الكتاب : السياسة الخارجية الأمريكية تجاه
أفريقيا السودان أنموذجا
الكاتب: د. هاني محمد امبارك
الناشر: المركز العربي الديمقراطي للدراسات
الإستراتيجية والسياسية والاقتصادية، ط1 برلين المانيا،2023.
عدد الصفحات: 170 صفحة
ـ 1 ـ
قبل بداية الحرب الباردة، لم تكن الولايات
المتّحدة الأمريكية تضع أفريقيا ضمن
أولوياتها، ولم تكترث بتقسيمها بين القوى الاستعمارية الأوروبية، ولكن تحوّلها إلى
قوّة عظمى ونشأة الاتحاد السوفييتي المختلف عنها إيديولوجيا، جعلها تأخذ في بسط
نفوذها على هذه القارة لتحول دون انتشار المدّ الاشتراكي، وبعد انتهاء الحرب
الباردة أضحت أفريقيا بعد مجالا حيويا، فأضحت الولايات المتحدة تعمل على انتزاع
نصيبها منه. وسياستها تجاه السودان أنموذج جيّد على ذلك.
ـ 2 ـ
يعسر تحديد مفهوم السياسة الخارجية التحديد
الدقيق الذي يسلّم به مختلف الباحثين في العلوم السياسية، فهو يرتبط بالمتحولات الكثيرة على مستوى الفكر
والممارسة، ويتأثر بطبيعة
العلاقات الدّولية بين مرحلة وأخرى. فاستقلال القرار
الوطني اليوم، على سبيل المثال، بات مفهوما مائعا بالنّظر إلى عولمة الاقتصاد، وتحوّل الشركات العالمية الكبرى إلى كيانات تخترق الدّول الكثيرة، أو بالنّظر إلى
عولمة الاتصال الذي أوجد وضعيات عابرة للدول شأن الجرائم الإلكترونية أو العملات
الافتراضية. ومع ذلك، فإن رصد تطور فهم السياسة الخارجية يؤرخ بشكل ما للتحوّل في
العلاقات بين الدّول، ويبرز ظهور قوى إقليمية وتراجع أخرى. غير أنّ هاني محمد
امبارك يحدد السياسة الخارجية من خلال ارتباطها بأهداف تعمل الدول وفقها على تحقيق
مصالحها، من ذلك تعبئة الموارد واكتساح الأسواق، وضمان حقوق مواطنيها في الخارج.
لترويض السودان عملت الولايات المتحدة على تعزيز روابطها العسكرية والاقتصادية مع أوغندا وأثيوبيا وإريتريا، ووراء ذلك غاية أعظم هي كسر الهيمنة الأوروبية على أفريقيا؛ بحثا عن نصيبها من الغنيمة السمراء.
وتكمن أهمية تحليل أبعاد السياسة الخارجية
لدولة ما، في شرح خلفياتها الإيديولوجية وطموحاتها الإقليمية والدّولية، فتكون
زاوية خاصّة ضمن المنظور الكلي، الذي يحاول تفسير العلاقات الدولية في مرحلة
تاريخية بعينها.
تصاغ السياسة الخارجية إذن في سياق دولي
محدّد، وتشمل العديد من القضايا الأمنية العسكرية، والسياسية الديبلوماسية،
والاقتصادية التنموية، والثقافية العلمية، وغيرها. وتنفذ من خلال مجموعة من
الوسائل المناسبة. ولا بدّ لصانع القرار السياسي قبل أن يرسم أهداف سياسته
الخارجية، أن يأخذ بعين الاعتبار إمكانيات دولته والمادية والمعنوية والاقتصادية
والبشرية. وطبيعي أن تميل الدول النامية إلى التركيز على الأدوات الدبلوماسية
والاقتصادية والرمزية. ولكن كثيرا ما تعمد الدّول العظمى إلى الضغط على شركائها
لضمان مصالحها، باستعمال نفوذها كاستدعاء السفراء للتشاور أو قطع العلاقات. وقد يصل
الأمر إلى القوة الإلزامية لفرض تصوّراتها واكتساب الولاء لها في بعض الأحيان.
ورغم أن سياسة أي بلد الخارجية لا تنفصل في
جوهرها عن سياسته الداخلية، من جهة علاقتها بطبيعة النظام السياسي، وخصائصه
الأيديولوجية وخصائص القيادة السياسية، ورغم كونها تعدّ مصدرا من مصادر اكتساب
الشرعية وحشد المناصرين وتقوية الأطراف الحاكمة لجبهاتها الدّاخلية، يسود الاتفاق
غالبا على تحييدها عن الجدال السياسي الداخلي.
ـ 3 ـ
وليست السياسة الخارجية الأمريكية واحدة على
مرّ التاريخ، فقد مرّت بجملة من الأطوار، فكانت تستند في تاريخ الولايات المبكّر، إلى مبدأ العزلة الذي نادى به الرئيس
جورج واشنطن. ومداره على عدم الانخراط في العلاقات الخارجية المتعدّدة والاتجاه
إلى التنمية والاستغراق في الإنتاج ومراكمة الثروة. ولهذا المبدأ خلفيات جغرافية
وعسكرية. فالولايات المتحدة المتوارية بعيدا وراء الأطلسي، لم تكن بحاجة إلى
الانخراط الكبير في مجتمع دولي تهيمن عليه القوى العظمى، تنفّذ مشاريعها
الاستعمارية في ظل تقاسم وتخطيط مسبقين.
وفي 1919م ومع نهاية الحرب العالمية الأولى
بلورت الولايات المتحدة فكرة الأمن الجماعي، فأسهمت في بعث عصبة الأمم وسهرت على
تحقيقه. ولكن مجلس الشيوخ المأخوذ بفكرة العزلة رفض التصديق عليها، مما أعاد
سياستها الخارجية إلى الانكفاء من جديد حتى 1939. ولكن الهجوم الياباني على ميناء
بيرل هاربر وضع نهاية لهذه السياسة، ودفع بالولايات المتّحدة إلى الانخراط لاحقا في
الحرب العالمية الثانية. فتحوّلت بذلك من طور العزلة إلى عقد التحالفات التي
أساسها فكرة التعاون، لتحقيق جملة من الأهداف الاقتصادية أو العسكرية. وكان تأسيس
الحلف الأطلسي (الناتو) بما هو معاهدة للدفاع المشترك ردة الفعل الغربية، التي
قادتها الولايات المتحدة على حصار برلين من قبل الاتحاد السوفييتي، وعلى الانقلاب
الشيوعي في تشيكوسلوفاكيا 1948.
تظل شخصية الرئيس مؤثرة في توجيه السياسة
الخارجية للولايات المتحدة (من ذلك التحوّل الكبير في علاقة الولايات المتحدة
بروسيا وبلدان الخليج بين عهدي ترامب وبايدن مثلا). ولكنّ عنصرين قارّين يجسّدان
ثوابتها هما الأمن القومي، ويشمل حماية المصالح الأمريكية في الخارج والدفاع عن
الإيديولوجيا الليبرالية الرأسمالية. لذلك تتحرّك هذه السياسة في دائرة
البراغماتية، فتعمل على تحقيق المصالح وتحدّد طبيعة علاقتها بالطّرف المقابل عبر
إدراك مصادر قوتها وحجم إمكانياتها الذّاتية وبالنّظر، في الآن نفسه، إلى البيئة
الخارجية من قوى ومواقف ومتغيّرات ومكاسب.
ـ 4 ـ
السياسة الخارجية الأمريكية وأفريقيا:
دفعت التحولات التي باتت تعيشها أفريقيا منذ
الخمسينيات الولاياتِ المتحدة إلى إعادة النظر في سياساتها السابقة تجاه أفريقيا، ضمن هذا الأفق وقطعا مع مبدأ العزلة أرسل الرئيس آيزنهاور في عام 1957م نائبه ريتشارد نیکسون إلى
أفريقيا. فزار ثماني دول دفعة وحدة من أجل تحليل الأوضاع المتغيرة، التي تشهدها
القارة في ذلك الوقت. وانطلاقا من تقريره، ضُبطت أبعاد السياسة الأمريكية في القارة السمراء التي تظل قائمة حتى اليوم، رغم
تغيّر الظروف الجيو ـ سياسية. فقد دعا التقرير إلى ضرورة وضع سياسة أمريكية مستقلة
تجاه أفريقيا. ورأى أن ذلك يتحقّق عبر مساندة موجة الاستقلال والتحرر الوطني فيها.
وعليه، فقد دعا إلى أن تعترف إدارات الحكومة الأمريكية كافة بالأهمية المتزايدة
لأفريقيا بالنسبة للمصالح الأمريكية. ولكن ما لم يذكره الباحث، أن هذا المبدأ
يتنزّل ضمن خطة أمريكية تعمل على تجريد القوى الأوروبية من مصادر قوتها، بعد أن
باتت هي القوة العالمية العظمى.
ويختزل الباحث هذه السياسة في عدد محدّد من
النقاط، فقائمة المصالح والأهداف القومية التي كانت تشكل محددا للسياسة الأمريكية
تجاه أفريقيا، اشتملت على أربع قضايا أساسية؛ هي احتواء الشيوعية أولا (في مرحلة
الحرب الباردة)، وحماية خطوط التجارة البحرية ثانيا، وتأمين الوصول إلى مناطق
التعدين والمواد الخام ثالثا، ودعم القيم الليبرالية، ولاسيما تلك الخاصة
بالديمقراطية وحقوق الإنسان رابعا، وإن كنّا نحترز على هذا الفصل الرابع، ونقدّر
أنه ليس غير مسألة شكلية وغير مبرر للتدخّل في الشأن الداخلي لهذه الدّول، وتورطها
في دعم بعض الانقلابات ضد الحكومات المنتخبة، أو مباركتها على الأقل دليلنا على ذلك.
ـ 5 ـ
السودان وأمريكا:
للعلاقات السودانية الأمريكية تاريخ متقلّب
بتقلب الحكام أو باختلاف الاستراتيجيات التي تعتمدها الولايات المتّحدة الأمريكية.
وأوّل مراحلها كان بعد انقلاب 17 تشرين الثاني/ نوفمبر 1958م على يد الرئيس الأسبق إبراهيم عبود.
كان المبدأ الذي يحكم السياسة الأمريكية
عندئذ هو الاعتماد على الأنظمة العسكرية. فللأسباب الكثيرة كانت ترى فيها طرفا
طيّعا يمكن التعامل معه بيسر. ولكن سريعا ما تدهورت هذه العلاقة بعد الإطاحة بعبود
في تشرين الأول/ أكتوبر 1964، ثم قطعت نهائيا بعد حرب 1967م. وساءت أكثر بعد انقلاب أيار/ مايو 1969م
الذي قاده جعفر النميري، وانحاز إثره إلى المعسكر الشرقي. فاعترف بألمانيا الشرقية
وتبنى نزعة معادية للرأسمالية. ولكن سريعا ما عدّل سياسته بعد المحاولة الانقلابية
الشيوعية الفاشلة (1971)، التي دبّرها الرّائد هشام العطا ضدّه، فحصل التقارب بين السودان
وأمريكا ممن جديد.
بديهي أن ثمار هذه العلاقة ستكون اقتصادية أساسا، فاستثمرت الشركات الأمريكية في
مجال النفط، وقدّم صندوق النقد الدولي
قروضه إلى السودان. وقدّم الرئيس النميري
العون بالمقابل في عملية نقل اليهود الفلاشا إلى إسرائيل النزاع في دارفور.
ـ 6 ـ
من العزلة إلى العمل على عزل نظام حكم
الجبهة الإسلامية في السودان:
يتنزّل إذن التفات الولايات المتحدة
الأمريكية إلى السودان في سياق عام من سياستها، ظهر بعد نهاية الحرب الباردة وكان
يستهدف فرض نظام عالمي جديد أحادي القطب. وفي هذه الأثناء، كشف حكم عمر البشير الذي
ترسّخ بعد ذلك، عن نزعته الإسلامية وعن عمله على استقطاب رموز الإسلام السياسي
المنبوذين في بلدانهم، فكان الصّدام المحدث للتحوّل الكبير الثالث في تاريخ هذه
العلاقات، فسجّل في قائمة الولايات المتحدة للدول الراعية للإرهاب مدة طويلة، وعوقب
بالحظر الاقتصادي منذ 1997م. وجعلت
الحكومة الأمريكية تسعى إلى تغيير نظام الحكم، ففرضت إدارة كلينتون عليه حزمة
إضافية من العقوبات لاحقا بسبب حرب دارفور. وفي هذه الأثناء، تصاعد نسق الحرب في
جنوب السودان إلى أن وقع تقسيم البلاد عمليا إلى سلطة في الشمال وأخرى في الجنوب.
يتنزّل عزل السودان ضمن سياق عام للسياسة
الخارجية للولايات المتحدة الأمريكية، يتثمل في اتجاهها إلى أفريقيا للسيطرة على
مصادر الطاقة، نحو (15%) من البترول الذي تحتاجه الولايات المتحدة يأتي من وسط
أفريقيا وغربها، وهو مرشّح اليوم ليصل إلى (20%).
ولترويض السودان عملت الولايات المتحدة
على تعزيز روابطها العسكرية والاقتصادية
مع أوغندا وأثيوبيا وإريتريا، ووراء ذلك غاية أعظم هي كسر الهيمنة الأوروبية على أفريقيا بحثا عن نصيبها من الغنيمة السمراء.
ـ 7 ـ
وعامة، يحاول الباحث أن يردّ علاقة الولايات
المتّحدة بالقارة الأفريقية إلى أربع مراحل. فالمرحلة الأولى تمتدّ منذ تأسيس
دولة الولايات المتحدة خلال القرن 18م إلى الحرب العالمية الأولى سنة 1914م، وقد
تميزت بضعف الارتباط بين الجانبين نتيجة سياسة العزلة. وتمتد المرحلة الثانية منذ
بداية الحرب العالمية الأولى إلى الخمسينيات، فكانت أمريكا حذرة في تعاملها مع
القارة الأفريقية باعتبارها منطقة نفوذ الدول الاستعمار. ومثلت فترة الحرب الباردة
المرحلة الثالثة، فمع اشتداد الاستقطاب بين المعسكرين، سعت الولايات المتّحدة إلى
احتواء الأنظمة في المنطقة. وتمثل مرحلة ما بعد تفكك الاتحاد السوفييتي المرحلة
الرابعة وسمتها توسيع النفوذ، فتعاملت الإدارة الأمريكية مع أفريقيا باعتبارها
تمثّل المستقبل.
يتنزّل عزل السودان ضمن سياق عام للسياسة الخارجية للولايات المتحدة الأمريكية. يتثمل في اتجاهها إلى أفريقيا للسيطرة على مصادر الطاقة، نحو (15%) من البترول الذي تحتاجه الولايات المتحدة يأتي من وسط أفريقيا وغربها، وهو مرشّح اليوم ليصل إلى (20%).
في هذه المرحلة، يتضح وجود اتجاهين رئيسيين
يتوازيان في التفكير الاستراتيجي الأمريكي بشأن مستقبل أفريقيا في السنوات القادمة
وعلاقتها بالسودان تحديدا. يتمثّل الأول في ترسيخ صورة فوضوية وتشاؤمية عن أفريقيا
في الأذهان، ويجد أن عددا من الدبلوماسيين والمفكرين يروجون له، ومن أمثلة ذلك
مقالة كابلان عن الفوضى القادمة في أفريقيا فيمثل العصا. وعلى خلافه يمثله الاتجاه
الثاني الجزرة. فيروّج لأفريقيا المزدهرة المندمجة في الاقتصاد العالمي. والفيصل
بينهما هو مدى استجابتها لبرامج التكيف الهيكلي، وقيامها بالتحول نحو الديمقراطية
الليبرالية، أي مدى سيرها في ركب تصوّر الولايات المتحدة الأمريكية للعالم الذي
تتسيّده هي، ويكون الآخرون مجرد تابع وهامش ملحق بالأصل.
ضمن الأفق الثاني، يمكن أن ننزل علاقة
السودان ما بعد البشير بالولايات المتحدة الأمريكية، فقد رحّبت به عضوا كامل
الانخراط في المجتمع الدولي بعد ربع قرن من القطيعة، وتعهّدت بالعمل على بناء
علاقات قوية معه لمساعدته على السير في "طريق الديمقراطية"، والعمل معه
على استكشاف الفرص التعاون الاقتصادي المستقبلية.
ويمتلك السودان من الأهمية الجيو ـ استراتيجية
ما يجعله يثير لعاب أهم الفاعلين الدوليين. فهامش التنمية فيه كبير وأراضيه الغفل
القابلة للاستصلاح الزراعي شاسعة، لذلك يمثّل اليوم موضوع تنافس بينها وبين الصين
التي تنتشر بوتيرة سريعة في أفريقيا وروسيا، التي اتفقت مع الخرطوم على إنشاء قاعدة
روسية في البحر الأحمر.