في ظل احتدام الحرب في غزة، وتصاعد التوتر
على الجبهة
اللبنانية مع احتمالات نشوب حرب مع حزب الله، نشر معهد دراسات الأمن
القومي بجامعة تل أبيب INSS في 23 يونيو /
حزيران
دراسة مهمة يقارن فيها بين الحرب الحالية والغرق الإسرائيلي في المستنقع
اللبناني منذ 1982 حتى الانسحاب عام 2000، مثلما هي غارقة الآن تماما في المستنقع
الغزي. لذا، جاء عنوان الدراسة "المستنقع آنذاك والآن: دروس للقتال في قطاع
غزة ولصنع القرار من وجود الجيش الإسرائيلي في لبنان حتى انسحابه". وهذه
الدراسة مهمة لفهم الحرب الحالية وسيناريوهاتها ونتائجها، وخصوصا سيناريو اليوم
التالي. ومهمة لقراءة من سيفرض إرادته في النهاية.
كاتب هذه الدراسة هو عوفر شيلح: عضو بارز في
لجنة الشؤون الخارجية والدفاع بالكنيست، وترأس اللجنة الفرعية المعنية
بالاستراتيجية الأمنية، وعمل في اللجان الفرعية الخاصة بالمخابرات واستعداد
القوات. وشاركه في كتابتها ياردن آسراف الباحثة المساعدة في برنامج القوة العسكرية
والأمنية في INSS.
ملخص الدراسة
هناك أوجه تشابه كثيرة بين عمليات صنع
القرار والأجواء العامة في كل من حرب غزة والتواجد الإسرائيلي في لبنان قبل 40
عاما، مما يثير سؤالين مهمين: ما هي الأهداف الجديرة بالاهتمام والقابلة للتحقيق؟
وهل ستتطور الحرب الحالية إلى
احتلال أراض في جنوب لبنان؟ وللإجابة عليهما، يجب
العودة إلى انسحاب الجيش الإسرائيلي بعد عام واحد من وجوده في لبنان إلى جنوب نهر
عوالي، ثم إلى المنطقة الأمنية العازلة عام 1985، وأخيرا إلى داخل إسرائيل عام
2000؛ فأخطاء الماضي يجب أن تكون علامة تحذير لصانعي القرار على جميع المستويات.
الغزو الإسرائيلي للبنان
كانت محاولة اغتيال شلومو أرجوف سفير
إسرائيل لدى بريطانيا في 3 يونيو/ حزيران 1982 هي السبب في اندلاع حرب لبنان. وكان
الغرض المعلن منها إزالة التهديد العسكري للكاتيوشا على منطقة بأكملها في شمال
إسرائيل في أوائل ثمانينيات القرن العشرين. وهناك تشابه كبير مع النقاش الذي كان
يدور آنذاك مع النقاش الدائر حاليا حول كيفية الاستمرار بعد الحملة العسكرية
المكثفة لضمان عدم تقليص إنجازاتها العسكرية. ومع ذلك، فهناك فرق جوهري بين
الحربين: وهو مدى احتمالية عودة التهديد:
ـ في الحرب الحالية بغزة، إذا عادت حماس إلى
السلطة، فإن التهديد الذي تتعرض له إسرائيل سيعود.
إن النقاش المحتدم حول الحرب، والصدع في المجتمع الإسرائيلي، حول مختلف القضايا السياسية والمدنية قبل الحرب وبعدها، كانا حاضرين في حرب لبنان كما هو الحال الآن. ومع مرور الوقت، فإن الاحتجاجات تتصاعد ضد سياسة الحكومة، وما تعتبره هذه الاحتجاجات خطايا أساسية يجب دفع ثمنها سياسيا وشخصيا.
ـ أما في عام 1982، وبعد الاتفاق على مغادرة
عرفات ورجاله بيروت إلى تونس وسوريا، فلم يعد هناك تهديد تجاه شمال إسرائيل.
