المفاوض المقاوم في الدوحة يفاوض العالم كل العالم ويحدد مستقبله، وعليه
الخروج بمكاسب لشعبه أولا، لذلك فإن المفاوضة تبدو لنا أقسى وأعسر من الحرب على
الميدان. ذهب المفاوض إلى الدوحة ممتلئا بمقاومين منتصرين يكبدون العدو خسائر لم
يتخيلها حتى في كوابيسه، ولكنه ذهب بشعب منهك وجائع وعطشان في حر الصيف، والعدو
يذكره بآلام شعبه عبر قصف المدارس وإحراق الأطفال في الخيام وهو أسلوبه وأخلاقه.
يلتقي المفاوض في الدوحة بوسيط لا يحب انتصاره ويعمل على تفريغ حربه من كل
نتيجة، وهو المصري ممثل خط التطبيع العربي، ويلتقي بالأمريكي الذي يعمل على هزيمته
لكنه محتاج فقط إلى إعلان إعلامي بتوقف الحرب ليصب نصرا في ماكينة دعايته
الانتخابية، دون أن يقدم حلا ينهي معاناة الناس. نثق في المفاوض ونشفق عليه ونحاول
تفكيك اللحظة التي يعيشها في الدوحة.
صف التطبيع حول طاولة التفاوض
صف التطبيع العربي جالس إلى طاولة التفاوض ويشتغل ضد الفلسطيني لأنه يحسب خساراته من نصر المقاومة وخسارته متعددة ومتنوعة، هذا الصف/ الخط يمثله حول الطاولة النظام المصري؛ الخاسر الأكبر من انتصار المقاومة، ونظنه من أقوى أداوت الضغط على المفاوض هناك؛ لا من أجل إنقاذ العدو فحسب بل من إنقاذ نفسه
صف التطبيع العربي جالس إلى طاولة التفاوض ويشتغل ضد الفلسطيني لأنه يحسب
خساراته من نصر
المقاومة وخسارته متعددة ومتنوعة، هذا الصف/ الخط يمثله حول
الطاولة النظام المصري؛ الخاسر الأكبر من انتصار المقاومة، ونظنه من أقوى أداوت
الضغط على المفاوض هناك؛ لا من أجل إنقاذ العدو فحسب بل من إنقاذ نفسه، ففي هذا
النصر والصمود خسارات له لا يمكنه تلافيها، وقد حاول طيلة تسعة أشهر ولم يفلح إلا
في تجويع الفلسطيني.
ومن خساراته أن هذه الحرب التي لم يشارك فيها هزمته وهو جاثم في مطاراته،
وحولت سلاحه إلى خردة لا يجد وجها لاستعمالها. وهو يحتاج أقل منها ليقمع شعبه،
لذلك فهي تتحول إلى عبء على موازنته ولا نظنه يهتم للخسارة المالية، ولكن تلك
الأسراب من الطائرات الحديثة والدبابات الثقيلة غير المفيدة في قمع الشعوب ستتحول الآن
إلى عار للجيوش الباركة، وأكثر من ذلك يصير شراء المزيد منها عارا أكبر. ولقد كانت
صفقات السلاح دوما وسيلة لتدبر حماية من صانع السلاح للنظام الذي يشتريها، فهل
بقيت سبيل لطلب حماية بصفقة سلاح تشغل مصانع الغرب وتزيد أرباحه؟
ومنها أن وضعية الضغط على القيادة الفلسطينية وتحجيم مطالبها بمقابل مادي
لصالح العدو قد انتهت، وقد قالها هنية للسيسي: "أنا لست ياسر عرفات وحماس
ليست فتح. هذه الوضعية انتهت أو هي ورقة احترقت، فالعدو يفاوض الآن مباشرة مع صاحب
الشأن فيحوله مرغما وتحت السلاح إلى قيادة مستقبلية لشعبه وللمنطقة، إنه فاعل
رئيسي في المشهد، وهذا يُفقد خط التطبيع ورقة سيبحث عن استعادتها حول طاولة
التفاوض، وهذا ضغط آخر على المفاوض.
ومنها أن نهاية دور خط التطبيع أو قلة أهميته في إدارة المنطقة لصالح
الأمريكي والغربي عامة سيفقد هذه الأنظمة ما كانت تتلقاه من
دعم سياسي ومالي نظير
إخضاع الفلسطيني وإخضاع شعوبها المتعاطفة معه، ولا شك أنها ترى (وهي حول الطاولة
ممثلة بزعيمها الانقلابي) تقلص دورها وفقدانها الدعم، وهو أمر يرعبها ويجرأ شعوبها
عليها (هذا إذا انتبهت الشعوب المخدرة بإعلام سفيه).
العدو يفاوض الآن مباشرة مع صاحب الشأن فيحوله مرغما وتحت السلاح إلى قيادة مستقبلية لشعبه وللمنطقة، إنه فاعل رئيسي في المشهد، وهذا يُفقد خط التطبيع ورقة سيبحث عن استعادتها حول طاولة التفاوض، وهذا ضغط آخر على المفاوض
ما نفتأ نسمع الأمريكي يتحدث عن التطبيع ونراه يخطط لإنقاذ حلفائه، ولكننا
نرى عجزه أيضا، فهذا الخط أعجز من أن يستعمل سلاحه ضد الفلسطيني وأعجز من أن يسوق
نفسه بشعارات العمل العربي المشترك. على طاولة التفاوض الآن إنهاء التطبيع بقوة
النصر على الميدان.
