كسر
الاتحاد الأوروبي حاجز الخمس سنوات من جمود الحراك الدبلوماسي المتبادل مع
تركيا في ما يتعلق بتعزيز العلاقات بين الجانبين والتي تأمل أنقرة في رفعها منذ عقود إلى مستوى العضوية الكاملة على الرغم من العقبات التي حالت دون ذلك، الأمر الذي زاد من اقتراب الجانب التركي من الشرق أكثر بهدف تعزيز تحالفات جديدة، بما في ذلك التقدم بطلب للانضمام إلى مجموعة دول "
بريكس".
والأسبوع الماضي حضر وزير الخارجية التركي هاكان فيدان لأول مرة منذ 5 سنوات اجتماع وزراء خارجية دول الاتحاد الأوروبي غير الرسمي "غيمنيتش"، بناء على دعوة وجهتها بروكسل إلى أنقرة.
ورحبت تركيا بالدعوة الأوروبية التي جاءت بعد توتر العلاقات بين أنقرة والاتحاد الأوروبي على خلفية العقبات التي تحول دون انضمام تركيا إلى النادي الأوروبي.
وشدد المتحدث باسم وزارة الخارجية التركية، أونجو كتشالي، على أن تركيا تنظر بإيجابية إلى الدعوة الأوروبية، مشيرا إلى أنها خطوة نحو تعزيز الحوار بين الجانبين.
وبحسب كتشالي، فإن هذه الدعوة "تعكس إدراك الاتحاد الأوروبي لأهمية تطوير العلاقات مع تركيا، إلا أنها يجب ألا تقتصر هذه المبادرة الإيجابية على اجتماعات غيمنيتش".
بعيدا عن مسار العضوية المتعثر
والعام الماضي، لوح الرئيس التركي رجب طيب
أردوغان بضرورة إعادة إحياء مسار انضمام بلاده إلى الاتحاد الأوروبي، إلا أن مساعي تركيا الممتدة منذ نحو نصف قرن لعبور بوابة التكتل الأوروبي، اصطدمت بتقرير الاتحاد عن "تركيا 2022"، الذي وجه انتقادات لاذعة إلى أنقرة على صعيد الحريات والديمقراطية واستقلال القضاء وملف المثليين ومزدوجي الميول الجنسية وغير ذلك.
وأقر البرلمان الأوروبي التقرير، الذي خلص من خلاله إلى نتيجة مفادها أنه "لا يمكن إحياء مسار مفاوضات عضوية تركيا للاتحاد الأوروبي في الظروف الموجودة"، بأغلبية 434 صوتا مقابل 18 فيما امتنع 152 نائبا عن التصويت.
وجاء التقرير الأوروبي في وقت تنشط فيه الدبلوماسية التركية بالمفاوضات بين روسيا وأوكرانيا لا سيما في ما يتعلق باتفاق تصدير الحبوب عبر البحر الأسود الذي توصل إليه الجانبان بوساطة تركية وأممية بعد اندلاع الحرب المتواصلة منذ شباط/ فبراير عام 2022.
الباحث في العلاقات الدولية، محمود علوش، يرى أن الدعوة الأوروبية "تعكس أولا رغبة أوروبا في إعادة إحياء العلاقة مع تركيا بعد سنوات من التوتر".
وثانيا، بحسب حديث الباحث إلى "عربي21"، تعكس دور التحولات التي أفرزتها الحرب الروسية الأوكرانية والمنافسة الجيوسياسية العالمية في تعظيم أهمية أنقرة في السياسات الأوروبية".
و"مع ذلك، فإن هناك مشاكل كبيرة تواجه العلاقات التركية الأوروبية والتعامل معها يتطلب تغييرا جذريا في النهج الأوروبي تجاه تركيا"، وفقا لعلوش.
وبعيدا عن العضوية الكاملة، تسعى تركيا للبدء بمفاوضات فورية مع الاتحاد الأوروبي من أجل تحديث اتفاق الاتحاد الجمركي الحالي بهدف زيادة إحياء العلاقات التجارية بين الجانبين، بالإضافة إلى مطالبات أنقرة بإزالة القيود على تأشيرات دخول المواطنين الأتراك، وتنشيط آليات الحوار المنظمة.
ومن خلال إبقاء آليات الحوار نشطة بين الجانبين، تسعى أنقرة إلى إبقاء ملف عوضيتها على طاولة الاتحاد الأوروبي حيث لا تزال هذه القضية "تمثل هدفا استراتيجيا بالنسبة لتركيا"، حسب وصف وزير الخارجية هاكان فيدان.
يشيرا الباحث في الشأن التركي علي أسمر، إلى أنه "بعد خمس سنوات من القطيعة بين تركيا والاتحاد الأوروبي، أيقن الأوربيون الثقل السياسي والدبلوماسي لتركيا وفهموا أنهم لا يستطيعون تجاهل الدور التركي وخاصة بعد الحرب الروسية الأوكرانية وملف انضمام السويد الى حلف شمال الأطلسي (الناتو)".