وهكذا، تم تحقيق المهمة المعلنة لعملية السلام من أجل الجليل، وهي إزالة التهديد
الصاروخي من شمال إسرائيل. لكن الجيش الإسرائيلي لم يخرج من لبنان إلا بعد 18 عاما، بعد
مقتل المئات وإعلان انسحابه ثلاث مرات. كان الأول منها في أيلول/سبتمبر 1983، حيث
انسحبت القوات الإسرائيلية جنوب نهر الأولي. ثم انسحبت القوات الإسرائيلية في 1985
إلى "المنطقة الأمنية" على الشريط الحدودي في جنوب لبنان، حيث قاتلت بالاشتراك
مع جيش لبنان الجنوبي ضد حزب الله. وكان الانسحاب النهائي إلى الحدود الدولية في
مايو 2000.
لم يتم رسميا نشر أعداد قتلى الجيش
الإسرائيلي خلال تواجده بلبنان؛ لكن وفقا لتقديرات تم التحقق منها، فإنها وصلت إلى
1217 قتيلا، إضافة إلى الثمن الذي تدفعه إسرائيل حتى اليوم، وهو: نمو حزب الله
وتحوله إلى أكبر تهديد لها على حدودها، وكذلك التكاليف السياسية والاجتماعية
والعسكرية للبقاء هناك طوال هذه المدة.
تكرار نفس المقولات ونفس الأخطاء
المفهوم الذي قامت عليه حرب لبنان عام 1982
هو الاعتقاد بأن تواجد الجيش الإسرائيلي في مواقع تبعد عشرات الكيلومترات عن
الحدود الإسرائيلية هو الضمان الحقيقي لأمن الجليل. ولم يتغير هذا المفهوم حتى
عندما أصبح واضحا في الأشهر التي تلت الغزو أن وجود الجيش في المناطق المأهولة
بالسكان في لبنان قد جره إلى عدد كبير من الصراعات المحلية في هذا البلد المقسم،
والاحتكاك المستمر مع السكان، مما خلق العداء تجاه إسرائيل. وأصبح اللبنانيون،
الذين رحبوا بالجيش عند دخوله في 1982، هم أنفسهم الذين استخدموا عبوات ناسفة ضده
مع مرور الوقت. وقد تكررت في هذه الحرب نفس المقولات والأخطاء الأربعة التي تتكرر
اليوم:
1 ـ "الانسحاب ضعف":
كان أحد الأسباب البارزة لبقاء إسرائيل في
لبنان هو القلق على مكانتها في المنطقة إذا انسحبت، مما يعطيها صورة جيش في تراجع.
وسيُفسَر على أنه فشل سياسي وعدم القدرة على تحمل الضغط. وهذه الفكرة التي تجعل
الانسحاب علامة ضعف، حتى لو كان فيه منطق عسكري، أو في حالة عدم وجود هدف واضح
لبقاء القوات، هي فكرة تتكرر في حروب إسرائيل، ولها صلة أيضا بالنقاش الدائر الآن
حول قطاع غزة.
2 ـ "حتى عودة الأسرى والمفقودين":
البيان الصادر عن الحملة الحالية في غزة
بيان مألوف لربطه الانسحاب بعودة الأسرى والمفقودين وجثث الجنود، وهو نفس ما ذكره
وزير الدفاع موشيه آرنز في أبريل 1983. لذا، تُستخدم قضايا الأسرى والمفقودين
كمبرر لمواصلة العمليات العسكرية الإسرائيلية، حتى عندما تكون فائدتها مشكوكا
فيها، أو تكون نتائجها سلبية بالنسبة للحرب والأسرى على حد سواء.
