابه، لكنهم لم يؤدوا قط دورا كبيرا في البر الرئيسي لأمريكا اللاتينية كما هي الحال في جزر الكاريبي وجنوب الولايات المتحدة. في الوقت نفسه، غاب المهاجرون من الدول الأوروبية الأخرى عن المشهد. في إسبانيا نفسها، اشتكى السكان المحليون بمرارة من المنافسة وادعاءات رجال الأعمال والتجار والحرفيين من غير الإسبان وغير الكاثوليك. لم يكن الأمر كذلك في المستعمرات الإسبانية في أمريكا، فقد بذل التاج الملكي قصارى جهده لإبعاد هؤلاء الغرباء عن ممتلكاته في العالم الجديد.

إلا أن هذا الاقتصاد حرم الإمبراطورية من المهارات والمعرفة التي هي بأمس الحاجة إليها، ناهيك عن المزايا الثقافية للتنوع، وتلك البدع البروتستانتية المشاكسة التي عززت التحدي الفكري وغذت الشهية للتعلم. علاوة على ذلك، تعقبت محاكم التفتيش البدع في كل مكان من المستعمرات الإسبانية، وطاردت أولئك اليهود المتخفين، الذين اعتقدوا أن مياه المحيط ستحميهم من التعصب المتطفل. كان الهدف استكمال التطهير؛ في حين كانت النتيجة خلق البيئة المغلقة التي كانت سائدة في الوطن الأم. ثبتت عظمة كل ذلك بالنسبة إلى الصفاء والنقاء، ولكن كانت النتائج سيئة بالنسبة إلى الأعمال والمعرفة والخبرة. (لاحظ أن لا شيء من هذا أزعج إسبانيا. نحو بداية القرن التاسع عشر، كان الإسبان لا يزالون يعتقدون أن بلادهم مركز الحضارة الأوروبية ومثال الإيمان والفضيلة، معتبرين أن الجهل باللغة الإسبانية يعدّ جهلا خالصا وبسيطا)" (ص 471).

في إسبانيا الجديدة (المكسيك)، بلغت نسبة الذكور إلى الإناث 10 إلى 1، لذلك كان الزواج بين الأعراق المختلفة أمرا لا مفر منه. في الواقع، في البداية قبل أن تترسخ قيود الزواج الأحادي المسيحي، جمع بعض الفاتحين عددا كبيرا من النساء من محظيات الهنود الحمر، في هذه الحالة، أصبح المولودون المُهجّنون في أمريكا اللاتينية مجموعة عرقية وسيطة، الأفضل هم الأكثر بياضا، عددهم قليل، ولكنه يفوق أولئك المتحدرين من أصل إسباني، وهم أقل مرتبة من حيث المكانة الاجتماعية والوظيفة، ولكنهم أفضل بكثير من السكان الأصليين الخالصين. تولى أصحاب الدماء المختلطة مهام الإشراف والمراقبة في المجتمع، وفتحوا المحال التجارية وتولوا الوظائف الثانوية، جرى تعيين الهنود من السكان الأصليين وتجنيدهم للعمل في الحقول والمناجم، وفي المنازل وعلى الطرقات.

في الحقبة الاستعمارية، كانت السياسة الإسبانية تهدف إلى بتر التجارة الأرجنتينية؛ لأسباب تتعلق بفرض السيطرة وجباية الضرائب، حَظَرت الإمبراطورية الإسبانية تصدير الفضة من بوينس آيرس، وحاولت إخراج الشحنات من بوتوسي لتتبع طريق الأنديز ـ المحيط الهادئ (وذلك عبر الجبال للوصول إلى المحيط الهادئ، صعودا إلى الساحل الغربي إلى برزخ إلى بنما، عبر البحر الكاريبي وإلى أوروبا)، حقق ذلك نجاحا جزئيا وحسب، وفرت المقاطعات الشمالية في الأرجنتين الغذاء والماشية والقطن الخام والنسيج الصوفي المصنّع في المنازل، لما أصبح لفترة من الوقت واحدة من أكبر المدن في الأمريكيتين (تضم 160.000 نسمة في بداية القرن السابع عشر)، وتقع على ارتفاع شاهق يبلغ 15.843 قدما؛ بينما دُفع ثمن الفضة المكتسبة في موانئ الأطلسي مقابل الحديد والأسلحة والملابس، وغيرها من الصناعات الأوروبية. غني عن القول بأن القيمة المبالغ فيها لهذه السلع المحظورة، استدعت كل أشكال الفساد؛ كما أنها شجعت الموظفين الإسبان والمالكين على استنزاف السكان الهنود حتى الرمق الأخير، مع إظهار الكثير من النوايا الحسنة بحجة حماية السكان الأصليين.

