انشغل العقل النهضوي كثيرا بقضية التقنية،
وثار نقاش كبير بين جيل الإصلاحيين الأوائل حول ضرورتها ودورها في التقدم، إذ
تباعدت وجهات النظر حول مبدأ حيادها، فكان عدد من الإصلاحيين، يميل إلى أنها صنعت
لخدمة المستعمر، وأن استيرادها وتوطينها، يقدم خدمة استخباراتية جليلة إذ يساعد
على انكشاف المسلمين ومعرفة أحوالهم، والاطلاع على أسرارهم، فكتبت كتابات كثيرة في
التحذير من أخطار المذياع وآلات التصوير والتلفون والتلغراف، وغيرها من المنتجات
التقنية التي أنتجها
الغرب، وساهمت في تقدمه والرفع من مؤشرات تنميته الاجتماعية.
وإذا كان بعض الدارسين للحالة الإصلاحية
المغربية مال في سياق مقارن إلى التمييز بين الفقهاء الجامدين والفقهاء المتنورين،
مستعينين في ذلك بفتاوى بعض الفقهاء الإصلاحيين بخصوص التقنيات الحديثة، مثل فتوى
محمد ابن الحسن الحجوي وابن المواز، مما نقله باستفاضة محمد المنوني في
"مظاهر يقظة المغرب الحديث"، فإن مثل هذا النقاش، الذي كان في الواقع
صدى لجدل الموقف بين تقدم الغرب وطابعه الاستعماري، فإن الوقائع على الأرض، أي
واقع تسارع دخول التقنيات إلى بلدان المسلمين، ثم أثر الكتابات التنويرية التي رصدت من واقع الرحلة والمعاينة تطور النموذج الغربي، حكمت على المواقف المعترضة على التقنية بعدم مواكبة العصر، فقد لعبت كتب
الرحلات إلى دول الغرب (رحلة الطهطاوي، وفارس الشدياق، والصفار، ومحمد بن الحسن
الحجوي، ومحمد كرد علي وغيرهم)، دورا أساسيا في الكشف عن أسباب التقدم الغرب،
وأهمية التقنية في تطوير حياة الأوربيين وتيسير مصالحهم.
يلاحظ محمد عابد الجابري في قراءته لخطاب
الإصلاحيين الأوائل توتر الموقف من الغرب في رؤيتهم، بين من ينحاز لجوانب التقدم
والتمدن، وبالأخص ما يتعلق بتطور التقنية، ومن يغلب الطابع الاستعماري الوحشي في
ممارسة الغرب وسياسته، ويفسر بذلك جزءا من الخلاف في نظرة هؤلاء إلى التقنيات
المستوردة من الغرب، ويقرأ عبد الله العروي في "الأصول الاجتماعية والثقافية
للوطنية المغربية" مواقف الفقيه في ضوء تسارع قوانين الحداثة وهجومها على كل
البيئات، وفقدان الفقيه لأرضه، أي جمهوره، بسبب الجاذبية التي تمثلها التقنية، وعدم
قدرة الجمهور على مقاومتها بمتابعة
رأي الفقيه الممانع لها.
توطين التقنية: الإمكان والأفق
بعيد الاستقلال الذي نالته الدول
العربية
والإسلامية، لم يعد سؤال المشروعية مطروحا في التعامل مع قضية التقنية التي أنتجها
الغرب، فقد تم تجاوز هذا السؤال، بسؤال آخر، لم يغادر الخلفية الثقافية التي حكمت
النقاش السابق، فقد كان السؤال المحير وقتها حول إمكان توطين التقنية، وهل
بالإمكان أن نتصور أن الغرب، الذي يتقدم بفضل التقنية، يمكن أن يسمح للتقنية أن
تتوطن في العالم العربي والإسلامي بالنحو الذي يصير به هذا العالم المغاير للخرب
أو الخصم له متقدما بنفس الوتيرة التي يتقدم بها الغرب.
قبل أيام، وقعت كارثة كبيرة في سياق العداون الإسرائيلي على لبنان، إذ أقدم الجيش الإسرائيلي على تفجير أجهزة البيجر ثم أجهزة "التولكي" "والكي" اللاسلكية التي تستخدم للتواصل سواء في المجال العسكري أو المدني، مفجرة بذلك نقاشا عموميا دوليا رفع سقف التخوف من التقنية عاليا، وأدخلت الشك لدى الجميع في سلامة وأمن الأجهزة التي يستعملها المواطنون في حياتهم الخاصة أو تستعملها مصالح الدولة في المجال المدني.
