لعلك تعجبت من خذلاننا المشين لأهلنا في
غزة، وربما تسأل نفسك أيضا كيف لم نرق
إلى حال الأمريكي أرون بوشنل الذي أشعل في نفسه النار رافضا أن يكون جزءا من هذا
الخزي والعار، وهو ليس بفلسطيني أو عربي أو مسلم، وكيف توصلت وزيرة خارجية جنوب
أفريقيا للحل في كسر حصار التجويع لأهل غزة، في حين لم يدع شيخ الأزهر إلى ذلك حتى
الآن أو يقم بذلك فعليا؛ الوزيرة دعت لقيام قوات عسكرية من عدة دول بحراسة قوافل المساعدات
كي تتجه لغزة وتكسر حصارها. ولشيخ الأزهر أن يدعو أيضا علماء
المسلمين للقيام
بمسيرة، يقودها هو، ترافق قوافل المساعدات وتكسر الحصار الظالم على أهل غزة، ومعروف
عند العلماء أنه لا يصح القعود والتثاقل في وقت وجبت فيه الحركة.
أطمئنك ان هذا الحال من الهوان ليس جديدا، فقد مرت به مجتمعات المسلمين زمن
التتار وسقوط الخلافة العباسية وفي الأندلس زمن سقوط آخر ملوك الطوائف. وسبب
السقوط في تلك الحالتين والآن واحد: خراب بوصلة الأولويات لدينا جميعا وفساد
المنظومة بكافة جوانبها. وبصورة أوضح: ضعف الهمة والترف والتثاقل إلى الأرض وتعطيل
الجهاد كمنهج حياة ومفهوم وأحكام وشروط ومتطلبات. والنتيجة حتمية وواضحة: ذل وهوان
وخذلان، لذلك قال أبو بكر رضي الله عنه: "ما ترك قوم الجهاد في سبيل الله
إلا خذلهم الله بالذل".
مشكلتنا الوجودية ليست في حل طلاسم "الحداثة واستنباط الأطر الأنطولوجية
والأبستمولوجية في التعامل معها"، فكل هذا مقصود به تغييب وعينا وتزييفه وإشغالنا
عن المشكلة الرئيسية؛ لغو لن يخرجنا من مرقدنا وهواننا، وتحطيم متعمد لذواتنا من
الداخل. قاربنا على المائتي عام ونحن نشمر سواعد الجد في خوض المعارك الفكرية
وسجالات اللغو،
مشكلتنا ليست مشكلة أفكار أو مشاريع فكرية، فالمكتبات زاخرة بالآلاف من المشاريع الفكرية والنهضوية التي لم تؤت ثمارها، آلاف الرسائل الجامعية حول النهضة وكيفية تحقيقها، ولم نر نهضة حتى الآن، وفي نماذج التنمية الناجحة ولم ننجح في تحقيق تنمية حقيقية. مشكلتنا هي إعادة تركيب أنفسنا وحياتنا كي تدور ليس على المال والشهادات التعليمية الزائفة، وإنما على الجهاد والاجتهاد في المقام الأول
وندور في حلقات مفرغة لم نخرج منها إلى الآن باتفاق حول أسباب
تخلفنا وكيف ننهض، ما زلنا نسأل الأسئلة الخطأ ونتجنب حسم الأسئلة الكبرى، أما
المعارك الحقيقية فلا نعد لها العدة ولا نربي عليها الرجال، إلا من رحم ربي.
مشكلتنا ليست مشكلة أفكار أو مشاريع فكرية، فالمكتبات
زاخرة بالآلاف من المشاريع الفكرية والنهضوية التي لم تؤت ثمارها، آلاف الرسائل
الجامعية حول النهضة وكيفية تحقيقها،
ولم نر نهضة حتى الآن، وفي نماذج التنمية الناجحة ولم ننجح في تحقيق تنمية حقيقية.
مشكلتنا هي إعادة تركيب أنفسنا وحياتنا كي تدور ليس على المال والشهادات التعليمية
الزائفة، وإنما على الجهاد والاجتهاد في المقام الأول. وهذان المفهومان يكمن فيهما
الحل والمفتاح لمشكلتي الحداثة والتحرر (زكي الميلاد).
أولا: الجهاد كحركة تحريرية شاملة ضد الاستبداد الداخلي والهيمنة الخارجية، أي أنه حركة واقعية إيجابية وليس
مجرد أفكار فلسفية.
- الجهاد هو "ثورتنا
الدائمة" (محمد جلال كشك)، وهو مشروع المقاومة الحضارية للاستعمار الداخلي المفروض
على شعوبنا والمدعوم من الخارج، ومقاومة الاستعمار الخارجي وكسر سيطرته وهيمنته
علينا وتحقيق تحررنا الفعلي.
- الجهاد بكافة
أشكاله يتطلب أن يكون هو الدور الوظيفي الأساسي للدولة ومركز الحركة للمجتمع معا؛
عليه تتم تنشئة وتربية أفراده، ويتمثل في الإعداد الدائم له (وأعدوا لهم) من أجل تحقيق
الاكتفاء والتصنيع الحقيقي وامتلاك القدرات العلمية والعسكرية، أي حل مشكلة
"التحديث والتقدم".