أدى الانفصال عن إسبانيا (1816) وتشرذم الإمبراطورية الإسبانية القديمة إلى وضع حدّ لهذه التجارة، لكن الهبات الطبيعية التي تتمتع بها الأرجنتين بقيت على حالها: مجال واسع من المناخات المتنوعة، بما في ذلك منطقة وسطى معتدلة، مروج مفتوحة خالية من الأشجار، مناسبة جدا لتربية المواشي والأغنام، تربة جيدة لزراعة الحبوب، بعض الأماكن المناسبة للمحاصيل شبه الاستوائية مثل القطن والسكر، تحتوي البلاد على القليل من الموارد الصناعية، حيث لا تتوفر كمية يحكى بها من الحديد، أو الفحم، أو الخشب، أو البترول، أو حتى المعادن، تقع تلك القوة المائية الموجودة على طول الجانب الشرقي من السلسلة الجبلية، بمنأى عن طرق التجارة وعن أيدي التجار. في مجال التصنيع، تعدّ بعض هذه الصناعات، بل معظمها، من مخلفات الصناعة المحلية، تقع جميع هذه الأعمال تقريبا على عاتق النساء، كالغزل والنسيج، وصناعة القدور وصناعة الصابون، وزيت لطهي، وصناعة الشموع، في مجتمع ذكوري ورث قيَمَه من إسبانيا، أثمرت مرحلة الرشد ذكورا يتمتعون (باستقلالية مطلقة وتقاعس تام).

قامت معظم السياسات الأرجنتينية في فترة ما بعد الاستقلال، على معركة جارية بين مركزية بوينس آيرس وفدرالية المقاطعات المفككة، لم يتم إعلان جمهورية الأرجنتين حتى عام 1862، حتى هذا كان حدثا سابقا لأوانه، استغرق الأمر جيلا آخر من الانقلابات وعمليات القتل لإنهاء حالات العصيان والانفصال.
ارتبط الطابع الارتجالي للإدارة الاستعمارية مع الانهيار غير المتوقع للحكم الإسباني في صياغة مصير إشكالية أملاك الوقف، قامت معظم السياسات الأرجنتينية في فترة ما بعد الاستقلال، على معركة جارية بين مركزية بوينس آيرس وفدرالية المقاطعات المفككة، لم يتم إعلان جمهورية الأرجنتين حتى عام 1862، حتى هذا كان حدثا سابقا لأوانه، استغرق الأمر جيلا آخر من الانقلابات وعمليات القتل لإنهاء حالات العصيان والانفصال، حاول بعض العلماء صرف النظر عن هذه الحالة من عدم الاستقرار السياسي، بالإشارة إلى حالة الانفصام في الجمهورية الأمريكية الفتية، لم يتم تأكيد وحدة الأمة حتى هزيمة الكونفدرالية في عام 1865، لا أتفق شخصيا مع هذه المقارنة؛ فقد كانت الولايات المتحدة كيانا فعّالا وعاملا، حتى أصبح الخلاف حول العبودية أمرا غير قابل للضبط، لم تكن الأرجنتين كيانا عاملا لمدة نصف قرن بعد الاستقلال.