3 ـ "الضغط العسكري سيؤدي إلى إنجازات":
هناك ادعاء آخر متكرر هو أن البقاء على
الخطوط الأمامية التي وصل إليها الجيش في القتال هو نوع من "الضغط
العسكري" الذي يجب الحفاظ عليه حتى يتم التوصل إلى إنجاز سياسي، حتى لو لم
يكن ظاهرا في الأفق. ففي أبريل 1983،
وبينما كانت الهجمات ضد الجيش الإسرائيلي في لبنان تتزايد طوال الوقت، فقد اختتم
رئيس الأركان الجديد، موشيه ليفي، مناقشة حول الانسحاب أحادي الجانب إلى جنوب نهر
الأولي بقوله: "بقاء الجيش الإسرائيلي على خطوطه الحالية يهدف إلى خدمة
المفاوضات، ويوفر لإسرائيل مزايا سياسية".
4 ـ "إذا أردنا الانسحاب: فليس الآن، وليس على
طول الطريق":
مع غياب هيئات تخطيط في وزارة الدفاع أو أي
هيئة مدنية أخرى، فقد ضغطت الشخصيات العسكرية من أجل انسحاب جزئي لا يرقى إلى
مستوى مغادرة لبنان. لذلك، لم يستطع الانسحاب الجزئي مساعدة إسرائيل في اكتساب
الشرعية الدولية لعملياتها، أو في تقليل المعارضة اللبنانية لاستمرار وجودها على
الأرض. وكانت هذه السنوات هي التي ظهر فيها حزب الله كقوة مقاومة في جنوب لبنان،
والذي نفذ هجوما كبيرا في نوفمبر /تشرين الثاني 1983أسفر عن مقتل 56 جنديا إسرائيليا، وعُرف بكارثة صور الثانية. وكانت
كارثة صور الأولى قد سبقتها بعام حيث قام أحد عناصر حزب الله باقتحام مقر الحاكم
العسكري الإسرائيلي في صور بسيارة مفخخة مما أدى إلى انهيار المبنى ومقتل 76 جنديا
وشرطيا إسرائيليا.
كان من الواضح أن خط الانسحاب الجديد لن
يكون حاجزا حقيقيا لمنع الأعمال العدائية. ووُصفت المنطقة بأنها منطقة أمنية تحت
رعاية إسرائيلية؛ ولكن مرة أخرى دون غرض عسكري حقيقي. وفي نهاية المطاف، وبعد مئات
الهجمات ومقتل العشرات، تم الانسحاب إلى خط نهر الأولي في 4 سبتمبر 1983.
النقاش العام والحركات الاحتجاجية
كانت حرب لبنان الأولى مثيرة للجدل حتى قبل
اندلاعها، حيث عرف الكثيرون باستعدادات الجيش للحرب قبل حدوثها بأكثر من عام. وكان
الجدل حولها متشابكا مع الحملة الانتخابية الصعبة في عام 1981، وحذرت المعارضة من
أنها ستكون حربا غير ضرورية ومشكوك في إنجازاتها، فدخول لبنان هو لقاء مع الموت.
ولكن، مع مرور الوقت، أصبح من الواضح أن الحرب قد انحرفت إلى حد كبير عن هدفها
المعلن المتمثل في حماية شمال إسرائيل، مما زاد من النقاش حولها، وأصبحت هناك حركة
احتجاج حقيقية.
وعلى الرغم من أن حدة هذا النقاش لا تقارن
بالتصدع الخطير في المجتمع الإسرائيلي قبل 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023؛ إلا أن هناك
أوجه تشابه بين الحالتين: فكلاهما عبّر عن الخطوط الواضحة للصدع الاجتماعي،
والطائفية السياسية، وسياسات الهوية. وكذلك مواقف المعسكرات المختلفة بشأن مسائل
مثل: أمن شمال إسرائيل، والعلاقات بين فروع الحكومة. ولم تكن الحملة الانتخابية
لعام 1981 أقل قسوة من الحملات الانتخابية التي سبقت تشكيل حكومة نتنياهو الحالية.
كما كان هناك نزع متبادل للشرعية بين فصائل المجتمع.
