هذا ليس نفيا للتاريخ القديم، لقد كانت هناك مجزرة في
كربلاء وكان هناك
شهداء من أجل حق، لكننا نعيش مع
غزة حيث الشهداء بالآلاف، وحيث يُقطع الماء والعيش، فيموت الأطفال عطشا وجوعا وتموت الحرائر كمدا. لماذا نستعيد كربلاء القديمة
ونتغافل عن غزة، ونمعن في الخصام/ الحرب/ التنافي، حتى كأننا في القرن الأول ودماء
كربلاء لا تزال تسيل؟ لماذا هرب جمهور عربي كبير في ذكرى كربلاء إلى التاريخ
واستعادوا صراعاته؟ هل يخشون أن يتكلموا عن غزة؟ هل نهرب إلى التاريخ لنتملص من
مسؤولية الحاضر الكربلائي الحقيقي المعيش؟ هل هذا المهرب مؤقت أم هو آلية تفكير
كامنة في اللاشعور المرعوب؟
كربلاء معركة مفوتة
قالت لنا المقاومة ونصدقها ونتبع هداها؛ إن
إيران تدعم المقاومة بالمال
والسلاح والموقف السياسي؛ النقاش ليس هنا، لكن لماذا علينا ونحن على غير المذهب
الإيراني، أن نخضع لابتزاز تاريخي يلزمنا برواية إيران للتاريخ/تاريخنا، فنقوم كل
صباح نلعن "الحثالة الأموية" (والتعبير لمتحمسين للموقف الإيراني)،
ليكون للشيعة حق علينا، وجب دفعه في المستقبل تكفيرا عن ذنب يزيد في
الماضي (وهي
رواية لها ما ينقضها)؟
بقطع النظر عن صحة الرواية الإيرانية (الشيعية عامة)، ما جدوى أن نوقف الآن
وهنا، أي في زمن غزة عجلة التاريخ، لنعيد روايته طبقا لصيغة واحدة، تنتهي بتأثيم
المؤمنين الذين لم يشاركوا في كربلاء، ولم ينكروا آل البيت ولم يلعنوهم؟ هذه
الرواية تحملنا وزر حدث مرت عليه قرون طويلة وانتهى أثره في الأرض.
ما جدوى أن نوقف الآن وهنا، أي في زمن غزة عجلة التاريخ، لنعيد روايته طبقا لصيغة واحدة، تنتهي بتأثيم المؤمنين الذين لم يشاركوا في كربلاء، ولم ينكروا آل البيت ولم يلعنوهم؟ هذه الرواية تحملنا وزر حدث مرت عليه قرون طويلة.
إن دعم المقاومة بثمن من تعديل التاريخ ليناسب مذهبا من بين مذاهب
واجتهادات، يوقف التقدم على درب غزة ويحرف النقاش، فنجد أنفسنا ندحض تهما من قبيل
أن مناقشة
الشيعة في روايتهم للتاريخ التي تموّلها جهات سياسية معادية لإيران،
وبالتوضيح الفج أن كل نقد في هذا الاتجاه يصير خدمة لآل سعود وحربهم على إيران،
وهي حرب أمريكية غربية، ولكي لا تكون سعوديا/ أمريكيا في الباطن، عليك أن تثبت ولاءك
للرواية الإيرانية وتسكت عن المعنى التأثيمي الكامن وراء دعم حماس!
نقاش كحرث البحر
عندما حدثت الثورة الإيرانية، وقد عايشناها بحماس، وبنينا عليها أحلاما، وانتشرت بصداها أفكار تقول بأن الإسلام الشيعي، وعلى عكس الإسلام السني، أفلح في
تجاوز عوائق التاريخ، وبدأ صناعة مستقبل للإسلام عامة، ولذلك فإن شبابا كثيرا من
السنة العرب انحازوا للثورة ودافعوا عنها متجاوزين المذهبية، بل بدؤوا في تحبير
أفكار عن كيفية تثوير الإسلام السني، والنسج على منوال الشيعة (الثوريين). لم تكن
المذهبية حاضرة، فإيران كانت أقرب إلى المهج والعقول من كل متكلم باسم الإسلام
السني، حتى الأزهر الشريف المحافظ والمهادن (كانت صورة الخميني في أكبر برواز في
بيوتنا).