في المرحلة الأولى، لم يكن طموح النخب يتعدى
توطين التقنية التي يستفاد منها في المجال المدني فقط، لكن مع ذلك، لم تكن هذا
المسار بدون كلفة قيمية وثقافية وأيضا اقتصادية وسياسية.
في المستوى الأول، يمكن أن نقرأ في المراحل
الأولى الآثار التي أحدثها التلفزيون والانفتاح على القنوات الفضائية، فضلا عن
الانترنت، على المسألة القيمية والأخلاقية، إذ بدأت النخب تطرح سؤال السيادة
الثقافية، قبل أن ينتهي نقاشها إلى طرح سؤال الهوية، وهل هي موحدة أم متعددة، حتى
صار الانفتاح وتعدد الروافد في الهوية هو النتيجة التي تحكم واقع كل المجتمعات
العربية والإسلامية، بعد أن كان مشروع النخب بعد الاستقلال هو قضية الوحدة في
بعدها الثقافي والقيمي والسياسي والقومي. ثم وجدت النخب نفسها بفضل تواتر استنبات التقنية، أمام واقع آخر، فقدت فيه
أدوراها كنخب موجهة، لتظهر بذلك نخب أخرى مؤثرة، لا تحمل من مقومات النخب السابقة،
أي شيء ثقافي أو قيمي، بل أضحت الغريزة والتفاهة المقوم الأساسي لاستقطاب الجمهور
والتأثير فيه.
في المستوى الثاني، أي الاقتصادي، لم تكن
قضية التقنية تمر من غير شروط، فقضية التوطين كانت في الجوهر، تشترط وجود نخب
قادرة على تشغيل هذه التقنية والتعامل معها، مما استدعى معه، ربط نخب بمصدر
التقنية (البلد الأوربي) علميا وتربويا وثقافيا (الدراسة بالخارج)، وهو ما أنتج
واقع تبعية الاقتصاد للبلد المصدر للتقنية، بالشكل الذي صار معه من المتعذر تبني
فكرة تعدد المراكز وتعددها بما يسمح بهامش المناورة في إرساء سيادية الدولة
واستقلال قرارها الاقتصادي.
في المستوى السياسي، كان السؤال الأبرز الذي
طرحته النخب وقتها هو هل يسمح الغرب للدول العربية بامتلاك تقنية تدفعها نحو
الإقلاع؟ وهل من الممكن تبني نظرة تجزيئية إلى التنمية، أي الحصول على تقنية دون
أخرى، بما يجعل سقف التقدم في العالم العربي متحكما فيه؟
في الواقع، تعددت الإجابات النظرية بخصوص
هذا السؤال، لكن واقع الحال، أثبت أن الحصول على التقنية كان مشروطا بتبعية
سياسية، تجعل من حصول حالة التقدم بالشكل الذي كانت تطرح في الأدبيات النهضوية
(التقدم المشروع باستقلالية القرار) أمرا متعذرا، إذ أكدت وقائع تطور المجتمعات
العربية الإسلامية، في الكثير من التجارب، أن الطلب على التقنية فاق كل التوقعات،
فأصبحت ظاهرة "تكديس المنتجات" كما أشار إليها مالك بن نبي، فاقدة لكل
معنى بنائي نهضوي، وفي المقابل، سعت تجارب أخرى للتحايل على الغرب وإيجاد مساحات
مناورة، تستمد منها ما يمكن استمداده من التقنية المحظورة، فانتهى المطاف بهذه
الدول إلى أن عاشت تجارب الحصار بفضل رؤيتها التحررية (مصر، سوريا، العراق، إيران).
تقييم المرحلة، بمختلف مساراتها في التعاطي
مع التقنية، وسبل استجلابها، كشف معضلة جديدة، شغلت بال النخب لما عاينت سياسة
الغرب في توطين التقنية في الدول الثالثية، إذ أدركت أنه من الصعب النظر إلى موقع
التقنية من التقدم من غير استحضار البعد الثقافي والقيمي في الموضوع، ومن غير حضور
رؤية سياسية تضع التقنية ضمن مشروع وطني مستقل.
التقنية والمعطيات الشخصية
مع ظهور المخترعات الذكية، وبشكل خاص،
الهواتف والآلات التقنية المنزلية الذكية، ومواقع التواصل الاجتماعي، طرح سؤال
جديد، يتعلق المعطيات الشخصية، وكتبت كتب كثيرة تحذر من أدوار هذه المخترعات في
جمع المعطيات الشخصية، وتوزيعها عبر الخوادم المركزية (BIG DATTA) لأهداف استخباراتية بالنسبة للشخصيات
العمومية، او أغراض تجارية، بالنشبة للشركات التي تستثمر هذه المعطيات في
الإعلانات الإشهارية.