في عام 1982، وبعد فترة وجيزة من اندلاع
الحرب، اشتد النقاش على المستوى العسكري والسياسي، فحذر الجنرال المتقاعد مردخاي
جور من أن إسرائيل مقيدة ومتورطة في بيروت، وأنها في حرب استنزاف وتخبط في الوحل
العسكري والسياسي هناك. ورد مناحم بيجين رئيس الوزراء آنذاك بأن هذه الحرب ضرورية
لحياة مواطني إسرائيل والشعب اليهودي.
واشتد النقاش العام أكثر بعد رحيل منظمة
التحرير من بيروت، وبعد مجزرة صبرا وشاتيلا في سبتمبر 1982 والتي عززت الشعور بأن
الحرب حرب حمقاء، وهدفها الحقيقي المخفي عن الجمهور هو إقامة نظام جديد في لبنان.
لذلك، فهي مستمرة فقط لأسباب سياسية وجمود عقلي. وكانت ذروة الحركة الاحتجاجية
المتصاعدة هي المظاهرة الضخمة التي ضمت 400 ألف شخص عقب مجزرة صبرا وشاتيلا. كما
كانت بداية حركة رفض الخدمة، وإنشاء لجنة كاهان للتحقيق في مجزرة صبرا وشاتيلا،
وإقالة شارون من منصبه كوزير للدفاع.
البروز المتزايد لقضية الخسائر في الخطاب
حول الحرب
بدأت الاحتجاجات تركز على الادعاء بأن خسائر
الجيش في لبنان المعلنة: حوالي 18 قتيلا شهريا في المتوسط، والجرحى أكبر بكثير،
بأنهم كانوا ضحايا سياسة فاشلة. حتى إن وزير الدفاع شارون طلب من محطات الإذاعة
والتلفزيون التقليل من أهمية التقارير عن الجنود الذين سقطوا في الحرب. لكن قضية
الخسائر تصدرت عناوين الصحف، وتزايد الخطاب حول إخفاقات الجيش. وذكر تقرير
للبنتاجون نشرته واشنطن تايمز أن 20٪ من خسائر الجيش كانت بسبب القصف الإسرائيلي
نفسه. وفي الأشهر التالية، أصبحت لافتات إحصاء القتلى منذ بداية الحملة، والتي
وُضعت بشكل دائم عند التقاطعات وبجوار منزل بيجين، هي السبب في دفعه إلى الاستقالة
من رئاسة الوزراء، وفي نفس وقت انسحاب القوات إلى خط نهر الأولي.
وكان لجنود الاحتياط الذين عادوا إلى ديارهم
في الأشهر التي تلت الحرب وزن كبير في الاحتجاجات ضد البقاء في لبنان. وأصبح
الحادث الذي وقع في 10 فبراير /شباط 1983، والذي ألقيت فيه قنبلة يدوية على مظاهرة
للحركة قتل بسببها أحد المتظاهرين، رمزا للصدع في الرأي العام الإسرائيلي حول
الحرب.
العلاقات الإسرائيلية الأمريكية
هناك اختلافات واضحة بين الوضع في يونيو /حزيران 1982 وأكتوبر /تشرين الأول 2023. فقد عارضت إدارة ريغن صراحة الغزو
الإسرائيلي للبنان. وخلال العام الذي سبق اندلاع الحرب، أجرى ريغن وأعضاء إدارته
العديد من المحادثات حول الحرب مع بيجين. أما في الحرب الحالية، فقد وقفت الولايات
المتحدة إلى جانب إسرائيل بكل قوتها: في تبرير الحرب، وهدفها المتمثل في إزالة
التهديد العسكري، والإطاحة بحكومة حماس، ومنع انتشارها إلى ساحات أخرى. وبالرغم من
ذلك، فهناك أوجه تشابه في موقف الإدارتين الأمريكية من نواح أخرى:
ـ رأت إدارة ريغن أن غزو لبنان عمل يتعارض
مع مصالحها، وشككت في فعاليته ونجاحه. وقد وبخ ريغن رئيس الوزراء بيجين وحذره أن
الغزو سيضر بمصالح الولايات المتحدة ضد الاتحاد السوفيتي، وستزداد قوة الجماعات
المتطرفة في المنطقة. وهدده ضمنيا بأنه "إذا عملت إسرائيل بشكل يتعارض مع
مصالح الولايات المتحدة؛ فإن مصالح إسرائيل ستتضرر أيضا".
