قضايا وآراء

هل على الفلسطيني إعلان الهزيمة؟

في زمن الاستبداد والطغيان والتخاذل تنقلب المُصطلحات رأسا على عقب، فيصبح الاستسلام لدى البعض فضيلة، بل ويروج لها- الأناضول
تُشير بعض المصادر التاريخية أنه وخلال العقود الثلاث الأولى فقط من الاستعمار الفرنسي للجزائر (1830-1860) فإن ثلث الجزائريين قد قتلوا بسبب الاستعمار الفرنسي. فمن أصل حوالي ثلاث مليون جزائري قتل ما يقارب من المليون. لكن حرب التحرير الجزائرية ضد المُستعمر الفرنسي انتهت بعد 132 عاما بهزيمة فرنسا واضطرارها للخروج من الجزائر. لم تكن التجربة الجزائرية وردية وسلمية واستسلاميه، بل أن مجرد القراءة فقط عما فعله الفرنسيون من فظائع وقتل وتشريد وتعذيب وتطهير عرقي يستصعب على العقل استيعابها. لعل بعض "المثقفين" آنذاك قالوا "لو تستسلم الجزائر" أو "لم نقاتل قوة عظمى لا طاقة لنا بالانتصار عليها؟!" أو "سامح الله من قاتل فهم قد جلبوا البلاء والقتل والدمار لنا." لكن الأمور لا تحسب بهذا الشكل.

لا ريب أن مثل هذه الأصوات موجودة في كل وقت وحين. أصوات بعيدة عن الفهم الاستراتيجي العميق لكيفية التغيير ونيل الحقوق والتحرر من الاستعمار الداخلي والخارجي. ربما يحرك البعض العاطفة ومن منا لا يتأثر بذلك. لكن في الآونة الاخيرة خرجت أصوات - نعتبرها شاذة - تُنظّر على الفلسطيني وتقول بشكل مباشر أو غير مباشر "أعلنوا أنكم انهزمتم." لذلك فالسؤال هل يجب على الفلسطيني أن يعلن أنه انهزم أو بعبارة اخرى، هل أخطأ الفلسطيني عندما صمد وقاوم الاحتلال الإسرائيلي؟

لنعد بالتاريخ قليلا، النكبة وهي من أهم مفردات القضية الفلسطينية لارتباطها بـ المصيبة والكارثة التي حلت بفلسطين وأهلها حيث هجّر حوالي نصف الشعب الفلسطيني وتفكك المجتمع الفلسطيني سياسيا واقتصاديا واجتماعيا بل وخسر الفلسطينيين معظم مدنهم وقراهم وعمقهم التاريخي والاستراتيجي والحضاري. فإن من أحد معاني النكبة هو إعلان الهزيمة التي حلت بهم.

لذا، يمكن أن  نسأل، هل عندما سَمّوا أهل فلسطين ما حل بهم من إبادة جذرية بـ "النكبة" أو لنقول "الهزيمة" أعيدت لهم أرضهم وحقوقهم؟ وهل عاد اللاجئون الفلسطينيون بعد إعلان هذه الهزيمة إلى بلادهم؟ أم ظلوا لاجئين؟ وهل أعاد الاسرائيلي إعمار أكثر من 530 قرية ومدينة وخربة التي قام بتدميرها بشكل كامل في فلسطين التاريخية؟ أم أنهم بقوا في الشتات بعد هذه النكبة أو الهزيمة لأكثر من سبع عقود ونصف.

لعل من يطلب من الفلسطينيين إعلان الانهزام والاستسلام أمام الإسرائيلي هو جاهل بطبيعة العدو الصهيوني التوسعي والإحلالي. إن الصراع مع الكيان الصهيوني هو صراع وجودي. وهو قائم على معادلة صفرية، إما أن يكون الاسرائيلي أو الفلسطيني. مقولات الصهاينة وأفعالهم قديما وحديثا واضحة وصريحة وتسبق تأسيس دولتهم، بل ودالة على هذا الصراع الوجودي الذي لا يوجد به طرفان بل طرف واحد فقط. فعلى سبيل المثال لا الحصر، يصرح ديفيد بن غوريون في عام 1938 في خطاب له أمام اللجنة التنفيذية للوكالة اليهودية: "أنا أؤيد الترحيل القسري، ولا أرى فيه شيئاً غير أخلاقي". وهذا الخطاب بطبيعة الحال سبق تأسيس دولة إسرائيل بحوالي عشر سنوات.

