لست أدري حقا متى سيستفيق نظام الحكم في
الجزائر، لكني على علم بأن مجال المناورة لديه أضحى محدودا، والمنطقة الرمادية
التي يلجأ إليها كلما ضاقت عليه الخيارات أمست ضيقة. فالعالم مصطف بحدة في هذه الفترة، وليست الجزائر دولة يستهان بها كيما يتخلى عنها هذا الحلف أو ذاك، ولو
أودى بها التجاذب إلى الخراب والتمزق لا سمح الله.
لم تكن المتغيرات التي حدثت في دول الجوار
كلها في حسبان أصحاب القرار في الجزائر، ولم تك سياستهم فاعلة بما يكفي وهم لا
يملكون أصلا خيوطا متينة يستطيعون بها التأثير على هذه الدولة أو تلك، ومرجع ذلك
كله إلى قدرة من يفكر في دواليب النظام الجزائري على استيعاب التغيرات وقراءتها
قراءة عميقة، تتيح له اتخاذ مواقف صحيحة. المثقف السياسي الحر بعيد عن هذه
الدواليب، والذي يقدم المشورة لأصحاب القرار ليس "راهبا" حبس نفسه على
رصد ما يدور في العالم وعلم ما ينبغي فعله في كل مرحلة، إنها بضاعة مزجاة من نظام
معطل القدرات أثقلته الأهواء والفساد عن الفطنة والحذاقة.
شمالا يتوجس الحلف الأطلسي من الميل المبطن
لقادة هذا البلد نحو المعسكر الشرقي، وإن بدا بين الجزائر وهذا المعسكر بعض من
الفتور، إلا أن الراكز في العلاقة بينهما أرسخ من أن تعكره سحابة صيف عابرة.
والإرث الاستعماري التاريخي للحلف في شمال إفريقيا عصي التذليل ليحدث تقارب حميمي
مع الجزائريين؛ ناهيكم أن في قلب الشمال الإفريقي خيرات كثيرة، الغرب بأمس الحاجة
إليها خاصة الطاقة، التي ضنت الجزائر بقسط منها على أوروبا في أزمتها الحالية
مراعاة لمصالحها مع روسيا.
في الصراع الوجودي بين الاتحاد الأوروبي
والاتحاد الروسي ما يمنع الجزائر من وضع بيضها كله في سلة واحدة، فانتصار الغرب أو
الشرق في أوكرانيا بمثابة بداية تفكك أحد الاتحادين لا محالة، فالنصر مغر للقادة
السياسيين بالمزيد، ولن يتوقف غرب أو شرق عند حد من حدوده؛ لذلك يظن من يرسم
سياسة
الجزائر بأن لعب دور بيضة القبان قد تتيح فسحة للمناورة ربحا للزمن، والواقع أن
النيران على حدود الجزائر مشتعلة من كل جهة ولا مجال للانتظار حتى ينتقل شررها إلى
الحطام المركوم بداخلها.
في الجهة الغربية تواصل المملكة المغربية
حصد المزيد من الأوراق السياسية التي تظن بأنها رابحة في خصومتها مع الشقيقة
الشرقية، صراع بين مراهقين سياسيين على إرث لا مثيل له في العالم يتهدده الخراب.
فلا يعني انحياز فرنسا إلى أطروحة الحكم الذاتي للصحراويين كما انحازت قبلها
الولايات المتحدة وإسبانيا ومن سيسير في ركبهم ـ أن الأمر سيقضى للمملكة، فالتفكير
الطائش من قبل الطرفين سيزيد من حماوة الموقف، وسيستجلب أطرافا أخرى إلى المنطقة
تزيد من أوار اللهيب، وليس العدو الصهيوني المستقدم إلى المملكة بنابذ لروسيا
والصين وإيران وحلفائها كي يحتلوا المنطقة من أسهل الأبواب، وستكون تلك الخاصرة
مقضة لمضاجع الأوروبيين، خاصة وأنها قريبة من مضيق جبل طارق، وما تجربة باب المندب
عنهم ببعيد.
الصحراء الكبرى تشهد تحولات دراماتيكية لا
تملك الجزائر وحدها فرصة التأثير فيها، خاصة مع احتدام الصراع بين الفيلة واصطفاف
دول مهمة كالنيجر ومالي وبوركينافاسو مع محور الشرق، ما يعني أن الجزائر التي
تراوح مكانها مندهشة من تفلت الحوادث المتسارعة من بين يديها، لم تعد قادرة على
التأثير في منطقة تعد حديقتها الخلفية، ولم يبق أمامها من خيارات غير الاصطفاف مع
أحد الفريقين وهي لا تفعل كما يريد لها المتصارعون. ولن تستطيع بسياستها المترصدة
أن تبقى مكتوفة الأيدي طويلا وحدودها الشاسعة في الصحراء التي لا قبل لها على حمايتها
فيما لو اتخذتها الجماعات المسلحة مجالا لأنشطتها العسكرية؛ إنها بؤرة متوترة
للغاية والفوضى لا تخدم المصالح الجزائرية قطعا.
النأي بالنفس أسلم إذا حيزت لك الحكمة فأعدت الحكم إلى أهله، ورضيت بما قسم الله لك منه؛ لا أقصد تحكيم الصندوق كما يريد بعضهم، ولا أعني الدخول في مرحلة انتقالية على ما ذهب إليه ساسة ركبوا موجة الحراكيين وليسوا منهم، بل أقصد إقامة الحكم على أركان ترضي الله عز وجل في خلقه، وترضي المؤمنين بالله تعالى على أرضه.