لم تعرف الأرجنتين، التي كانت على الدوام أرضا لرعي الماشية والأغنام، سوى النزر اليسير من المحاصيل ومن المزارعين، ارتبط انتصار الرعي والإهمال النسبي للزراعة ارتباطا وثيقا بسياسات الأراضي والهجرة، لذا، رأى المراقبون الأجانب في البلاد مغناطيسا محتملا لجذب المستوطنين، اتفق معهم في ذلك بعض السكان الأصليين ذوي الرؤية البعيدة، الذين دعوا إلى تجنيد أوسع للمهاجرين، ولا سيما من المستوطنين القادمين من أوروبا البروتستانتية، الذين عدّوهم أفضل تعليما واجتهادا في العمل، وأكثر نضجا من الناحية السياسية، يتطلب هذا بالطبع تغييرا في سياسة أو قوة الكنيسة الكاثوليكية، وكذلك في مواقف السكان المتجذرة.

استعادة عهد الإمبراطور مايجي

في هذا الفصل الثالث والعشرين، يتحدث المؤرخ البريطاني عن صعود الإمبراطور مايجي إلى قمة السلطة في اليابان، حيث شهدت البلاد في عهده ثورة ما بين عامي 1867 و1868؛ جرى على إثرها الإطاحة بالشوغونية (السلالة العسكرية الحاكمة) ـ التي انهارت فعلياـ واستعاد الإمبراطور في كيوتو زمام السيطرة على الدولة، انتهى بذلك ربع الألفية من حكم الأسرة توكوغاوا، لكن اليابانيين لا يسمّون هذا الانقلاب ثورة؛ بل استعادة؛ لأنهم يفضلون عدّها عودة إلى الحياة الطبيعية، فضلا عن أن الثورات تعود إلى الصين، فالصينيون لديهم سلالات عدّة؛ بينما يوجد في اليابان عائلة ملكية واحدة، تعود إلى البداية.

في ثمانينيات القرن الثاني عشر، حُكم اليابان للمرة الأولى، ليس من إمبراطور، بل من قائد محارب يُطلق عليه لقب: شوغون، تعني حرفيا قائد الجيش، مع وجود بعض الانقطاعات والفترات الفاصلة، أصبح هذا الحكم من قبل الأقوى هو النمط الطبيعي، تلك هي نقطة ضعف الملكية الوراثية، إذ إن السلالة الحاكمة تعجز عن الحفاظ على أهليتها إلى أجل غير مسمى، على الرغم من دعم النسب المقدس، مهما كانت المورّثات ضعيفة والزيجات سيئة، فإن الرجال الأقوياء ورؤساء القصر سوف يرتقون إلى سدّة السلطة، عاجلا أم آجلا، ويطيحون بالملك الشرعي.

خلال العصور الوسطى، وفي فرنسا بالتحديد، تولى الكارولنجيون الحكم بعد الميروفنجيين، ولكن اغتصب الحكم منهم الأسرة الكابية، بينما في اليابان لم يكن الحل خلع الأسرة الحاكمة من العرش والقضاء عليها، بل حجرها. فكان الملك يُحجز مع عائلته وحاشيته داخل قصورهم ومعابدهم، وذلك تحت حكم شوغون توكوغاوا في مدينة كيوتو، هناك كان الميكادر ينظم الشعر، ويؤدي أعمالا دينية رمزية (كزراعة أول نبات أرز)، ويسمح لنفسه بالترفيه وتلقي الخدمات، كانت تلك هي النسخة اليابانية من القدسية الافتراضية، التي تتسم بعزلة شعائرية وعجز مقدسة.

مع ذلك، فإن وجود إمبراطور ـ أي حاكم شرعي فوق الحاكم الحقيقي ـ، جعل من الممكن لأعداء شوغون توكوغاوا البحث عن بديل مشرّف، في مجتمع لا يقدّر شيئا أعلى من الولاء الشخصي، يمكن للنخب المتمردة أن تضع السلطة الأعلى ـ الإمبراطور والأمة ـ فوق سيدهم، وفوقه الحاكم العسكري، دون أن يُوصَفوا بالخيانة، حتى إنه يمكنهم القيام بثورة دون أن يُعدّوا ثوارا.

