مثلت العملية العسكرية الأوكرانية في منطقة
كورسك الروسية، مفاجأة من العيار الثقيل للكرملين وواشنطن على حد سواء، فهي أول عملية توغل كبرى للجيش الأوكراني داخل الأراضي الروسية منذ اندلاع الحرب في شباط/ فبراير 2022.
ماذا حدث؟
فجر الثلاثاء، وتحت جنح الظلام، توغل نحو ألف جندي أوكراني بمعدات وآليات ثقيلة إلى الشمال الغربي من بلدة سودجا الحدودية على بعد 530 كيلومترا جنوب غربي موسكو، حتى اجتازوا عدة أميال داخل
روسيا في منطقة كورسك.
وتعد بلدة سودجا نقطة الشحن الأخيرة لصادرات الغاز الروسي إلى أوروبا عبر أوكرانيا، كما تبعد محطة كورسك للطاقة النووية الروسية 60 كيلومترا فقط إلى الشمال الشرقي من سودجا.
واندلعت مواجهات محدودة بين الطرفين، قبل أن تسيطر القوات الأوكرانية على ثلاث قرى في المنطقة.
سريعا، أبلغ رئيس الأركان فاليري غيراسيموف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، باجتياز ألف جندي أوكراني الحدود والتوغل في كورسك، لكنه أكد تمكن قواته من إيقاف
الهجوم الأوكراني، والشروع بتدمير القوات المهاجمة.
وأعلنت السلطات الروسية حالة الطوارئ في مقاطعة كورسك، كما دعا حاكم المقاطعة ألكسي سميرنوف السكان إلى التبرع بالدم، مشيرا إلى أن جميع الأجهزة والجهات المعنية وُضعت في حالة تأهب قصوى.
وتواصلت المعارك حتى مساء الخميس، بين الطرفين حيث يعلنان بشكل متزامن عن تدمير مواقع وآليات خلال عملية كورسك.
ونقل "معهد دراسة الحرب" ومقره واشنطن، عن مصدر روسي قوله؛ إن القوات الأوكرانية استولت على 45 كيلومترا مربعا من الأراضي، فيما ذكرت وسائل إعلام روسية أن القوات الأوكرانية استولت على 11 موقعا إجماليا.
وأعلنت موسكو أن قواتها دمّرت مركبة قتالية أمريكية الصنع من طراز "برادلي"، كانت أوكرانيا تستخدمها في التوغل.
وعلى الصعيد الإنساني، غادر آلاف المدنيين المنطقة بسبب القتال الذي خلف ما لا يقل عن عشرات القتلى والجرحى.
وعلى الجهة الأخرى، أعلنت أوكرانيا الأربعاء إجلاء إلزاميا لنحو 6 آلاف شخص، بينهم 425 طفلا، في منطقة سومي المحاذية لكورسك الروسية.
أهداف الهجوم
ويمكن اعتبار توقيت العملية، أهم انعكاساتها، إذ تشهد الجبهة بشكل عام حالة جمود قاسية يكسرها الروس أحيانا بشن عملية عسكرية محدودة، كما جاءت في وقت ازدادت فيه معاناة الجيش الأوكراني من قلة العدد وشح العدة، بالإضافة للضغط الكبير على جبهة خاركيف.
ونقلت فرانس برس عن الخبير العسكري الأوكراني سيرغي زغوريتس قوله؛ إن الجيش الأوكراني يسعى إلى صرف انتباه القوات الروسية عن مناطق أخرى في الجبهة، كانت تتقدم فيها خلال الأشهر الأخيرة.
ويعتقد زغوريتس، أن "أحد أهداف كييف، سحب الاحتياطات الروسية وتخفيض الضغط على عمليات جيشها في قطاع خاركيف، وربما في مناطق أخرى".
من جهته، قال ماثيو سافيل، مدير العلوم العسكرية في "معهد الخدمات المتحدة الملكي"، لشبكة "سكاي نيوز"؛ إن الاختراق يغطي من 10 إلى 20 كيلومترا، وربما يشمل عدة آلاف من القوات، إلا أن الوضع مربك للغاية، ومن الضروري توخي الحذر".
ولا يتوقع سافيل، أن الهدف من العملية الاستيلاء على كورسك، أو محاولة السيطرة على مساحات شاسعة من الأراضي الروسية، مضيفا: "لا يمتلك الأوكرانيون كثيرا من الاحتياطيات، في حين يمتلكها الروس، وسيكون الحفاظ على قوة متوسطة الحجم في روسيا الآن، أمرا صعبا بالنسبة للأوكرانيين".
ويلخص سافيل أهداف الهجوم، بتوجيه ضربة إلى هيبة روسيا ومعنوياتها، وإبلاغ حلفاء كييف أنها لاتزال في القتال ويمكنها المناورة، بالإضافة لمحاولة القبض على المزيد من أسرى الحرب الروس لتبادل الأسرى في المستقبل.
وأردف سافيل، أن الفرصة ربما كانت مواتية لضرب نقطة ضعيفة ومرتبطة بعمليات غير معلَنة أخرى، مشيرا إلى أن تهديد الخطوط الخلفية والقوات في روسيا، قد يؤدي إلى انسحاب القوات الروسية التي حاولت إنشاء المنطقة العازلة حول خاركيف.
ومن وجهة نظر متقاربة، ذكر"معهد دراسة الحرب" ومقره الولايات المتحدة، أن أوكرانيا حققت مكاسب ميدانية كبيرة في أول يومين من التوغل.