ومن الشرق باتجاه ليبيا وتونس، يتدخل لاعبون
بعيدون في ترتيب أوراق البلدين، فالأتراك والناتو معهم لا استعداد لديهم في التخلي
عن ليبيا غربها، وشرقها معاد للسياسة الجزائرية، لأن الخصومة المستحكمة بين مصر
وحليفها حفتر وبين الجزائر طبع متأصل منذ القدم. وتونس سياسيوها يبيعون الولاء لمن
هو أكثر دفعا، والإمارات المتحدة مستثمر جيد في هذه البيئة الرخيصة. وكلنا يعلم
كيف استطاع الإماراتيون قلب مخرجات الديمقراطية التونسية وجعلها مهزلة حقيقية، في
حين يقتّر الجزائريون في المال السياسي، وهو سلاح فعال يتألف القلوب. ولم تكتف الإمارات
العربية المتحدة بنسج خيوط تكبل بها من يخاصمها سياسيا والجزائر من بينهم، بل إنها
تحاول الاستحواذ على شركة الغاز الإسبانية لتتحكم في الوارد إليها من الغاز
الجزائري، لتجيره لاحقا فيما تحتاج إليه لنفسها من نفوذ يعزز مكانتها الدولية، لقاء
ما تنتزعه من أوراق بيد آخرين، وتلكم سياسة دربت على لعبها هذه الدويلة الفتية في
أكثر من مكان.
الذي يهمني قوله في هذا الاستعراض الموجز
لما يحاك حول الجزائر وليس أغلبه بنافع لمصالحها الحيوية، أن النظام الجزائري لا
يملك خيارات كثيرة للمناورة، خاصة وأن ظهره أصبح مكشوفا للخصوم وبطنه كذلك. فظهره
مشرع للخارج الذي يتربص به لقلب الأوضاع في هذا البلد غير المطواع، لا لذكاء فذ
يميز حكامه بل لعناد يعود إلى المستحكمين في قراره طبعا لم يكتسبوه، ولن يعدم
الخارج شرقيه وغربيه من يقوم بخلط الأوراق من داخل سراديب الحكم لقلب نظام الحكم
أو بافتعال مشكلات هنا وهناك تغري المتربصين بالانقضاض؛ وبطنه بات مكشوفا داخليا
أيضا، لأن الشعب الجزائري ليس محبا لهذا النظام وليس مستعدا للدفاع عنه في ساعة
العسرة، لطول ما شق عليه في التسيير والتدبير، وهو لا يزال غير شفيق به حتى اليوم،
بعدما طفق في عسكرة الحياة في المجتمع، وليس آخرها انتداب ضباط من وزارة الدفاع
لتسيير مؤسسات مدنية يرونها حساسة تمس بالسيادة الوطنية، في تعبير فضفاض لا يمنع
أية مؤسسة مدنية من أن تكون كذلك عندما يريد أصحاب القرار ذلك.
لنهضة الدول وأفولها أسباب يدركها رجال
الدولة الحقيقيون، وليس الموظفون الانتهازيون الذين لا هم لهم غير إعطاء الولاء
للحاكم والاستفادة منه من يدرك تلك الحقيقة ويتحسب لها. وليس أدل على هذا الفارق
من الخيارات الفاشلة لسياسة الدولة القائمة على الارتجال وعدم الإدراك فيما يدور
حولها من تطورات، حتى غدا النظام الجزائري شبه عاجز يسبح وحيدا في بحر هائج لا
يحسن العوم فيه، وقد خسر من بين يديه أوراقا كثيرة ولا يزال مصرا على المقامرة بما
تبقى منها لديه. فهل ذلكم استدراج قدري لنهاية مدوية يساق إليها النظام السياسي في
الجزائر سوقا، جراء ما اكتسبت يداه من موبقات هو بها عليم؟ أم هي بداية استفاقة
حكيمة تعيد الحياة للدولة الجزائرية لعلها تستجمع بها قواها فتنهض من جديد؟ إن لكل
من هذين النجدين معالم لا بد من اعتبارها قبل فوات الأوان.
أن تعطي عطاء المذل للشرق أو للغرب فتلكم
مهلكة حقيقية، والتمنع ليس بمجد في مثل هذه الظروف العصيبة، وهذا العطاء هو ما
يعبر عنه في الأدبيات السياسية بالعهر السياسي، مجبرا أو متمنعا تعطي شرف موقفك
السيادي لمن يستحكم فيه فيرديك متاعا يستغله لأجندته الخاصة إلى أن يسفر الصراع
الجيوسياسي المحتدم اليوم عن صبح الله وحده به خبير. والنأي بالنفس أسلم إذا حيزت
لك الحكمة فأعدت الحكم إلى أهله، ورضيت بما قسم الله لك منه؛ لا أقصد تحكيم
الصندوق كما يريد بعضهم، ولا أعني الدخول في مرحلة انتقالية على ما ذهب إليه ساسة
ركبوا موجة الحراكيين وليسوا منهم، بل أقصد إقامة الحكم على أركان ترضي الله عز
وجل في خلقه، وترضي المؤمنين بالله تعالى على أرضه.