فكتب كل من مارك
دوغان، وكريستوف لابي كتابا بعنوان: "الإنسان العاري: الديكتاتورية الخفية
الرقمي" يحذران من الآثار التي خلفتها الثورة الرقمية، لاسيما ما يتعلق
بالحياة الخاصة للإنسان والحميمية والهوية واللغة. وبدلا من التقليل من دور
"الافتراضي" في حياة الناس، أصبح هذا العالم الافتراضي هو العالم
الحقيقي، بينما أصبحت مساحات العالم الحقيقي محتلة ومهيمنة عليها من قبل مختلف
الآليات التي أنتجتها الثورة الرقمية. ففي الوقت الذي كان يظن فيه الناس أن الثورة
الرقمية جاءت لتعظم سلة المكاسب بفضل تقريب المعلومة وسرعة الوصول إليها فضلا عن
معالجتها وتداولها، وتقريب المساحات وتسريع وتيرة التواصل ونوعيته، انقلبت الأمور
رأسا على عقب، فأصبحت هذه المساحة الإيجابية لا تستثمر إلا بنحو محدود، بالقياس
إلى التهديد الذي أصبحت يشكله العالم الرقمي للحميمية والحياة الخاصة والحرية
واستقلال الشخصية وحسها النقدي، فحسب هذا الكتاب، أضحى الإنسان، أمام هيمنة مخرجات
الثورة الرقمية عبدا أمام حفنة من الشركات المتعددة الجنسيات التي تتحكم في
الصناعة الإلكترونية في الولايات المتحدة الأمريكية.
كما كتب روبير ريديكير يحذر في "شبكات
التواصل الاجتماعي"، من السلط الرهيبة التي أضحت تمثلها هذه الشبكات، والمدى
البعيد الذي وصلت إليه أهدافها، لاسيما ما يتعلق بتأثيرها على مسار الدولة
الحديثة، أو على كينونة الإنسان وجوهره الإنساني، وسعيها نحو تغيير معناه
ورهاناته، وطمس المعنى الروحي الجواني فيه، وتحويله إلى جسد عاري مكشوف الظاهر
والباطن، وقتل حياته الخاصة والحميمية، وتدميرها لخصوصية المنزل، وانتصارها
للفوضى، وقتلها للانتماء، وإنهائها لمفهوم الرأي العام، وتحولها إلى تنين يبتلع
الدولة.
وبدل أن تقوم التقنية بالدور الاستخباري
التقليدي، تحول مستهلكوها جميعهم (أي المجتمع) إلى أدوات في خدمة الوشاية، فالمتصل
في شبكات التواصل الاجتماعي يتحول إلى خادم واشي، لا يكتفي فقط بتقديم الوشاية ضد
الناس، بل يتحول نفسه إلى موضوع للوشاية، ويسمح للأجهزة الذكية باختراق أسراره
ونقل خواصه المضمرة إلى الخوادم العملاقة، فيحيطها علما بأي نوع من الأكل يحب، وأي
نوع من وسائل النقل يريد أن يستقل، وفي أي المطاعم يرتاح أن يأكل فيها، والجهات
التي يحبذ السفر إليها، والأشخاص الذين يحب التفاعل معهم، والأشخاص الذين يكره التواصل
معهم، والأفلام التي يحب مشاهدتها، والتي يحلو له الخلوة معها حين ينفرد بنفسه.
على أن الأمر لا يقتصر فقط على الهواتف
النقالة أو الحواسيب المجهزة بالكاميرات والشاشات التلفزيونية الذكية، بل يشمل كل
الأجهزة الذكية التي يحرص الإنسان على شرائها ووضعها في مطبخه أو حمامه أو غرفة
نومه.
وتمتد مهمة الوشاية لأكبر من مجرد الإخبار
عن الذات وعن الآخرين، بل تتحول إلى تقديم معطيات لا يرغب الآخرون أن تنشر عنهم في
سياق تصفية الحسابات أو التعليق على التدوينات والتغريدات، فيتحول التعليق على
موضوع يتضمن أفكارا للنقاش العمومي، إلى فضاء لتدمير الآخرين ونشر أخبار صحيحة أو
زائفة عن سلوكات أو معلومات أو أسرار لا يريد المستهدفون بها أن يظهر الناس عليها.
