أفكَار

الحركات الإسلامية تمثل عائقا للاستراتيجية الأمريكية الصهيونية في المنطقة

من الاستراتيجيات التي ستنتهجها الولايات الأمريكية دعما للكيان تحييد الدول العربية السنية وتوريط بعضها في الحرب ضد حزب الله، وبالتالي ضد "حماس".
يخطّط المعسكر الاستعماري الغربي بزعامة الولايات الأمريكية المتحدة للحسم في الحروب التي تورّط فيها والمآزق الديبلوماسية التي علِق فيها، ليعود للاهتمام بالجبهة الصينية وما تمثله من تحديات جادة على الزعامة العالمية والمصالح الاقتصادية والتحديات الجيوستراتيجية، لا سيما ما يتعلق بالحرب في أوكرانيا، والحرب ضد حركة حماس ومحور المقاومة.

ستبدأ الحرب بمراجعة الاستراتيجية الاقتصادية ضد روسيا، وبشكل أساسي على جبهة المعطيات الطاقوية. فمن الحسابات الخاطئة التي وقعت فيها الولايات الأمريكية المتحدة محاولة حرمان روسيا من مداخيل البترول والغاز بالحصار والضغط على الدول لمقاطعة البضائع والموارد الطبيعية الروسية. غير أنه في الوقت الذي ارتفعت فيه أسعار الطاقة الأحفورية وجدت روسيا زبائن كبارا لم يبالوا بالإدارة الأمريكية فكانت نتيجة المخطط الأمريكي عكسية إذ امتلأت خزائن روسيا بأموال الطاقة غالية السعر، وارتفعت قيمة العملة الروسية، بسبب ارتفاع المداخيل وبسبب اشتراط الروس بيع بترولهم  بالروبل في أوج الأزمة لخصومها الأوروبيين، علاوة عن المقدرات الاقتصادية الجبارة الأخرى، فانتعش الاقتصاد الروسي، بشكل مخالف للمتوقع أثناء الحرب.

ستكون المراجعة، وقد بدأت، بخفض أسعار البترول والغاز، حتى تنقص المداخيل الروسية إذ لن يضطر زبناؤها الكبار اشتراء بترولها بسعر عال. وأدوات خفض ورفع الأسعار الطاقوية لعبة دولية تتقنها أمريكا، وهي تملك، مع حلفائها، مخزونا استراتيجيا كبيرا يمكن استعماله لذلك، ضمن أدوات أخرى.

لقد أحدث طوفان الأقصى تحولات دولية كبرى أثرت كثيرا على المكانة الدولية للولايات الأمريكية المتحدة وعلى سمعتها، وعلى أوضاعها المحلية. وإذ لم يستطع البيت الأبيض التحكم في تعنت المجرم نتنياهو، رغم المشاركة الكاملة في الجريمة، فهو مضطر لمسايرته في استراتجية الحسم العنيف في غزة ومع محور المقاومة. ربما تكون الولايات الأمريكية غير راغبة في توسيع الحرب مع إيران إلا إذا اضطرت لذلك، ولكنها بكل تأكيد ستمضي لدعم حليفها الصهيوني في الحرب الطاحنة المتوقعة مع حزب الله.
من الدول التي ستتأثر بخفض أسعار البترول والغاز الجزائر، حيث أنه مقدر في الدراسات الطاقوية المتخصصة أن البترول سينخفض إلى حدود60 دولار للبراميل في 2025، والجزائر تحتاج إلى ضعف هذا السعر لتحفظ توازناتها الاقتصادية الكبرى، ومع ارتفاع الاستهلاك المحلي وضعف الاحتياطي ستدخل الجزائر في أزمة مستجدة تشعل الجبهة الاجتماعية، لاسيما وأن الرئيس تبون لم يحقق نجاحا اقتصاديا يقوم على نمو عدد ونوع المؤسسات الاقتصادية في الصناعة والفلاحة والخدمات المنتجة للبضائع والسلع والتي توفر فرص الشغل  بما يحل مشكل البطالة ويخلق الثروة ويحل مشكلة الندرة والتضخم ويرفع مستوى المعيشة. لقد بقي الخطاب والإجراءات الشعبوية هي سيدة الموقف، وساعد على تفشي ذلك الانهيار الكلي للتدافع السياسي والاجتماعي  في البلاد.