يقول المؤرح البريطاني ديفيد لانديز: "في الوقت عينه، لم تغب عن الأنظار رموز الوحدة الوطنية؛ وجرى تحديد مبادئ ومشاعر الكبرياء الوطني، الأمر الذي جنّب البلاد الكثير من الاضطرابات؛ فالثورات، كالحروب الأهلية، يمكن أن تكون مدمرة للنظام وللفعالية الوطنية، اتسم عهد استعادة مايجي بالكثير من الخلافات والانشقاقات، التي كانت في أغلبها عنيفة، كانت السنوات الأخيرة من النظام القديم، والسنوات الأولى من العهد الجديد ملطخة بدماء الاغتيالات، وانتفاضات الفلاحين، والتمرد الرجعي، مع ذلك، كان انتقال الحكم في اليابان أكثر سلاسة من الانقلاب السياسي في كل من فرنسا وروسيا، وذلك لسببين: اتسم النظام الجديد بأساس أخلاقي رفيع المستوى؛ كما أنه حتى المتمردون والمهانون تخوفوا من إمكانية إعطاء السلاح أو تقديم فرصة للأعداء في الخارج، كانت الدول الإمبريالية الأجنبية تتربص للانقضاض على فريستها، والانقسامات الداخلية تستدعي التدخل الخارجي، نستذكر هنا قصة التدخل الإمبريالي في مكان آخر، حيث استدعت الخلافات والمكائد الداخلية دخول القوى الأوروبية إلى الهند.

اتجه اليابانيون نحو التحديث بقوة ونظام مميزين. كانوا على أتم استعداد لهذه الخطوة، وذلك بحكم وجود تقليد الحكومة الفعالة، ومن خلال تطبيق مستويات عالية من محو الأمية، وبناء أسري متين، ومن خلال أخلاقيات عمل مثالية وانضباط ذاتي، إلى جانب إحساسهم بالهوية الوطنية والتفوق المتأصل.
انهار فعلا حكم توكوغاوا العسكري قبل منتصف القرن التاسع عشر؛ وانتُهكت علانية القواعد القديمة للمكان والرتبة، فتزوج أفراد الساموراي الفقراء من وريثات التجار، وتحول الفلاحون الأثرياء إلى وجهاء محليين، ما يماثل طبقة النبلاء في البلاد، وتلاشت مظاهر الطاعة والولاء، اتبعت الإقطاعيات الأكثر ثراء (كتلك الموجودة غرب هونشو وجنوب كيوشو) سياستها الخارجية الخاصة بها، معتقدة أنها تحسن التعامل مع أولئك الهمجيين الوقحين بطريقة أفضل من الحكام العسكريين، فقاموا بتعيين فنيين ومستشارين أجانب، واشتروا الأسلحة من الخارج، وبنوا الترسانات وأحواض بناء السفن، حتى إن البعض لجأ إلى تجنيد الفلاحين في الخدمة العسكرية، وحذت الحكومة العسكرية حذوهم، في بلد مُنع فيه الفلاحون من حمل السلاح، وسيطر أفراد الساموراي على العامة بقوة السلاح، عُدّ ذلك انتهاكا صارخا للنظام العام والملكية الاجتماعية، وترتب على ذلك عواقب لا حصر لها، لكن كيف يتم التسلح للحرب؟ كره أفراد الساموراي القتال بالبنادق، وعدّوه سلوكا مهينا وغير مشرف"(ص 559).

كانت ادعاءات الغرباء هي جوهر الموضوع؛ فأطلق الشعار البليغ التالي: ليكرم الإمبراطور ويطرد الهمجيون! تولى قيادة التحرك من أجل التغيير كبار الإقطاعيين في أقصى الجنوب والغرب، في ساتسوما وتشوشو، بعد أن كانوا خصوما فيما مضى، اتحدوا اليوم في وجه الحكام العسكريين. فازوا من جهة وخسروا من جهة أخرى. كان ذلك مفارقة أخرى في تلك المرحلة من استعادة الثورة. اعتقد القادة أن الزمن سيعود بهم إلى أيام خلت؛ لكنهم، بدلا من ذلك، وجدوا أنفسهم محاصرين في القادم من الأيام، في موجة التحديث، إذ تلك هي الطريقة الوحيدة لهزيمة الغزاة البرابرة.