وكانت تركيا، العضو في حلف شمال الأطلسي، ربطت موافقتها على انضمام السويد إلى "الناتو" بإعادة إحياء مسار مفاوضات العضوية في الاتحاد الأوروبي خلال قمة ليتوانيا العام الماضي، إلا أن هذا الملف تراجع على خلفية تفاهمات أخرى مع واشنطن أسفرت عن انضمام ستوكهولم إلى الحلف.
ورغم أن "عضوية الاتحاد لا تزال هدفا استراتيجيا لتركيا"، وفقا لعلوش، فإن "الظروف المحيطة بالعلاقات التركية الأوروبية لا تساعد بأي حال في إعادة إحياء مفاوضات الانضمام".
ويضيف علوش: "مع ذلك، فإن هناك بعض المبادرات التي يمكن القيام بها لإعادة إحياء العلاقة على غرار تحديث اتفاقية التبادل الجمركي وتحرير التأشيرة، لكن مثل هذه الخطوات لا تشكل بديلا عن مسار العضوية بالنسبة لأنقرة".
ورغم استبعاده اقتراب انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي لما يحمله هذا الملف من أبعاد متعددة سياسية واقتصادية وثقافية، إلا أن أسمر شدد في حديثه مع "عربي21"، غير أن "هذا لا يعني تراجع العلاقات التركية مع الاتحاد الأوروبي، بل إنه العكس إذ إن تركيا تريد عقد صفقات أمنية وتجارية وسياسية".
وشدد الباحث التركي، على أن "السياسة لدى تركيا ليست سياسة الأسود أو الأبيض، بل هي سياسة مرنة مع كل القوى بالعالم وهذا ما يميز تركيا عن باقي الدول"، بحسب تعبيره.
بين الشرق والغرب
في غضون تجدد الجهود لدى تركيا والاتحاد الأوروبي لجسر الفجوات بينهما وتعزيز التعاون المتبادل، تضع أنقرة أعينها على الشرق بقدر ما تضعها على الغرب، وذلك بهدف بناء تحالفات جديدة بعيدا عن حلفائها الغربيين التقليديين.
وبحسب مصادر لوكالة بلومبيرغ، فإن هذه "الجهود الدبلوماسية التركية تهدف إلى إقامة علاقات أقوى عبر عالم متعدد الأقطاب مع الحفاظ على التزاماتها كعضو رئيسي في حلف شمال الأطلسي".
والاثنين، قدمت الحكومة التركية، رسميا بطلب الانضمام إلى مجموعة "بريكس"، حسب ما نقلت "بلومبيرغ" عن مصادر وصفتها بـ"المطلعة"، تحدثت شريطة عدم الكشف عن هويتها.
و"بريكس" هي مجموعة جرى تأسيسها عام 2006 من قبل روسيا والصين والبرازيل والهند، قبل أن تنضم إليهم جنوب أفريقيا، واسمها هو عبارة عن الأحرف الأولى من أسماء هذه الدول باللغة الإنجليزية. وقد توسعت هذه المجموعة مطلع العام الجاري، بعدما انضمت إليها كل من مصر وإثيوبيا وإيران والإمارات العربية المتحدة.
وتهدف هذه المجموعة التي تتولى روسيا رئاستها الدورية، إلى تعزيز التفاعل بين الدول ذات إمكانات النمو الاقتصادي العالية، كما أنها تطور خطابا جديدا حول نظام عالمي عادل متعدد الأقطاب، وتعارض كثيرا من القواعد التي تفرضها مؤسسات مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، وترفض التمثيل الضعيف للدول في هذه المؤسسات.
وشددت مصادر "بلومبيرغ"، على أن هذا القرار يعكس اعتقاد حكومة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بأن "توازن القوى العالمي يتحول بعيدا عن الاقتصادات المتقدمة".
وسبق أن تحدث فيدان عن رغبة بلاده بالانضمام إلى "بريكس" التي ينظر إليها على أنها بديل عن مجموعة دول السبع التي تقودها دول غربية.
وانضم وزير الخارجية التركي إلى اجتماع وزراء خارجية دول مجموعة "بريكس+" الذي عقد في مدينة "نيغني نوفغورود" الروسية في شهر حزيران/ يونيو الماضي، والتقى بالرئيس فلاديمير بوتين في لقاء مغلق.
ورحبت روسيا على لسان المتحدث باسم الرئاسة الروسية "الكرملين" دميتري بيسكوف، باهتمام تركيا بمجموعة دول "بريكس"، مشيرة في الوقت ذاته إلى أن "المجموعة قد لا تلبي المصالح الكاملة لجميع البلدان التي ترغب في الانضمام إليه".
علوش، أشار إلى أن "هناك عوامل رئيسية تدفع أنقرة إلى محاولة الانضمام إلى مجموعة بريكس، أهمها تنويع العلاقات بين الشرق والغرب وتقليص اعتمادها على الغرب في مجالات حيوية لا سيما الاقتصادية وينظر إلى تعميق العلاقات الاقتصادية والتجارية مع الشرق والانضمام إلى مثل هذه التكتلات على أنها وسيلة لتحقيق هذا الهدف".