ولدينا ما يشبه اليقين أن سنسمع في قادم السنوات حديث التطبيع مع الشعوب
بتجاوز الأنظمة المستبدة، أي استعادة خطاب الديمقراطية لعله ينقذ ما يمكن إنقاذه
(ونتحدث على أمل استفاقة الشعوب).
الحذر من تصديق انهيار العدو
من كان يظن أن المقاومة غير المسلحة قد تصمد تسعة شهور تحت قصف مدمر فاق ما
صب على أية مدينة في العالم وفي التاريخ بما في ذلك هيروشيما؟ أكثر المتعاطفين مع
المقاومة قرأ خطابها في الصمود على أنه من باب الدعاية الحربية، ولكن المفاجأة لم
تعد مفاجأة بل إن مؤشرات القدرة على المزيد من الضربات الموفقة تظهر للعيان. تألمت
المقاومة ولكن العدو تألم أكثر، ونتوقع أن المفاوض حذر من الإفراط في قراءة انهيار
العدو وفقدانه السيطرة على كيانه وعلى حلفائه المطبعين.
كل الأخبار تترادف عن انهيار جيش العدو عسكريا ونفسيا وحاجته الماسة
والسريعة إلى زمن ترميم، وهنا نرى أن العدو لم يفقد الدور الذي صنع له بعد. فمعامل
السلاح سترمم جيشه والأموال ستغدق على جنود مهزومين لكنهم يحبون المال بعقل مرتزق
حروب، وليست الأموال ولا السلاح ما ينقص داعميه.
بعض نتائج الإفراط في تخيل هزيمته ليس جيدا للمفاوض؛ لأنه قد يخلق حالة زهو
بنصر معلق بالمستقبل ويحتاج معارك أخرى طويلة في السياسة وفي السلاح. إحدى مهام
طاولة التفاوض أن لا يمنح العدو هدنة لترميم نفسه وهو ليس أمرا هينا، وما يسمى
باليوم التالي للتفاوض هو أن لا يملك الكيان فرصة عودة للحرب في الزمن والوقت الذي
يقرره كما كان يفعل منذ زمن تأسيسه.
هنا سيجد المفاوض نفسه وحيدا ومعزولا، وهذا يجعل مهمته أعسر من مهمة
المقاتل الذي كان يشرب القهوة ويرجم بالهاون. وإذ نخجل أن نقترح على المقاوم/المفاوض
فإننا ننصح له أن يضع على الطاولة موجة التعاطف الدولي الجبارة التي سارت معه
ونصرته بما في أيديها، فهذه الموجة لا تزال معه ولعلها تطلب منه الصمود لتواصل،
فكل استسلام من قبله يعني أنه رضي وهو صاحب الدار بما يفقد الموجة زخمها ويبرد
حماسها. إن نصره تحول إلى متنفس حرية كبيرة للعالم، والاستثمار فيه مهم لتوسعة
النصر خارج أرض المعركة الضيق.
لن تكون هناك جولة واحدة
العدو ذهب ليطيل ويمطط ويركز على التفاصيل الفرعية ولديه أجندة مرتبطة بالانتخابات الأمريكية، لذلك فان معاناة السكان -التي لم نتحمل حتى النظر إليها في التلفازات- ستكون نقطة ضعفه. وقد تبين أن خطة العدو هي حرق الأطفال أحياء لكي يحترق قلب المفاوض ويضعف
هذا يقين، فالعدو ذهب ليطيل ويمطط ويركز على التفاصيل الفرعية ولديه أجندة
مرتبطة بالانتخابات الأمريكية، لذلك فان معاناة السكان -التي لم نتحمل حتى النظر
إليها في التلفازات- ستكون نقطة ضعفه. وقد تبين أن خطة العدو هي حرق الأطفال أحياء
لكي يحترق قلب المفاوض ويضعف.
يقينا هذا لا يغيب عن المفاوض ونراه يكتم ألمه ونراه ينتظر الشارع المناصر
أن يستفيق الآن وقد غفل زمن المعركة المسلحة. الصيف الأوروبي هو صيف العطل والخروج
إلى المصائف، لذلك فالشارع هناك يهدأ في الأصياف. الشارع العربي أكثر ميلا للدعة
في الصيف (بحجج جيش علي بن أبي طالب) ولكن المفاوض محتاج إلى دعم؛ ليس منه توجيه
إرشادات له من هنا بل على الأقل إعداد العدة المالية والطبية لبدء التسرب إلى
غزة
بقدر ثقب الإبر التي ستفتح في المعبر العربي نحو غزة. كل حبة دواء وكل قطرة دم وكل
حفنة طحين تدخل غزة تقوى المفاوض في الدوحة، إذ تمنح شعبه لحظة صبر فلا يموت نزفا
ولا يموت جوعا وعطشا.
هذا أوان تكثيف الدعم والاستعداد له لأن المفاوض سيفح ثغرة في المعابر، هل
يتحرك الشارع العربي بالمال والدواء لكي يقوي موقف المفاوض في جولات نعرف أنها
بدأت ولا نتوقع لها نهاية قريبة؟ فهي مفاوضة على مستقبل العالم والفلسطيني يقف
فيها وحده.