كارثة تفجير البيجر أو التقنية حين تهدد
سلامة المجتمع وأمنه
قبل أيام، وقعت كارثة كبيرة في سياق العداون
الإسرائيلي على لبنان، إذ أقدم الجيش الإسرائيلي على تفجير أجهزة البيجر ثم أجهزة
"التولكي" "والكي" اللاسلكية التي تستخدم للتواصل سواء في
المجال العسكري أو المدني، مفجرة بذلك نقاشا عموميا دوليا رفع سقف التخوف من
التقنية عاليا، وأدخلت الشك لدى الجميع في سلامة وأمن الأجهزة التي يستعملها
المواطنون في حياتهم الخاصة أو تستعملها مصالح الدولة في المجال المدني.
التحقيقات الأولية تتحدث عن شركة وهمية في
المجر، تم منحها الترخيص من الشركة التايوانية الأم بإنتاج هذه الأجهزة، فوضعت تحت
البطارية 20 غراما من المتفجرات، مع إحداث تغيير تقني في الدائرة الإلكترونية التي
تحكم عمل البطارية، بالشكل الذي يسمح بوصول درجة حرارتها لسقف يتجاوز المعتاد، بما
يسمح بتفجرها ثم انفجار المادة المتفجرة تحتها، وتعريض حياة المستعلمين للخطر.
المجتمع الذي قبل أن تكون التقنية، معبرا لهيمنة ثقافة الآخر، وثقافته وقيمه، بل وقبل كرها أن تصير التقنية أداة لهدم هويته ومرجعيته، ووحدة وتماسك مكونات المجتمع، سيصير أمام واقع قبول تقنية تنهي حياته وتهدد سلامته الشخصية، دون أن تكون له القدرة على مجرد مناشدة مؤسسات دولية تسعفه في رفع التهديد الوجودي عنه.
الواقعة كما تبدو في الظاهر لها علاقة
بالحرب، لكنها تثير مشكلة قانونية خطيرة، تتعلق بشرعية هذه الممارسة بالنسبة إلى
الشركات، وأثرها على مستقبل التقنية، ومخاطر تنامي الشك من تأثير المنتجات التقنية
على حياة الناس وسلامتهم، إذ يمكن في أي لحظة، أن تستعمل التقنية كأداة حرب، ضد أي
دولة ما، ما لم يتم احترام الأطر القانونية الدولية لمتعلقة بسلامة المنتجات
التقنية المصدرة من أي تهديد للأمن وسلامة المستعلمين.
في الواقع، لا تملك المجتمعات المستهلكة كل
المعطيات عن التقنيات والأجهزة التي تستهلكها، في حين يحتفظ مصنعوها بالكثير من
الأسرار عن وظائفها الأخرى، فإذا كان العالم اليوم، يدرك بأن هذه الأجهزة أضحت
وسائل مرنة لجمع المعطيات الشخصية واستعمالها بشكل غير قانوني، وتغيير الثقافات
والقيم، والتحكم في الأمزجة، وربما تغيير الأنظمة السياسية، فإنها إلى حد اليوم لا
تزال تجهل الأبعاد العسكرية والأمنية فيها، وكيف يمكن أن تستخدم في لحظة من
اللحظات ضد حياة الأفراد وسلامتهم.
الخلاصة:
التحدي المطروح اليوم، لخلق نوع من
الطمأنينة حول سؤال الأمن والسلامة في استعمال التقنية، هو النتائج النهائية التي
سيقدمها التحقيق حول الكيفية التي تم فيها تفخيخ أجهزة اللاسلكي من قبل إسرائيل في
لبنان، ثم المدى الذي يمكن أن تبلغه التحقيقات الدولية بهذا الخصوص، والآثار
القانونية والسياسية التي يمكن أن ترتب على الفاعل الإجرامي الذي حول التقنية إلى
سلاح حربي، فأي قصور عن الفهم التقني، وأي
تراخ أو عجز عن ترتيب الآثار القانونية والسياسية، سيبقي سؤال علاقة التقنية
بالأمن والسلامة بالنسبة للأفراد والمجتمعات، سؤالا جديا محفوفا بكثير من الشكوك،
وسيعيد إلى المخيال الاجتماعي، غلبة الطابع الاستعماري في تقاسم الغرب للتقنية التي ينتجها، فالمجتمع الذي قبل
أن تكون التقنية، معبرا لهيمنة ثقافة الآخر،
وثقافته وقيمه، بل وقبل كرها أن تصير التقنية أداة لهدم هويته ومرجعيته، ووحدة
وتماسك مكونات المجتمع، سيصير أمام واقع قبول تقنية تنهي حياته وتهدد سلامته
الشخصية، دون أن تكون له القدرة على مجرد
مناشدة مؤسسات دولية تسعفه في رفع التهديد الوجودي عنه.