الأول "لأوكرانيا"
ويعد الهجوم هو الأول من نوعه الذي تنفذه قوات أوكرانية رسمية خلال الحرب، حيث كانت هناك حالات أخرى من التوغلات المحدودة في الأراضي الروسية، يقوم بها مسلحون روس مناهضون لبوتين.
وفي أيار/ مايو 2023، تبنت مجموعة تسمى "فيلق المتطوعين الروس" العملية مسلحة على منطقة بيلغورود في روسيا.
وفي آذار/ مارس الماضي، قالت ثلاث مجموعات روسية معارضة، تتخذ من أوكرانيا مقرا لها؛ إنها تواصل في عمليات مسلحة في منطقتي بيلغورود وكورسك، وطلبت من السكان إخلاءهما؛ حفاظا على سلامتهم.
وتنشط كل من "فيلق حرية روسيا"، و"الكتيبة السيبيرية" وفيلق "المتطوعين الروس".
"ثأر" أوكرانيا
التزمت كييف الصمت طوال اليوم الأول، لتعلن بعد ذلك على لسان ميخائيلو بودولياك مستشار الرئيس، أن الهجوم يشكّل عاقبة للعدوان الروسي على أوكرانيا، مبينا أن "جزءا كبيرا من الأسرة الدولية، يعد روسيا هدفا مشروعا للعمليات من أي نوع كان وبأي سلاح”.
وأضاف، أنه "للحصول على شيء من روسيا على طاولة المفاوضات”، يجب ألا يتبع النزاع السيناريو الذي وضعه الروس".
بدوره قال الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي في كلمة مساء الخميس؛ إن “روسيا جلبت الحرب إلى بلادنا، ويجب أن تشعر بآثارها”.
وأضاف: "يرى الجميع أن الجيش الأوكراني يعرف كيف يفاجئ ويحقق النتائج، وهذا ما أثبتته النتائج على أرض الواقع"، مبينا أن "مثل هذه النجاحات تساهم في رفع معنويات الجنود والرغبة لدى الأوكرانيين في إيجاد الخيار الأفضل".
وجدّدت الولايات المتحدة، الداعم الرئيسي لكييف، التأكيد الخميس أنها “تدعم بقوة جهود أوكرانيا للدفاع عن نفسها في وجه العدوان الروسي”، من دون أن تعلق على الوضع بالتفصيل.
حلفاء أوكرانيا أيدوا الهجوم ضمنا؛ باعتباره دفاعا عن النفس، حيث قالت واشنطن؛ إنها استوضحت السلطات الأوكرانية لفهم “أهداف” هذا التوغل غير المسبوق من حيث الحجم.
من جانبه، قال المتحدث باسم الممثل الأعلى للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية للاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل؛ إن أوكرانيا "لديها الحق في الدفاع عن نفسها" ضد روسيا، بما يشمل "ضرب العدو على أراضيه".
وأكد "دعم التكتل الكامل لأوكرانيا في دفاعها المشروع عن نفسها ضد العدوان"، وقال؛ إنه سيستمر في تزويد كييف بـ"المساعدة السياسية والمالية والإنسانية والدبلوماسية والعسكرية".
سخط روسي
ومساء الخميس، أكدت وزارة الدفاع الروسية، أن الجيش الروسي أوقف ودمر محاولات وحدات من القوات المسلحة الأوكرانية لاختراق المنطقة في اتجاه كورسك.
وقالت في بيان: "تواصل وحدات من مجموعة قوات الشمال، إلى جانب جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، تدمير التشكيلات المسلحة للقوات الأوكرانية في منطقتي سودجينسكي وكورينفسكي في مقاطعة كورسك، المتاخمة مباشرة للحدود الروسية الأوكرانية".
وأضافت: "تم استهداف التجمعات من القوى العاملة والمعدات التابعة للقوات الأوكرانية بالنيران، ويتم إيقاف محاولات اختراق الوحدات الفردية في عمق المنطقة في اتجاه كورسك".
وتعالت الانتقادات من صحفيين ومدونين روس لحالة الدفاع عن الحدود في منطقة كورسك، قائلين؛ إنه كان من السهل للغاية على القوات الأوكرانية اختراقها.
بدوره، قال دميتري ميدفيديف، الرئيس الروسي السابق؛ إن الهدف من الهجوم إجبار روسيا على نقل قواتها من خطوط المواجهة الرئيسية، ولأن تظهر للغرب أنها لا تزال قادرة على القتال.
ودعا الكرملين لتوسيع أهداف الحرب لتشمل أوكرانيا بالكامل، مضيفا أن "في هذه اللحظة، يجب أن تتوسع العملية العسكرية الخاصة لتتجاوز الحدود الإقليمية لأوكرانيا"، مضيفا أنه يتعين على القوات الروسية الذهاب إلى أوديسا وخاركيف ودنيبرو وميكولايف وكييف و"أبعد من ذلك".
وكان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قال الأربعاء؛ إن كييف تقوم باستفزاز واسع النطاق، كما اتهم القوات الأوكرانية بـ"إطلاق عشوائي لأنواع مختلفة من الأسلحة، بما في ذلك الصواريخ، على المباني المدنية والمنازل وسيارات الإسعاف".
وأمر بوتين بتقديم كل المساعدات الضرورية لمقاطعة كورسك التي تتعرض للهجوم الأوكراني، وفقا لوسائل إعلام روسية.