ثمة مؤشرات كثيرة تبين بأن النظام السياسي الجزائري على علم بما ينتظره من أزمات في عام 2025، بتلقاء نفسه، أو بتنبيه من الولايات الأمريكية التي صارت لها الجزائر حليفا موثوقا به، بعد خيبة البريكس والتوتر الخفي في العلاقة مع روسيا، إذ عادة ما تخبر الولايات الأمريكية حلفاءها، القريبين والبعيدين، بالآثار السلبية لسياساتها وتحاول المساعدة على ذلك.

والملف الآخر الذي تسعى الولايات الأمريكية المتحدة لحسمه الملف الفلسطيني ومحور المقاومة. لقد أحدث طوفان الأقصى تحولات دولية كبرى أثرت كثيرا على المكانة الدولية للولايات الأمريكية المتحدة وعلى سمعتها، وعلى أوضاعها المحلية. وإذ لم يستطع البيت الأبيض التحكم في تعنت المجرم  نتنياهو، رغم المشاركة الكاملة في الجريمة، فهو مضطر لمسايرته في استراتجية الحسم العنيف في غزة ومع محور المقاومة. ربما تكون الولايات الأمريكية غير راغبة في توسيع الحرب مع إيران إلا إذا اضطرت لذلك، ولكنها بكل تأكيد ستمضي لدعم حليفها الصهيوني في الحرب الطاحنة المتوقعة مع حزب الله.

ومن الاستراتيجيات التي ستنتهجها الولايات الأمريكية دعما للكيان تحييد الدول العربية السنية وتوريط بعضها في الحرب ضد حزب الله، وبالتالي ضد "حماس".

لا توجد مشكلة لديها في تحقيق ذلك مع الأنظمة العربية الرسمية، ولكن الجبهة المحرجة لها ولحليفها الإسرائيلي هي الجبهة الشعبية. غير أن الجبهة الشعبية يمكن تحييدها إذا تم تحييد القوى الإسلامية الفاعلة فيها، لكي لا تكون هذه الحركات عائقا للاستراتيجية الأمريكية الصهيونية ولكي لا تستفيد من التحولات فتنبعث من جديد.

وحين نلقي النظر إلى الحركات الإسلامية السنية في الدول العربية، نجدها تعيش أوضاعا مزرية وضعفا شديدا في أغلبها، في تونس وليبيا ومصر واليمن والعراق وسوريا، ولا وجود لها تقريبا في دول الخليج، سوى الكويت، وتعرف تراجعا كبيرا في المغرب وقلة تأثير سياسي في موريتانيا، ولم تبق إلا ثلاث حركات إسلامية لها فاعلية وانتشار وقدرة على التعبئة والتمرد على سقوف الأنظمة إن شاءت وهي الحركات الإسلامية الموجودة في الجزائر والأردن والكويت.

أما الكويت فقد تم التحكم في الشأن السياسي فيه بحل البرلمان وتجميد مواد أساسية في الدستور، تتعلق بالحياة السياسية، لمدة أربع سنوات وتم إدماج الحركة الإسلامية في المسار، وأما الأردن فإن الحركة الإسلامية ستعيش امتحانا عسيرا بنجاحها التاريخيّ في الانتخابات التشريعية الأخيرة، الذي ربما لم يكن ليسمح به الملك ومن يشير عليه محليا واقليميا ودوليا، إلا من أجل الاستعداد لحرب سيطلب من الأردن أثناءها مواجهة المدد الذي يأتي لحزب الله، وربما لإيران، من العراق وسوريا وكذا غلق المجال الجوي للهجومات الجوية من إيران وحلفائها، ولا توجد من وسيلة لمنع الحركة الإسلامية الأردنية من أن يكون لها دور شعبي ضد  الكيان أثناء الحرب سوى أن تورط في الحكومة على إثر نجاحها في الانتخابات التشريعية لتحييدها ثم لكسر مصداقيتها نهائيا.