ـ أما في الحرب الحالية، فقد تحدث بايدن
وكبار المسؤولين في إدارته بقسوة عن أولئك الذين يعتبرونهم عناصر متطرفة في
الحكومة الإسرائيلية، وعن نتنياهو نفسه باعتباره عائقا أمام تحقيق الأهداف الصحيحة
للحرب في نظر الأمريكيين. وذكروا أن استمرار الحرب واحتلال غزة، يمكن أن يلحق ضررا
أكبر بكثير بالعلاقات الإسرائيلية الأمريكية مما كان عليه خلال حرب لبنان الأولى
1982.
التأثير على الجيش الإسرائيلي
على الرغم من النقاش العام حول العمليات في
لبنان قبل حرب 1982، كانت هناك شرعية شعبية عالية لها. وكانت قد اكتملت تعبئة
الاحتياط الذين شكلوا غالبية القوات التي دخلت لبنان، واستمر حشدهم إلى ما بعد
مغادرة منظمة التحرير
الفلسطينية. لكن في غضون أشهر من تسريحهم، تم استدعاء العديد
منهم مرة أخرى لفترات إضافية للحفاظ على السيطرة على الأراضي التي تم الاستيلاء
عليها في لبنان، وقد استمر ذلك حتى الانسحاب إلى جنوب نهر الأولي في 1983.
كان الضغط على الاحتياطي موضوعا متكررا في
المناقشات بين الرتب العسكرية العليا في ذلك الوقت. ومع ذلك، لم تتم مناقشة
العوامل الأخرى التي تؤثر على الجيش الإسرائيلي، مثل: الخلافات حول أهداف الحرب
وإخفائها عن الجمهور، وإطالة أمد الحرب دون هدف عسكري حقيقي، وحالة الجيش في
مواجهة سكان مدنيين معادين، وتعرضه للعديد من الهجمات. وكان لهذه العوامل عواقب
على التشكيلات المختلفة في الجيش الإسرائيلي، مما أدى في النهاية إلى أزمة حقيقية
في السنوات التي تلت عام 1982.
الخلافات بين الجيش الإسرائيلي والقيادة
السياسية
خلال حصار بيروت، وقبل رحيل منظمة التحرير
الفلسطينية، وقعت عدة حوادث تشير إلى عدم ارتياح كبار القادة لأهداف الحرب
وإدارتها، فضلا عن سلوك وزير الدفاع شارون. وكانت القضية الأكثر شهرة تتعلق بقائد
اللواء المدرع العقيد إيلي جيفا، الذي طلب إعفاءه من منصبه لأنه يرى أنه ليس من
الضروري دخول بيروت الغربية، وأن الحكومة لا تعرف متى تُوقف القتال، وأنه يشتبه في
وجود دوافع أخرى لديها، وخاصة حول تحديد من سيحكم لبنان. كما وقّع ألف من جنود
الاحتياط عريضة ضد الخدمة في لبنان. وكانت استقالة قائد كلية القيادة والأركان من
الخدمة بمثابة إعلان عن عدم الثقة بوزير الدفاع. كانت هذه العوامل مجتمعة مهمة في
الاحتجاجات المكثفة ضد الحرب، وفي تبادل الاتهامات بين القيادة السياسية والجيش.
وقد أثار توقع إجراء تحقيق حول الحرب توترا بين شارون وكبار القادة الذين كانوا
يخشون تخلي شارون عنهم أمام لجنة التحقيق.