في هذه المرحلة، تولى الثوار الحقيقيون زمام الأمور، الفنيون أو البيروقراطيون التطلعيون. استهل عام 1868 بافتتاح المزيد من الموانئ الرئيسية في وجه التجارة الخارجية. في السادس من نيسان أقسم الإمبراطور الجديد "قسم الميثاق"، واعدا بإنشاء مؤسسات تمثيلية ومجتمع مدني ديمقراطي جديد. لا شك أن قطع الوعود أسهل من تنفيذها، فقد تكون هذه المبادرة موجهة إلى مراقبين خارجيين أكثر منها إلى الشعب الياباني. الأمر الأكثر أهمية، هو التحولات التي طالت الحكومة المركزية: كإلغاء المؤسسات الإقطاعية، وتحويل الإقطاعيات إلى محافظات يديرها أشخاص تعينهم الحكومة، والاستيلاء من قبل المركز على العائدات التي كانت تذهب إلى النخبة المحاربة القديمة. قدمت كل من ساتسوما وتشوشو، هنا أيضا، مثالا رائعا، ففي آذار/مارس عام 1869، قدم الإقطاعيون أراضيهم إلى الإمبراطور، أي إلى الأمة. حذا الإقطاعيون الآخرون حذوهم؛ لأن ذلك هو السلوك الصحيح والمخلص الذي يتوجب عليهم فعله. (تذكرنا هذه البادرة بالتنازل الطوعي عن المستحقات الإقطاعية من قبل النبلاء الفرنسيين في تلك الليلة المصيرية ليوم الرابع من شهر آب عام 1789). في الوقت نفسه، توقف الفلاحون اليابانيون عن دفع المستحقات لأسيادهم الإقطاعيين، وباتوا يدفعون الضرائب إلى الحكومة الإمبراطورية.

اتجه اليابانيون نحو التحديث بقوة ونظام مميزين. كانوا على أتم استعداد لهذه الخطوة، وذلك بحكم وجود تقليد الحكومة الفعالة، ومن خلال تطبيق مستويات عالية من محو الأمية، وبناء أسري متين، ومن خلال أخلاقيات عمل مثالية وانضباط ذاتي، إلى جانب إحساسهم بالهوية الوطنية والتفوق المتأصل.

كان هذا هو جوهر الأمر، فقد عرف اليابانيون أنهم شعب متفوق، ولأنهم عرفوا ذلك، تمكنوا من التعرف على تفوق الآخرين. بناء على التحركات السابقة تحت قيادة حكومة توكوغاوا، وظف اليابانيون خبراء وفنيين أجانب، وأرسلوا في الوقت نفسه، عملاءهم إلى الخارج لإحضار مشاهدات حية عن الأساليب الأوروبية والأمريكية. أرست هذه الهيئة الاستخباراتية الأساس لمجموعة من الخيارات، ما يعكس دراسة متأنية ومرنة للوقائع التفصيلية. من ثم، كان الأنموذج العسكري الأول هو الجيش الفرنسي، ولكن بعد هزيمة فرنسا على يد بروسيا في 1870 - 1871 قرر اليابانيون أن ألمانيا قطعت شوطا أكبر في هذا المجال. فحدث تحول مماثل من القوانين والممارسات القانونية الفرنسية إلى مثيلتها الألمانية.