أما عن الجزائر، وشأن الحركة الإسلامية فيها، فإن الخطة المتعلقة بآفاق 2025، محليا واقليميا ودوليا،  أعدت في وقت مبكر بتخطيط محكم، وقد أظهر أحد وكلاء فرنسا ضلوع هذا البلد في بعض جوانب المخطط في وقت مبكر، على نحو سنشرحه لاحقا، حين تنتهي حساسية تناول موضوع الانتخابات الرئاسية، ويمكننا من جهة أخرى، من باب التحليل، أن ندخل ضمن المخطط قرار تقديم الانتخابات الرئاسية.

لقد أشرت لِما كان يحاك في مقال سابق نُشر في نيسان / أبريل من هذه السنة، ومن محاور المخطط المعد تنظيم انتخابات رئاسية هادئة وآمنة، وإدماج أهم حزبين بقي لهما مكانة وقدرة على التأثير وهما حركة مجتمع السلم وجبهة القوى الاشتراكية ليساهما في رسم المشهد المعد مسبقا من حيث عُلم أم لم يُعلم، وقد كانت الانتخابات آمنة فعلا، دون أي رهان، ولكنها لم تكن هادئة، ليس بفعل شدة التنافس في الحملة الانتخابية، فذلك لم يحدث، ولكن بصخب صراع الأجنحة وما حدث من فضائح في إعلان النتائج.

أما جبهة القوى الاشتراكية فإنه يلزم الحوار معها مباشرة وبشكل مفتوح، وبمطالب محددة، على نحو ما وقع قبيل الانتخابات التشريعية 2012، وفق ما كشفه أمين عام سابق للجبهة شهد على ذلك بنفسه، وما رأيناه من تغيير للنتائج من قبل المجلس الدستوري لصالحها ولصالح حزب آخر.

لم تبق إلا ثلاث حركات إسلامية لها فاعلية وانتشار وقدرة على التعبئة والتمرد على سقوف الأنظمة إن شاءت وهي الحركات الإسلامية الموجودة في الجزائر والأردن والكويت.
وأما حركة مجتمع السلم فلا يُتصور أن يتورط قادتها الحاليون في المساومات المباشرة، ولكن يمكن بسهولة إدماجها في المخطط بالاستدراج. وقد بين لي أحد المطّلعين، كيف تعتمد الأجهزة على دراسة الشخصيات القيادية، واستعمال الأسلوب الأنسب لكل مسؤول. والوسيلة المستعملة معنا وفق ما ذكر لي آخر، من الشخصيات المؤثرة ذات العلاقات الفاعلة هي "يجيبوك بالقدر!"، فلا يحتاج النظام السياسي لاستدراج المسؤولين في حمس أن يتم تهديدهم أو شراؤهم، يكفي ابتلاعهم بالمدح والإطراء والإغداق عليهم بالثناء الذي تحتاجه نفسياتهم، كالقول لهم بأنهم "وطنيون، ومعتدلون، ورجال دولة، وتلاميذ الشيخ محفوظ، ويتنازلون من أجل الوطن!…". وقد رأيت كيف يستعمل هذا الأسلوب بنفسي طيلة ممارستي المسؤولية بمختلف أنواعها، واستعملت معها ـ ما استطعت وبصدق ـ الاستراتيجية المعاكسة، وهي تجاوز الثناء مع الشكر عليه ومحاولة رفع السقف السياسي والفكري في الحوار في اتجاه المواضيع التي تنفع البلد بثقة تامة في النفس بحمد الله وعونه.

لا توجد هذه الظاهرة الاستيعابية بالمدح عند الحركة الإسلامية في الجزائر فقط، للأسف الشديد، بل صارت ظاهرة عامة عند أغلب الحركات الإسلامية التي "تعتبر" نفسها وسطية، ويمكن أن يضاف إلى المدح منح شيء من الامتيازات المعنوية والمادية التي تحافظ على المكاسب التنظيمية والوجاهة الاجتماعية تحت سقوف الأنظمة، المغايرة في العمق وفي المحصلة لسقوف مصلحة الأوطان.