رفض الخدمة
مع استمرار وجود الجيش الإسرائيلي في لبنان،
واستدعاء وحدات الاحتياط التي خدمت في بدايتها لعدة أشهر، ثم لفترات إضافية طوال
عام 1983، نمت المعارضة داخل وحدات الاحتياطي ضد الخدمة في لبنان. وقد استخدمت قضية جنود الاحتياط كمثال على تسييس
الخدمة العسكرية من قِبل معارضي الحرب، مما يوضح كيف كانت الخدمة الاحتياطية جزءا
من النقاش حول استمرار الحرب في لبنان، واستخدامها من جميع الأطراف لانتقاد بعضها
البعض. وعند الانسحاب جنوب نهر الأولي، طلب وزير الدفاع موشيه آرنز حلولا بديلة لخدمة
جنود الاحتياط، لتخفيف الضغط الكبير المفروض عليهم. ومنذ عام 1985، خدم عدد صغير
من الاحتياط في لبنان لاستمرار الوجود في لبنان، لأن عدد القوات العاملة لم يكن
كبيرا.
إسرائيل تواجه اليوم خطرا ملموسا يتمثل في أن تصبح "دولة منبوذة" من المؤسسات الدولية والرأي العام في الغرب، وما يحمله ذلك من عواقب على تبرير وجود إسرائيل، وعلاقاتها التجارية والثقافية، وغيرها من الجوانب الأساسية للأمن القومي.
تأثير المستنقع اللبناني على التطوع والبقاء
في الجيش
لا يعترف الجيش الإسرائيلي بالوجود في لبنان
بعد أكتوبر 1982 كأحد العوامل الرئيسية في أزمة الخدمة العاملة بالجيش في منتصف
ثمانينيات القرن العشرين. ولكن مع ذلك، فإن تأثير "فترة المستنقع" من
أكتوبر 1982 فصاعدا، والتي واجه خلالها الجيش انتكاسات، كان من بين العوامل التي
أثرت على التطوع والتسجيل للخدمة الدائمة بالجيش خصوصا بالنسبة لرتب الضباط الصغار
كالرائد أو النقيب. وقد لوحظ أن 36٪ فقط من المناصب الرئيسية يشغلها ضباط داخل
الرتبة، ويتم معالجة الفجوة من خلال تعيين ضباط برتبة نقيب وحتى ملازم. وانخفضت
الرغبة في تمديد الخدمة من 60% عام 1984 إلى 38% عام 1986. وأشار تقرير صادر عن
قسم العلوم السلوكية إلى أربعة عوامل أثرت سلبا على رغبة الضباط في مواصلة الخدمة:
الغموض فيما يتعلق بمستقبلهم، الإجهاد والإرهاق، الإضرار بالصورة والهيبة، والضغط
للنجاح بسرعة مما دفع القادة إلى تجنب الأنشطة ذات النتائج التي لن تظهر إلا بعد
الانتهاء من واجباتهم.
المستنقع بين لبنان وغزة
إن دراسة "فترة المستنقعات" في
لبنان، تكشف عن أوجه تشابه عدة مع الوضع الحالي وتأثيرات القتال في قطاع غزة،
وعواقبه المستقبلية. وإن فهم أوجه التشابه يكشف الظواهر السلبية التي حدثت آنذاك
والتي أثرت على الجيش وعلى الوضع السياسي والعسكري والاجتماعي في إسرائيل، والتي
مازالت ماثلة في الوقت الحاضر.
إن النقاش المحتدم حول الحرب، والصدع في
المجتمع الإسرائيلي، حول مختلف القضايا السياسية والمدنية قبل الحرب وبعدها، كانا
حاضرين في حرب لبنان كما هو الحال الآن. ومع مرور الوقت، فإن الاحتجاجات تتصاعد ضد
سياسة الحكومة، وما تعتبره هذه الاحتجاجات خطايا أساسية يجب دفع ثمنها سياسيا
وشخصيا.