ثانيا: الاجتهاد كحركة مجتمعية جماعية من أجل رؤية شاملة للعالم والقضايا التي تهمنا نحن، يتجدد حسب تغير وتطور
تلك القضايا (الإبداع والتحديث).
- الاجتهاد
والفتاوى للأفراد ضرورية ولكنها لا تغير المجتمعات، وإنما يغيرها الاجتهاد في
قضايا المجتمع الحقيقية (مثلا كالاجتهاد في حكم الأنظمة المسلمة التي تحمي وتعاون
إسرائيل وشرعية تلك الأنظمة وموقفنا منها، الاجتهاد في موقفنا من الحكام
المتخاذلين عن نصرة الضعفاء من المسلمين، من نظم تدعي الإسلام وتشارك في حصار
المسلمين، من الولاء للغرب المستعمر وعدم البراء منه وعدم موالاة المسلمين، ممن
تقاعس عن إعداد القوة من تصنيع وتحقيق التقدم العلمي والتكنولوجي، ممن تقاعس عن
تحقيق الاكتفاء الذاتي من الغذاء والدواء، من حكم الإسراف والسفه في نماذج التنمية
الزائفة وإهدار إمكانات المجتمعات المسلمة.. وغيرها من القضايا التي تحتاج إلى
اجتهاد مجتمعي.
- أمور
المجتمعات الحديثة بلغت من التعقيد بحيث لا تدركها تخصصات وعلم الفقهاء المعاصرين،
ومن ثم نحتاج إلى اجتهاد جماعي يشارك فيه أصحاب التخصصات الدقيقة والحديثة.
والعالم في تخصصه يحق له الاجتهاد داخل هذه المنظومة الجماعية من متخصصين وفقهاء.
أين نبدأ؟
1- بالتمرد على هذا الواقع ورفضه كليا والعمل على تغييره.
- دول المنطقة لا يفيد معها الإصلاح والتدرج وإنما التفكيك الكامل لمؤسسات
دولة ما بعد الاستعمار، حتى لو عانينا من فوضى لمدة محددة يتبعها تأسيس منظومة ومؤسسات
جديدة.
- لا تعايش
مع تلك الأنظمة الفاقدة لإرادتها السالبة لإرادة شعوبها.
- ما تلحقه
تلك الأنظمة من دمار في مجتمعاتنا لا يمكن معه الانتظار، فهي لن تسمح للمجتمع أن
يقوى ويتخلص منها، كما لا يمكن للمجتمعات أن تنتظر حتى تأتي تلك الأنظمة على
البقية الباقية من إرادتها وعزتها.
2- إعادة
الاعتبار للذات (إقبال).
- تقدير
أنفسنا وذواتنا وثقافتنا وإسلامنا وحضارتنا.
- التخلص من
الفردية والاستهلاكية والترف والانهزامية والشك في النفس والذات، فكلها مقدمات الهيمنة
والاستعباد.
- الاستعداد
للبذل والتضحية لقيم أكبر من النفس.
الوضع بعد غزة سيفرز خطابا جديدا وعملا جديدا، الخطاب الجديد سيكون خطاب صدق مع النفس ومع الآخرين، خطابا يفصل بين القديم والجديد، خطابا يفصل بين المتخاذلين وأصحاب الإرادة الحرة
3-استعادة الوعي (شريعتي).
- إعادة تعلم
المنهجية الإسلامية في النظرة للكون والعالم والعلوم والعمران.
- التغيير
الجذري لنظم التعليم من أجل استعادة ذواتنا الأصيلة وتاريخنا وحضارتنا.
- عدم الوقوع
في فخ التشتت الفكري والفلسفي، والتخلي عن تبني قضايا ومفاهيم ومصطلحات غيرنا،
والتركيز على مهامنا الأساسية (الإعداد للجهاد كثورة دائمة والمقاومة كمنهج حياة، وتحصيل
ملكات الاجتهاد المجتمعي والجماعي، وتحقيق العمران كقدرة ومنعة).
4- القيادة الرشيدة التي
تمهد الطريق للشعوب بالرؤية والتنظيم والحركة، ليس من أجل السلطة والسيطرة على تلك
الشعوب، وإنما من أجل كسر التبعية وإعلان
التحرر التام على مستوى الدولة والمجتمع.
- البدء
بتحرير دولة قوية في المنطقة -ولتكن مصر مثلا-
واستعادة مركزيتها ودورها المؤثر، ومعها السودان وليبيا كعمق استراتيجي وأمني
واقتصادي طبيعي (الدفاع المشترك- التكامل).
- مصر وسوريا: تظل مصر دون الشام كموسى بلا هارون، يطلبه معه ليشد
أزره في مسيرة التحرير. فلا تحرير لفلسطين دون مصر وسوريا في صف واحد.
الوضع بعد غزة
سيفرز خطابا جديدا وعملا جديدا، الخطاب الجديد سيكون خطاب صدق مع النفس ومع الآخرين،
خطابا يفصل بين القديم والجديد، خطابا يفصل بين المتخاذلين وأصحاب الإرادة الحرة،
خطاب مقاومة ونصر، خطاب جهاد وعزة وقدرة.