إن الحاجة الملحة لجبهة القوى الاشتراكية التي ساعدت على نجاح المخطط هي العودة لمؤسسات الدولة بغرض حماية نفسها من القبضة الأمنية التي باتت مطبقة وتامة في منطقة القبائل وإنقاذ أعضائها من شبهة الانتماء لمنظمة "الماك" الانفصالية، وهي الحالة الخطيرة المشابهة التي وجدت فيها حركة مجتمع نفسها في سنوات المأساة الوطنية، فكانت المعالجة بنفس الاستراتيجية. وما من سبب رئيسي لإعادة تشكيل المجالس المنتخبة مبكرا الذي يُتحدث عنه كثيرا إلا لتعود إليها جبهة القوى الاشتراكية. علاوة على السبب المشترك وهو كسب حليف، مباشر أو موضوعي، يتم إدماجه في مؤسسات الدولة وبالمن عليه بإجراءات الرعاية السياسية والانتخابية والأمنية.

أما حركة مجتمع السلم، فإن الأولية القصوى بخصوصها بالنسبة للنظام السياسي هو تقليص أو إنهاء أثرها الشعبي الذي كان في اتجاه متصاعدبين 2013 ـ 2023 (والذي كان هو الضامن بعد الله  لوصولها للحكم في الوقت المناسب لو استمر)، ووضعها تحت الرعاية بأشكال متعددة وإدماجها لاحقا في الحكومة ضمن سياق مخادع يتلاءم  مع ثقافتها وبعض نصوص وثائقها، ولا هدف من ذلك سوى منعها من الاستفادة من التطورات الاقتصادية والاجتماعية المقبلة، ولكي تُعدمُ فرصُها للانتقال إلى الحكم يوما ما  لتطبق برنامجها وتطور بلدها،  أو لتمنع من الشراكة الفعلية في الحكم أبديا، وربما لكي يُتخلص منها كليا أثناء الأزمة المقبلة أو بعدها. وكل ذلك يندرج  ضمن مخطط دولي لتصفية ما بقي من الحركات الإسلاميةذات التجذر الشعبي، على نحو ما ذكرناه سابقا، لا سيما وأن كل القوى الإسلامية، بخصوص الجزائر، صارت تتنافس على رضا الحاكم والتقرب منه، ولم يبق خارج القبضة الرسمية سوى أفراد معزولين في مختلف الولايات ليس لهم قدرة على التأثير  في الوقت الحالي.

لا داعي للرجوع إلى الحديث عن الانتخابات الرئاسية لكي لا يُغيِّب الجدالُ العقيمُ الفكرةَ، رغم ما في تحليل العملية الانتخابية برمتها من دلائل على كل ما نقوله. نكتفي بالقول بأن النظام السياسي سيخلق مسارا مركبا لإشراك الجميع في السيناريو المعد مسبقا، يسميه الحوار الوطني، وقد يتم استعارة بعض أفكار ومفردات ومشاريع تنسيقية الانتقال الديمقراطي واجتماع مازفران الجماعية، ووثيقة التوافق الوطني لحركة مجتمع السلم، بل قد يتم الذهاب إلى تنظيم ندوة وطنية، أو ما يشبهها، والمُخرج سيكون قرار انتخابات تشريعية ومحلية مسبقة، و تشكيل حكومة وطنية سياسية، لتسيير الأزمة الاقتصادية والاجتماعية، وليس لحل الأزمة السياسية، التي عقّدتها أكثر من أي وقت مضى الانتخابات الرئاسية الأخيرة،   دون أي شرط لنجاح فعلي للانتقال الديمقراطي الذي لا ضامن له، بعد الله، سوى ميزان القوة بين المجتمع والدولة، وبين السلطة والمعارضة مثلما هي نماذج تجارب الانتقال الديمقراطي الناجحة في العالم.

هذا المكر الذي يخطط له المتحكمون في الأوضاع، لأسباب سلطوية وللتحكم في الرقاب، وليس لمصلحة الشعوب، ولكن مكر الله أعظم من مكرهم، ((والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون)) صدق الله العظيم.