إن الأسباب التي قُدمت لرفض الانسحاب من
الخطوط التي توصل إليها الجيش في المرحلة الأولى من القتال في لبنان، تتطابق مع
تلك التي تستخدمها المؤسسة الحالية نحو الطريق المسدود الظاهر في قطاع غزة.
إن القول بأن الانسحاب من جانب واحد سيُنظر
إليه على أنه ضعف؛ دون نظر للآثار المترتبة على التمسك بالأراضي، واستنفاد الوحدات
العاملة والاحتياطية، كلها كانت واضحة في 1982، وهي واضحة الآن أيضا سواء بالنسبة
لقطاع غزة أو الحملة المحتملة في لبنان ضد حزب الله.
وفيما يتعلق بالجيش، فإن الظواهر السلبية
التي كانت بارزة في لبنان في الفترة 1982- 1983 هي واضحة الآن مرة أخرى في حرب
غزة، ويمكن أن تصبح أكثر بروزا في المستقبل القريب، مثل: معارضة القادة الميدانيين
علنا لقرارات القيادة العليا، ورفض الرتب العليا تحمل المسؤولية عن الإخفاقات،
وأزمة الثقة بين القيادتين العسكرية والسياسية، ورفض الخدمة في قوات الاحتياط،
وعلامات أزمة في التجنيد للخدمة الدائمة، والتراجع الكبير في ثقة الجمهور في قدرة
الجيش على تحقيق أهدافه من 90% في بداية الحرب إلى 61% في مايو /آيار 2024.
إن استمرار العملية العسكرية والبقاء في
غزة، خلافا لرأي الإدارة الأمريكية، يفاقم التوترات بين واشنطن والقدس، وهو تطور
يفوق بكثير خطورة ما كان عليه التوتر في 1982 وما بعده، وله تأثيرات خطيرة على
إسرائيل:
ـ تحتاج إسرائيل إلى الولايات المتحدة لمنع
توسع الحرب، والتي أصبحت بالفعل حملة إقليمية ربما تتطور إلى حرب شاملة ضد محور
المقاومة الإيراني. وهو تطور لن تستطيع إسرائيل الصمود في وجهه.
ـ إن استمرار القتال بسبب الجمود
والاعتبارات السياسية وتجنب اتخاذ قرارات بشأن اليوم التالي سيسبب ضررا جسيما لأمن
إسرائيل، وسيكون ثمنه باهظا جدا على الجيش والجبهة الداخلية.
والأهم من ذلك، أن إسرائيل تواجه اليوم خطرا
ملموسا يتمثل في أن تصبح "دولة منبوذة" من المؤسسات الدولية والرأي
العام في الغرب، وما يحمله ذلك من عواقب على تبرير وجود إسرائيل، وعلاقاتها
التجارية والثقافية، وغيرها من الجوانب الأساسية للأمن القومي.
إن قضية الرهائن، وهي حدث مهم يقوض الإحساس
الأساسي بمسؤولية الدولة تجاه مواطنيها، وليس له مثيل في أي حرب سابقة، بما في ذلك
حرب لبنان الأولى، يزيد من قتامة الصورة داخل إسرائيل نفسها، ويوسع الاستقطاب. وهي
قضية مصحوبة أيضا بالشعور بعدم جدوى الوضع الحالي وفقدان الأمن المادي حتى داخل
حدود إسرائيل، وازدياد المخاوف بشأن وجود إسرائيل في المستقبل.
يتطلب هذا الوضع تفكيرا عميقا واتخاذ قرارات
مدفوعة بالمسؤولية الوطنية والاعتراف بخطورة الحالة. إن التعلم من أخطاء الماضي،
بما في ذلك أوجه التشابه بين الوضع الحالي في غزة والوضع على الجبهة اللبنانية في
نهاية عام 1982 وما بعده، هو شرط ضروري لمثل هذا التفكير.