من المؤكد أن اليابان لم تكن تتمتع بالاستقلالية الجمركية والتجارية التي تمتعت بها إنجلترا في القرن السابع عشر. كان الأمر المثير للسخط، هو الرفض الأوروبي لإعادة التفاوض بشأن المعاهدات غير المتكافئة. إلا أن الأنموذج الألماني يبدو هنا منطقيا؛ إذ لم تنجح ألمانيا، مثل اليابان، في تحقيق اتحاد شاق إلا منذ عهد قريب.
في هذا السياق يقول المؤرخ البريطاني ديفيد لانديز: "لم توفر اليابان فرصة للتعلم؛ في شهر تشرين الأول من عام 1871، توجه إلى الولايات المتحدة وأوروبا وفدا برئاسة الأمير إيواكورا تومومي (Iwakura Tomomi)، ضم كبار المخترعين أمثال أوكوبو توشيميتشي Okubo Toshimichi) والأمير إيتو هيروبومي (Ito Hirobumi)، في مسعى منهم لإلغاء المعاهدات غير المتكافئة التي فرضت في خمسينيات القرن التاسع عشر. أراد اليابانيون، قبل كل شيء، استعادة السيطرة على الرسوم الجمركية في بلادهم، بغية حماية صناعاتهم "الناشئة"، إلا أنهم واجهوا معوقات جمة، إذ لم يكن لدى الدول الغربية أي نية للتخلي عن حقها الذي كسبته بشق الأنفس، في الدخول إلى السوق اليابانية. حسنا، لا مشكلة، ابتلع أعضاء الوفد مشاعر كبريائهم، وتابعوا اتصالاتهم، فزاروا المعامل والورش، وأحواض بناء السفن ومستودعات الأسلحة، والسكك الحديدية والأقنية، ولم يعودوا حتى شهر أيلول من عام 1873، أي بعد عامين تقريبا، محملين بغنائم المعرفة والتعلم، وعلى أحر من الجمر لإجراء الإصلاحات.

أحدثت هذه التجربة المباشرة من قبل القيادة اليابانية تأثيرا كبيرا، فقد أعرب أوكوبو (Okubo) عن أسفه، وهو يستقل قطارا إنجليزيا ويتأمل المشهد الصناعي، أنه قبل مغادرته اليابان كان يعتقد أنه أنجز مهامه كافة، كاستعادة السلطة الإمبراطورية وإحلال الحكومة المركزية مكان الإقطاعيات. إلا أنه أدرك الآن أن مهام جساما ما تزال في انتظاره. فاليابان لا تقارن بالقوى الأكثر تقدمية في العالم. قدمت إنجلترا، بشكل خاص، درسا في التطور الذاتي، بعد أن كانت ذات يوم دولة صغيرة معزولة – مثل اليابان - فقد اتبعت سياسة تعزيز النفوذ الذاتي. أسهمت أعمال الملاحة، بشكل كبير، في رفع البحرية التجارية الوطنية إلى موقع الهيمنة الدولية. لم تتخل بريطانيا عن حماية سياسة عدم التدخل، إلا بعد أن حققت مرتبة القيادة الصناعية. (التحليل ليس سيئا؛ لم يكن آدم سميث ليختلف معه في الرأي)"(ص563).

من المؤكد أن اليابان لم تكن تتمتع بالاستقلالية الجمركية والتجارية التي تمتعت بها إنجلترا في القرن السابع عشر. كان الأمر المثير للسخط هو الرفض الأوروبي لإعادة التفاوض بشأن المعاهدات غير المتكافئة، إلا أن الأنموذج الألماني يبدو هنا منطقيا؛ إذ لم تنجح ألمانيا مثل اليابان في تحقيق اتحاد شاق إلا منذ عهد قريب. كذلك، كانت ألمانيا، كاليابان، قد بدأت انطلاقتها من موقع اقتصادي متدن، وانظروا إلى أين وصلت! تأثر أوكوبو إلى حد كبير بالشخصيات الألمانية التي التقى بها؛ فقد وجدهم مقتصدين في الإنفاق، ويعملون بجد، ومتواضعين مثل عامة الشعب الياباني. وجد قادتهم أشخاصا واقعيين وعملانيين، يركزون، كما قالوا، على بناء القوة الوطنية. لقد كانوا تجار القرن التاسع عشر. عاد أوكوبو وأضفى على البيروقراطية اليابانية نزعة ألمانية.

اقرأ أيضا: أسباب التفاوت في الثراء والفقر بين الدول.. قراءة في كتاب
الأكثر قراءة اليوم
الأكثر قراءة في أسبوع