المذهبية عادت من إيران أو كشفت وجهها الخفي، وتم صب النفط على نارها بتمويل
أمريكي وفتاوى سعودية تكفر الروافض، وترى إسرائيل من أهل الكتاب. لكن السؤال المؤرق:
هل يمكن عدم الخوض فيها والتركيز على غزة؟ إن كل جهد فكري أو كلامي يبذل في هذه
المعارك هو جهد مخسور، وإن غزة ومعركة تحريرها هي الخاسر الأول، وقد باءت مجهودات
كثيرة لتصويب النقاش وإعادته إلى غزة بالفشل.
من يعيش ويكسب من هذا النقاش؟ ليست غزة بالتأكيد. من عليه إذن إيقاف النقاش
في الهوامش؟ إن المسؤولية تقع على من أطلقه فجعل من كل تاريخ المسلمين جريمة، وجب
التكفير عنها مقابل بعض السلاح لغزة الآن (ولا ندري ماذا يحمل المستقبل!).
هذا نقاش جوهره حرب مذهبية لا تؤذن بنهاية سريعة، وقد تفضلت مراجع الشيعة (الخامنائي
والسيستاني) بعدم تكفيرنا، ولكن هل يسمح لنا بأن نفكر أن تاريخنا السني ليس جريمة، وجب دفع ثمنها الآن؟
الحيرة مستمرة؟
هذا العقل العربي (سني وشيعي إسلامي ويساري) مشدود إلى الماضي، وفي صراعات الماضي إذا استعيدت، خَلاصٌ من صراعات الحاضر وكلفتها العالية. إذا كان على هؤلاء المتجادلين في الفراغات أن يروا كربلاء، ففي غزة بغيتهم، لكن غزة تعني المظاهرات والتبرعات والضغط السياسي على الأنظمة المانعة للدعم، وهذا له ثمن، ولكي لا تدفع الأثمان (الآن وهنا) نذهب إلى كربلاء القديمة.
ساحات النقاش العربي بعد تحرير وسائل التواصل تربك عقولنا، خاصة سرعة
الاستجابة للخطابات التكفيرية (من الجانبين). هذه آلية تفكير مدمرة للتفكير، رأينا
مثلها في نقاشات عرب (لا سنة ولا شيعة) يسار، وإسلاميين وقوميين وإسلاميين وحكام
محكومين، وللجميع معجم تكفير وتخوين واتهام بالعمالة ونفس العقل الإقصائي، وقد
ألقي إليه صراع مذهبي يقفز بسرعة إلى المواقف الإقصائية، ويعدم منطقة اللقاء حول
المشتركات مثل دعم المقاومة.
هذا العقل العربي (سني وشيعي إسلامي ويساري) مشدود إلى الماضي، وفي صراعات الماضي إذا استعيدت، خَلاصٌ من صراعات الحاضر وكلفتها العالية. إذا كان على هؤلاء المتجادلين في الفراغات أن يروا كربلاء، ففي غزة بغيتهم، لكن غزة تعني المظاهرات والتبرعات والضغط السياسي على الأنظمة المانعة للدعم، وهذا له ثمن، ولكي لا تدفع الأثمان (الآن وهنا) نذهب إلى كربلاء القديمة، فنعيد يزيد والحسين إلى الحياة، ونجعل
أحدهما يقتل الآخر ثم نطلق اللطميات، وهي ليست مكلفة، خاصة لمن لا يجلد نفسه بسلاسل
الحديد.
العقل النائح على كربلاء مثل العقل المنكر لها، كلاهما يغلق أبواب المستقبل
الذي تفتحه غزة. فغزة تجاوزت الانشغال بذلك الماضي، وهي تتدبر المستقبل بدمها، وإذا
كانت هناك من موعظة ففي غزة الموعظة. لقد جعلت من حرب الطوفان وسيلة للمستقبل، فلم
تعقها نقاشات الماضي البعيد وحتى القريب. هنا كربلاء وكل غزاوي حسين لا يهمه إن
كان يزيد يصلي بالناس سكرانا.
غزة قالت تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم.