الكتاب: رسائل تشهد على التاريخ
المؤلف: علال الفاسي
إعداد ودراسة: المختار باقة
دار النشر: منشورات مؤسسة علال الفاسي
الطبعة الأولى: 2024
سنة النشر: 2024
مر حوالي عقدين من الزمن عن نشر الجزء الأول
من رسائل الزعيم الوطني علال الفاسي "رسائل تشهد على التاريخ" (2006
تحديدا)، تلك الرسائل التي أخرجت للوجود تراثا نادرا أرخ لحقبة تاريخية ممتدة من
الزمن (1930 ـ 1970)، غطت أحداثا وتطورات حساسة، لا زالت إلى اليوم تحتاج إلى
إعادة قراءة، خاصة وأنها تتعلق بأخصب مراحل الكفاح الوطني
المغربي في مدافعة
الاستعمار الفرنسي وتحقيق الاستقلال، وتتضمن وثائق مهمة تشكل جزءا قيما من الذاكرة
التاريخية المغربية، وتكشف عن بعد النظر الذي كان يتميز به الزعيم الوطني علال
الفاسي في استباقه للأحداث، وقراءته لتطوراتها، وجرأته في طرح أفكاره وتصوراته وما
يفرزه الوجود الأجنبي وأحوال المجتمع من إشكالات، فضلا عن أسلوبه في الاستجابة
للمناضلين والنزول إلى ساحة الحوار معهم في كل القضايا.
توقف هذا الجزء عند
سياقات مهمة تتعلق بإنشاء الكتلة الوطنية وموقف الزعيم علال الفاسي من التنافس
الفرنسي الإسباني الأمريكي على طنجة والمنطقة الخليفية (شمال المغرب محل النفوذ
الإسباني)، ومحاولة إسبانيا توسيع نفوذها الترابي في الشمال والجنوب، وما واكب ذلك
من تغيرات المواقف الاستعمارية، وكذا الضغوط التي كان يمارسها المقيم العام
الفرنسي على الملك محمد الخامس للتراجع عن مطلب الاستقلال، وما تضمنته المذكرة
التي رفعها الملك للحكومة الفرنسية، والمكائد الاستعمارية التي كانت تريد الفصل
بين الملك وحاضنته الشعبية، أو بين الملك وقوى المقاومة الحية.
عقدان من الزمن مرا على هذا الجزء الممتع
الذي أعاد علال الفاسي مرة أخرى إلى حياته وأدواره التاريخية، بعد أن أصبح من
الممكن قراءة التاريخ من جديد، في ضوء ما كتب عن أحداث دقيقة تتعلق بالمحادثات مع
السلطات الفرنسية ومناوراتها لتأجيل الاستقلال أو حرفه عن سكته.
هذه السنة (2024)، تفضلت مؤسسة علال الفاسي
باستكمال الجهد، وقامت بمجهود كبير في نشر الجزء الثاني من هذه الرسائل، والذي جاء
أكبر من سابقه حجما، وربما أكثر تفصيلا وتشعبا، بحكم أنه جمع حوالي 79 رسالة،
بالإضافة إلى ملحقين يضمان قصيدة شعرية للأمير شكيب أرسلان في رثاء الشاعر مصطفى
صادق الرافعي، وبعض الخطب والبلاغات والبيانات ذات الأهمية التاريخية، وقد قام
الباحث المختار باقة بإعداد ودراسة هذا الجزء.
في أهمية رسائل علال الفاسي:
تكمن أهمية هذا الجزء في كونه أولا يجمع
رسائل متبادلة بين علال الفاسي والأمير شكيب أرسلان، ورسائل علال الفاسي والعلامة الأديب عبد الله كنون، ورسائل علال الفاسي والعلامة محمد داود المؤرخ التطواني
الشهير، فضلا عن كونه يضم رسائل إلى جهات مختلفة وشخصيات متعددة، ورسائل وخطبا إلى
قيادة الحزب بمختلف هيئاته ومنظماته وأعضائه.
مر حوالي عقدين من الزمن عن نشر الجزء الأول من رسائل الزعيم الوطني علال الفاسي "رسائل تشهد على التاريخ" (2006 تحديدا)، تلك الرسائل التي أخرجت للوجود تراثا نادرا أرخ لحقبة تاريخية ممتدة من الزمن (1930 ـ 1970)، غطت أحداثا وتطورات حساسة، لا زالت إلى اليوم تحتاج إلى إعادة قراءة، خاصة وأنها تتعلق بأخصب مراحل الكفاح الوطني المغربي في مدافعة الاستعمار الفرنسي وتحقيق الاستقلال
والمثير في هذه الرسائل أنها لا تقتصر في
مضامينها فقط على البعد السياسي، بل تتنوع مضامينها بين القسم الديني الإسلامي،
والقسم القومي العربي، والقسم السياسي الوطني، والقسم الثقافي الأدبي، والقسم
الاجتماعي العائلي والشخصي، مع تسجيل غلبة القسم السياسي الوطني على الأقسام
جميعها بحكم انخراط علال الفاسي في المعارك السياسية بشكل يومي وعلى جميع الأصعدة
ولاندماجه في معركة التحرير.
وتتمثل أهمية هذه الرسائل في كونها زادت من
توضيح مكانة الزعيم علال الفاسي ودرجة الوعي الوطني المتقد الذي كان يتمتع به،
وحسه النقدي في التقاط مؤامرات
السياسة الاستعمارية، وقدرته على توثيق ذلك كله من
خلال الكتابة اليومية بمختلف أشكالها (رسالة، بيان، خطبة، توجيهات حزبية،
شعر....)، كما أظهرت هذه الرسائل عمق تمسك الزعيم علال الفاسي بهويته العربية
الإسلامية وجذوره المغربية، ودرجة تحرره الفكري، وبعده عن التقليد، والتزامه
المنهج العلمي في النقاش في كل القضايا بما في ذلك القضايا الدينية الحساسة (موقف
الدين من نظرية النشوء والارتقاء)، وتمتعه بالهدوء وسعة النفس في مناقشة الخصوم
(الماركسيين المتعرضين للحزب وإيديولوجيته وزعيمه بالنقد)، كما كشفت عن أدواره الرائدة في معركة الاستقلال
والتحرير، باعتباره زعيما ومثقفا عضويا يضطلع بنشر الوعي في صفوف الجماهير، كما
أماطت هذه الرسائل اللثام عن جملة من
الحقائق بشأن عدد من الأحداث التاريخية التي تتعلق بمقاومة السياسة الاستعمارية، وذلك تقريبا من سنة 1930 إلى سنة 1970.
وعلاوة على ذلك، يشير الباحث المختار باقة
في تحليله لهذه الرسائل إلى المقدرة التي كان يتمتع بها الزعيم علال الفاسي رحمه
الله في ربط الوشائج بين ثلاثة مكونات أساسية: الوطن، والقومية، والدين، مفسرا
ذلك، بطبيعة التأثير المتبادل الذي كان قائما بين المفكرين المغاربيين أمثال علال
الفاسي وابن باديس ومحمد البشير الإبراهيمي، وبين مفكري النهضة العربية بالمشرق من
أمثال شكيب أرسلان ومحمد عبده وجمال الدين الأفغاني وغيرهم، فاستحق الزعيم علال
الفاسي من هذه المقدرة أن يجمع بين صفة الداعية الإسلامي، والمفكر القومي العربي،
والزعيم الوطني الكبير.
كما تؤشر هذه الرسائل على صيغة واعية أنتجها
علال الفاسي في تدبير العلاقة بين "النحن" و"الآخر"، أو بين
"الشرق" و"الغرب"، وفهم عميق لطبيعة العلاقات الدولية وحدود
الاستراتيجي والتكتيكي في التعامل مع الغرب وسياساته، وأن ذلك هو الذي مكنه من فهم
سياسات الاستعمار القائمة على مقولة: "فرق تسد" وعلى إشعال النعرات
العرقية والقبلية واللغوية وتغذية التناقضات الاجتماعية، فتصدى بهذا الوعي للسياسة
البربرية (1930) وفضح مراميها ومقاصدها.
في القضايا التي تعرضت لها رسائل علال
الفاسي
مع تعدد المواضيع التي تناولتها هذه
الرسائل، فإنها في المجموع تكشف عن وجود نسق فكري وسياسي واحد ينتظمها جميعها،
ويؤطر مختلف إنتاجات الزعيم علال الفاسي الفكرية والسياسية والاقتصادية والحزبية
والتوجيهية.
يفيد الاستقراء لهذه الرسائل أنها ركزت بشكل
أساسي على إبراز السياسة الاستعمارية التي كانت تغذي الفرقة والتناقضات الداخلية،
خاصة بين المكون العربي والأمازيغي، وعلى فضح الارتباطات المشبوهة بالقوى
الخارجية، وإبراز آليات مواجهتها سواء في الفترة الاستعمارية أو في فترة
الاستقلال، ومقاومة سياسة تغريب المواطنين
ومحاولة تنصيرهم، وبيان ملابسات وظروف تـأسيس كتلة العمل الوطني، وترصيد الأعمال
والمنجزات التي قامت بها، وتتبع ومواكبة المواقف الدولية من قضية الصحراء، وبيان
الموقف الإيجابي نسبيا لأمريكا من هذه القضية والتنافس الفرنسي الإسباني والأمريكي
على طنجة والمنطقة الخليفية، وإظهار الضغوطات الكبيرة التي مارسها الاستعمار
الفرنسي على جلالة الملك محمد الخامس، خاصة من قبل المقيمين الفرنسيين الجنرالين
ألفونس جوان وأوكستان كيوم، كما تتصدر اهتمامات هذه الرسائل قضية الدفاع عن اللغة
العربية والدين الإسلامي ومكونات الإنسية المغربية، والاعتناء بالطلبة المغاربة
الجامعيين بالخارج، والاهتمام بالصحافة بكل أشكالها والتصدي لكل المحاولات التي
تقوم بالتضييق عليها، ونشر ومواكبة البلاغ الأول لجيش تحرير المغرب العربي، الذي
أصدره قسما الجزائر والمغرب بلجنة تحرير المغرب العربي بالقاهرة، والاهتمام
بالشباب باعتباره الدعامة الأساسية لتطور البلاد وتقدمها، وتقوية الروح الوطنية
لديه، والعمل على تطوير العلاقات بين البلدان المغاربية، والدعوة إلى تعريب الإدارة
بكل مرافقها، وتعريب التعليم في جميع مراحله ومستوياته والدفاع عن التجار الصغار
والذود عن مصالحهم المختلفة والإيمان القوي بالحرية في كل أبعادها وعلى رأسها حرية
الانتماء للأحزاب، كما تضمنت الرسائل لطائف دينية ولغوية فريدة، ومناظرات علمية
هادئة مع الخصوم، وفرائد أدبية جميلة، وأنه في عز الكفاح لنيل الاستقلال، كان علال
الفاسي يجيب عن مشكلات معجمية أو أدبية، أو يستفسر عنها أهل الاختصاص، أو يبحث في
قضايا تاريخية وثقافية وأنثروبولوجية، أو يوظف شواهد شعرية كثيفة أو أمثالا عربية
وأقوالا مأثورة أو حكايات وتعابير ميثولوجية إغريقية أو رومانية أو أوربية، ويغترف
في ذلك من التراث الفلسفي العالمي، بما يكشف عن سعة اطلاعه وقدرته على الإبحار بين
الثقافات بيسر وسهولة، ويكشف أيضا عن قيمة الوقت لديه، وأنه لا يستقل مثل هذه
القضايا رغم ضغط الوقت، وتضخم السياسي في حياته.
رسائل علال الفاسي إلى أمير البيان شكيب
أرسلان
ويضم هذا القسم حوالي 15 رسالة، مؤرخة ما
بين 1935 و1937، وهي كلها تندرج في إطار تقديم صورة عن تطورات الموقف في المغرب
الأقصى وبيان أهداف السياسة الاستعمارية، فعلى سبيل المثال، تقدم رسالة 11 يناير
1935 إخبارا بما تسعى إليه الخارجية الفرنسية من تغيير على عقد الجزيرة الخضراء في
ما يخص موضوع "الباب المفتوح" بما يضر بالتجار والأهالي، حيث بين الزعيم
علال الفاسي لشكيب أرسلان ما تقوم به الكتلة الوطنية من استنكار للأمر، وتعبئة
المواطنين ضد هذه السياسة.
مع تعدد المواضيع التي تناولتها هذه الرسائل، فإنها في المجموع تكشف عن وجود نسق فكري وسياسي واحد ينتظمها جميعها، ويؤطر مختلف إنتاجات الزعيم علال الفاسي الفكرية والسياسية والاقتصادية والحزبية والتوجيهية.
وفي الرسالة
المؤرخة بتاريخ 20 فبراير 1935، والتي جاءت ردا على رسالة شكيب أرسلان لتعزية الأخ
عمر بن عبد الجليل في وفاة أحد أعزائه، كان موضوع الرد في رسالة علال الفاسي بيان تشبث الشبيبة المغربية بالأمير
وآثاره في الجهاد والعمل لصالح الأمة، كما تضمنت الرسالة مناقشة علمية لشكيب أرسلان
في موضوع مبدأ الخليقة، وموقف علال الفاسي من نظرية النشوء والارتقاء الداروينية،
بالاستناد إلى آيات القرآن مقارنة بالكتب السماوية المحرفة، كما تضمنت نظرات علمية
مهمة في تصحيح أصول مقدمة ابن خلدون وضبط أعلامها. وتضمنت الرسالة المؤرخة بتاريخ
24 فبراير 1936، إخبارا بتأسيس مجالس ثورية مغربية لمواجهة الاستعمار الفرنسي،
وممارساته القمعية، وسعيه التفرقة بين المغاربة.
وتضمنت الرسالة المؤرخة بتاريخ 16 سبتمبر 1936 إخبارا بتوقف وتأجيل المؤتمر السادس لجمعية طلبة شمال إفريقيا الذي كان
سيعقد بفاس، بسبب رغبة المقيم العام الفرنسي ترؤسه واستغلال فعالياته لأغراضه
الشخصية.
وفي الرسالة المؤرخة بتاريخ 19 سبتمبر 1936، إخبار برغبة المغاربة في
إقامة مهرجان ضخم باسم مصر وسوريا للتعريف بأطوار نشأة الحركتين الوطنيتين بهما،
كما تتضمن طلبا لمعطيات ومراجع علمية من أمير البيان للاسترشاد بها في التحضير
لمحاضرتين في الموضوع، كما تضمنت مراسلات أخرى مناقشات لغوية وأدبية (جذور لفظة
الرؤية في اللغة العربية)، ومراسلات تضم بعث صحف ومجلات، فضلا عن تعازٍ ورثاء (في
وفاة مصطفى صادق الرافعي) وعيادة صحية
(سؤال حول الحالة الصحية للأمير شكيب أرسلان بعد مرض ألم به وأبطأ التراسل بين
الزعيمين لبعض الوقت).
الرسائل السياسية: علال الفاسي يحذر من
سياسة الاستعمار في بث التناقض بين الحركة الوطنية والمؤسسة الملكية لتعطيل الاستقلال
يتضمن هذا القسم جملة المراسلات التي وجهها
الزعيم علال الفاسي إلى هياكل حزبه المختلفة، وأعضاء الحركة الوطنية، وممثلي بعض
الأحزاب الوطنية (محمد بنونة ممثل حزب الإصلاح الوطني في شمال المغرب) وبرقيات
موجهة للحزب بمناسبة بعض مؤتمراته، غير أن أهم ما ورد في هذا القسم، هو ما يتعلق
بموقف علال الفاسي من بعض الأفكار الفرنسية التي تم عرضها في سياق الإصلاحات، بقصد
بث التناقض بين الحركة الوطنية والمؤسسة الملكية، بقصد تأبيد الاستعمار وتأجيل
الاستقلال، أو حرف الحركة الوطنية عن مواقفها المبدئية.
وتكشف رسالة علال الفاسي الموجهة لممثل حزب
الإصلاح الوطني بشمال المغرب محمد بنونة جوانب مهمة من مرحلة جد حساسة في تاريخ
المغرب (1953) كانت فرنسا تسعى فيها أن تكسر الوحدة الوطنية بالمغرب، وتلعب
بالتناقضات بين مكوناتها، وأن تدفع بفكرة عدم الحاجة للسلطان، وأن الحركة الوطنية
أولى بإدارة المغرب، وأن المرحلة تقتضي إنشاء مجلس للوصاية باتفاق مع الملك، وأن
المفاوضات مع الحركة الوطنية ينبغي أن تتم على قاعدة الحكم الذاتي
"الداخلي"، وقد كشفت هذه
الرسالة عن وطنية الزعيم علال الفاسي ووعيه العميق بما كان الاستعمار يخطط له، وعن
قدرته على التقاط الإشارات وراء الجمل والعبارات المستعملة، بما في ذلك بعض
الألفاظ التي كان علال الفاسي يحذر منها بنفس علمي وأكاديمي وتاريخي ودستوري
مقارن، مثل ما حدث معه مع لفظة "الحكم الذاتي الداخلي" الذي اقترحته
فرنسا على طاولة المفاوضات، إذ انبرى علال
الفاسي رحمه الله إلى بيان موقفه الصريح، وأنه أولا يشترط رجوع الملك إلى عرشه
بدون شروط، وتحقيق الاستقلال التام، وألا حق للحكومة الفرنسية في التدخل لتكوين
مجلس الوصاية، وأنه لا يوجد في القوانين الدولية شيء اسمه "الحكم الذاتي
الداخلي"، وأن هذه العبارة ملغومة فرنسيا، يراد منها حرف الاستقلال عن مضمونه، وإضفاء مضمون سياسي
على استمرار الحماية الفرنسية، من خلال إعطائها شرعية التدخل في السياسة الداخلية
للمغرب، واعتبار المغرب مجرد ملحقة تابعة لفرنسا على شاكلة ما كانت الجزائر عليه.
ويمكن أن نعتبر هذه الرسالة بيانا شافيا
لموقف علال الفاسي لما كان عليه الأمر لاحقا في مفاوضات "إيكس
ليبان"(1955)، وكيف سعى الاستعمار إلى المناورة مع وفد الحركة الوطنية،
وإغرائها بالحكم بدلا عن الملكية، وفي الآن ذاته، حاول الإيقاع بين الملك والحركة
الوطنية، وتصوير هذه الحركة كما ولو كان غرضها الحلول محل السلطان، وهو ما أفشلته
الحركة الوطنية من خلال التشبث بشعار "عودة الملك إلى عرشه أولا" قبل أن
تفاوض، وألا حق لفرنسا في التدخل في الشؤون الداخلية للبلاد ولا ترتيب دفة الحكم
فيه.