إن الصراع مع الكيان الصهيوني هو صراع وجودي. وهو قائم على معادلة صفرية، إما أن يكون الاسرائيلي أو الفلسطيني. مقولات الصهاينة وأفعالهم قديما وحديثا واضحة وصريحة وتسبق تأسيس دولتهم، بل ودالة على هذا الصراع الوجودي الذي لا يوجد به طرفان بل طرف واحد فقط.
أما الأفعال الإسرائيلية في فلسطين قديما وحديثا وخصوصا في قطاع غزة فهي تعبير واضح وصريح لهذا المشروع الاحلالي التوسعي والذي يرفض وجود الفلسطيني. بل ويرفض تسمية الفلسطيني بأنه فلسطيني. لذا، الاسرائيلي يستخدم كلمة عربي بدلا من فلسطيني. فكيف لمن لا يقبل بتسمية الفلسطيني بأنه فلسطيني يُمكن أن يقبل به وبحقوقه ويعترف بدولة فلسطينية؟!

ولعل من يطلب من الفلسطينيين إعلان الاستسلام أمام الاسرائيلي والعالم، هو ايضا جاهل بطبيعة الشعب الفلسطيني والتكوين التراكمي الذي مر به هذا الشعب. من الواضح أن سكان قطاع غزة تحملوا ما لا تستطيع دول عظمى تحمله، ولا شك لو أن هؤلاء لم تَصقل النكبة والحصار والفصل العنصري فكرهم وصمودهم لخرجوا من قطاع غزة في الأيام الأولى لهذه الإبادة الجذرية. لكن العقود الماضية كانت عبارة عن مدرسة تُصقل فيها هوية هذا الشعب الصامد والمرابط الذي لا ولن يقبل بأن يهجر كما حصل معه في النكبة عام 1948.

يجب الإشارة أن الاستسلام وإعلان الهزيمة يعني إعطاء الاسرائيلي والأمريكي الهيمنة الكاملة والتسيد المطلق على الفلسطيني. هذا بطبيعة الحال يعني أن الفلسطيني والمقاوم الفلسطيني خصوصا رضي بالتطهير الجذري والترحيل والقتل والتشريد. وهذا يعني أنه قبل أن يكون عبدا مُطيعا تحت تصرف الاسرائيلي، لكننا يمكن أن نقول أن الشعب الفلسطيني عنده عزة وشهامة وصمود لا يقبل بأن يكون إلا صامدا أو مقاوما. والدليل أنه ومنذ بدأ الطوفان فإن معظم من هاجر هم الإسرائيليون وليس الفلسطينيون. حيث تشير بعض الاحصائيات الى هجرة أكثر من نصف مليون اسرائيلي منذ بداية طوفان الاقصى.

فبدلا من لوم الجاني يتم اتهام الضحية. بالأصل يجب دعوة إسرائيل إلى إعلان فشلها في هذه الحرب. فاستخدام العنف لم يعد نافعا بعد الطوفان كما كان قبله. إسرائيل لأول مرة تُهاجم ولأول مرة تخسر هذا العدد من الجنود والضباط والألوية. إسرائيل لأول مرة منذ إنشائها تفشل عسكريا واستخباراتيا واستراتيجيا. إضافة إلى انهيار الهازبرا (الدعاية الإسرائيلية) بشكل كبير. ويمكن إضافة التراجع الأخلاقي والسياسي والاقتصادي لهذه الدولة. في المقابل فإن أكثر من 90% من المظاهرات العالمية تخرج لتأييد القضية الفلسطينية وأصبحت فلسطين هي قضية رمزية ومركزية عالميا. بكلمات أخرى قبل وبعد الطوفان الفلسطيني يخسر ويقتل ويهجر لكن الإسرائيلي لأول مرة أصبح يعاني ويفقد الأمن والأمان. هذا بحد ذاته انجاز لم تستطيع جميع الدول العربية تحقيقه بحروبها مع إسرائيل في الماضي.

يبقى أن نقول إنه وفي زمن الاستبداد والطغيان والتخاذل تنقلب المُصطلحات رأسا على عقب. فيصبح الاستسلام للبعض فضيلة، بل ويروج لها، والمقاومة رذيلة ويلام من يقوم بها ويدعو لها. وتصبح المداهنة صفة تدل على الذكاء والحكمة، والصلابة والإصرار على الحقوق سذاجة. حتى أن البعض يدعوا الفلسطيني بالاعتراف بالهزيمة أمام الإسرائيلي وكأن ذلك من العقلانية والحكمة التي سوف تنقذ الشعب الفلسطيني وتنهي الصراع الوجودي بين كيان احلالي توسعي لا يعرف بحدود وبين شعب هُجر وقتل ودمر. 

*أستاذ مساعد في قسم العلوم السياسية والعلاقات الدولية بجامعة إسطنبول صباح الدين زعيم.