وأوضح أن "أنقرة تعتقد أن مركز الثقل الجيوسياسي العالمي لم يعد يتمحور حول الغرب في ظل الصعود الاقتصادي للشرق. وبالتالي، فإن الانضمام لمجموعة بريكس من شأنه أن يعزز قدرة تركيا على الاستفادة من التحولات العالمية لتعزيز دورها في السياسات الدولية".
والسبت الماضي، قال أردوغان إن "تركيا يمكن أن تصبح دولة قوية ومزدهرة ومرموقة ومؤثرة إذا طورت علاقاتها مع الشرق والغرب في وقت واحد"، بحسب وكالة الأناضول.
وأضاف في كلمة له أمام قيادة الأكاديمية العسكرية البحرية في إسطنبول، أن "أي طريق غير هذا لن يفيد تركيا، بل سيضرها وسيجعلها خارج المعادلة"، موضحا أنه "بينما تعزز تركيا علاقاتها مع الشرق من جهة، فإنها تسعى لتعزيز تعاونها المتجذر مع الغرب من جهة أخرى".
وعلق أسمر على تصريحات أردوغان المشار إليها، موضحا أن "تركيا دائما كانت حريصة ألا يتم تحجيمها أو حصرها بمعسكر معين، فالجغرافيا قدر، وقدر تركيا أن تكون بين آسيا وأوروبا وبين الشرق والغرب".
و"هذه ميزة جيوسياسية فريدة من نوعها وهي تنعكس على السلوك السياسي لدى تركيا ، فلا ضير أن تكون تركيا في حلف الناتو وأن تكون في مجموعة بريكس، وعلى العكس فإن هذا التنوع بالعلاقات السياسية والاقتصادية سيوسع الدور التركي الوسيط بالمنطقة"، وفقا للباحث التركي.
منظمة شنغهاي على جدول أعمال أنقرة
ولم تقتصر رغبة تركيا على الانضمام إلى "بريكس"، بل سبق أن لوح الرئيس التركي برغبة بلاده في نيل عضوية منظمة شنغهاي للتعاون التي تحظى أنقرة فيها بصفة "شريك حوار".
وأوضح أردوغان، في حديثه أمام الأكاديمية العسكرية البحرية بإسطنبول، أن بلاده "ليست مجبرة على الاختيار بين الاتحاد الأوروبي ومنظمة شنغهاي".
يشار إلى أن "شنغهاي للتعاون" هي عبارة عن منظمة دولية سياسية واقتصادية وأمنية أوراسية، جرى تأسيسها في عام 2001 في مدينة شنغهاي الصينية على يد قادة دول: الصين، وكازاخستان، وقرغيزيا، وروسيا، وطاجيكستان، وأوزبكستان.
وتوسعت المنظمة في عام 2017 عقب نيل كل من الهند وباكستان عضويتها الكاملة. وتوسعت لاحقا أيضا بعد حصول إيران وبيلاروسيا على العضوية في تموز/ يوليو 2023 و2024 على التوالي، بحسب وكالة الأناضول.
وتضم المنظمة 14 دولة بصفة "شركاء حوار" هي: تركيا وأذربيجان وأرمينيا والبحرين ومصر وكمبوديا وقطر والكويت والمالديف وميانمار ونيبال والإمارات والسعودية وسريلانكا، وفقا للوكالة ذاتها.
هل تنجح تركيا في الحفاظ على توازنها؟
بحسب علوش، فإن "المنافسة الجيوسياسية بين الشرق والغرب تزيد من الضغط على سياسة التوازن التركي، لكنها في المقابل تعزز قدرة أنقرة في الاستفادة من الفرص التي توجدها هذه المنافسة لها".
وشدد الباحث في حديثه لـ"عربي21" حول قدرة تركيا على الحفاظ على اتزان مواقفها في ظل استدارتها نحو الشرق والغرب معا، على أن "التفاعلات الاقتصادية والتجارية مع أوروبا لا تزال تشكل الثقل الأكبر في العلاقات الاقتصادية لتركيا مع العالم".
وأشار إلى أن "عضوية تركيا في حلف الناتو لا تزال تُشكل ركيزة أساسية في سياستها الخارجية مع روسيا والغرب"، بحسب تعبيره.
من جهته، شدد أسمر على أنه "في ظل الأزمات التي تعصف بالعالم، فإن هناك حاجة لدولة مثل تركيا تقوم بإنشاء جسر تواصل مع الأطراف المتصارعة، كما حصل في الحرب الروسية الأوكرانية".
ولفت الباحث التركي، إلى "أنقرة أتقنت دور الوسيط وستمارس هذا الدور في كل الصراعات الإقليمية والعالمية، خاصة أن الاقتصاد العالمي لا يستطيع تحمل الحروب المفتوحة بعد جائحة كورونا".