انعقد في استانبول في مطلع هذا الشهر اللقاء الثالث لمنظمة ملتقى الحوار
العربي ـ التركي، وهي منصة غير رسمية للتعاون الثقافي والفكري بين الأمتين العربية والتركية. مثل اللقاء انطلاق العمل المشترك إثر لقاءات تأسيسية سبقته، وحضره مثقفون وإعلاميون وأكاديميون من الطرفين في أجواء من التفاءل والطموح الكبيرين.
هذا يوم مشهود في حياة العرب والأتراك، فما سبقه كان باهظ الثمن في حسابات العلاقات بين الأمتين، ورغم أن الهدم سهل والبناء صعب، غير أن الذين بدلوا نمط تعايشنا (قبل قرن من الزمان) بذلوا جهداً عظيماً وأعواماً طوال وهم يفكرون كيف سيفككون ذاك النمط وما البديل الذي سيحلونه محله وهو نهج استراتيجي قويم حصدوا نتائجه الثمينة. عُرفت تلك العملية بـ ‘المسألة الشرقية’ وهي التي أطلقها الغرب في القرن التاسع عشر لتفكيك الشرق الإسلامي، فلا أقل من أن يأتي جهد البناء مكافئاً لجهد الهدم إن لم يتفوق عليه.
سيسجل التاريخ أن الأتراك والعرب جددوا العزم ـ كعادتهم ـ إثر الكبوات على لملمة صفوفهم، وتداعوا إلى اجتماع في استانبول يتدبرون فيه شؤونهم وعلى بعد مئات الأمتار من المكان الذي شهد انطلاق آخر فعالية استراتيجية إقليمية بينهم كانوا قد تصرفوا فيها ككتلة سياسية ذات هوية إقليمية، وكانت تلك المرة الأخيرة التي تعامل فيها العالم معهم ومع منطقتهم على هذا الأساس قبل أن تغادر المنطقة إطار الكتلة وتفقد الهوية الإقليمية. كانت أمم الأرض في تلك اللحظة التاريخية تصطف في طابور التكتلات الإقليمية، في حين قررنا نحن العرب والأتراك السير في اتجاهين متعاكسين بثمن باهظ يتكشف لنا اليوم وهو فقداننا للعمق الأمني المشترك والانكشاف الاستراتيجي لمجتمعاتنا على حد سواء. المكان المشار إليه هو محطة قطار حيدر باشا والفعالية هي سكة قطار الحجاز.
وصفت المؤسسات المالية وشركات السكك الأوربية المشروع بأنه ضرب من الخيال، وأن الدولة العثمانية المثقلة بالديون لن تقدر على تمويله. لكن شعوب المنطقة كانت تفكر بطريقة مختلفة. قليلون اليوم الذين يعلمون أن الخط أنجز بتبرعات المسلمين وصدقاتهم الجارية وحليّهم التي انهالت على استانبول من طنجة إلى الهند، وأن الذين اخترق الخط مزارعهم رفضوا قبول تعويضات مالية، وأن جنود الجيش العثماني تبرعوا بأوقاتهم في أعمال الإنشاء، وأن العائلة العربية كانت تحرص على أن يخلف الإبن أباه في وظيفته في شركة الخط لقداسته في نظرها. توقع الخبراء الأوربيون استحالة إنجاز أكثر من 100 كيلومتر في العام لكنه وصل إلى 288 كيلومترا وتم إجاز المشروع في 3 سنوات.
مثّل المشروع كيمياء اجتماعية وثقافية وسياسية بين شعوب المنطقة، وما قامت به الشعوب حينئذ هو ما تسميه القواميس الحديثة اليوم القطاع الثالث، أي أنه قطاع حاضر في ثقافتنا قبل أن تكتشفه المجتمعات الحديثة.
تمر منطقتنا اليوم في حقبة ‘صراعات بالنيابة’ proxy war، وهي أكثر أنواع الصراع تحدياً للدولة ولآلياتها، يصحبها تراجع للدولة ولمفهوم المواطنة على نحو لم تعرفه المنطقة منذ الحرب العالمية الأولى التي تمخضت عن استبدال مفهوم المواطنة القُطري بالإقليمي والذي يستبدل بعد تسعة عقود بالمفهوم الطائفي أو بما هو دونه مهدداً البنية الاجتماعية للمنطقة لأول مرة منذ تمصيرها في الفتوحات الإسلامية، ما يمكن اعتباره فصلاً ختامياً ‘للمسألة الشرقية’.
تستدعي ‘الحروب بالنيابة’ اصطفافاً ثقافياً جماهيرياً إلى جانب الدولة ـ أينما وجدت هذه الدولة ـ وإلى جانب آلياتها غير المهيأة لهذا النوع من التحدي. لقد باتت
تركيا اليوم الدولة الأخيرة في المنطقة التي تجتمع فيها مؤهلات الذود عن أمن إقليمي مهدد وبنية اجتماعية إقليمية معرضة للتمزق.
إننا بصدد سكك ثقافية ترتق كياننا الاجتماعي وتملأ فراغاً ثقافياً بائناً، فالمجتمع المتعافي هو مهد النهضة.
تركيا بحاجة حقيقة إلى اصطفاف ثقافي مُساند لها في البيئة التي تعود إليها بعد انقطاع طويل وتجد فيها من يضع العصي ـ بيسر شديد ـ في دواليبها ويفسد دوراً مناطاً بالدولة الإقليمية يقع على عاتقها. والسبب هو غياب وعي إقليمي جماهيري مدرك لدور دولة يشترك شعبها معه بالدين والتاريخ والمصير، وخط دفاع أخير يحفظ له نمط عيشه الاجتماعي. هذا الانقطاع له بالمقابل أثر ملموس على طبيعة نظرة الشارع التركي إلى العمق الاستراتيجي الطبيعي لدولته والذي هو الجغرافيا العربية. هذه النظرة لا زالت غير مكتملة، ولا زال هذا الشارع يتفاعل مع مواجع شقيقه الشارع العربي ولكن ضمن إطار العواطف وليس الاستراتيجيات.
إن الوقت ليس في صالح المنطقة، وهذا الاصطفاف لن ينجز من طرف واحد، أي أن تركيا لن تقدر على إنجازه لوحدها، وآلياته ليست جاهزة، وإيجادها ليست مسألة خاضعة للاختيار. الحوار بين الأمم عنوان كبير يسلب الباب الشعوب، ومن طباع الشعوب تعليق آمالها العريضة على كل عنوان جديد وغير مستهلك. إن مشروعنا هذا عنوان جديد وأرض بكر، لكن الشعوب تهمل ولا تمهل، ولا يسع هذا المشروع أن تتعثر آلياته ويتبدد رصيده الزمني المتراكم وأن يلتحق بعناوين مضت.
ليست المهمة بالسهلة، ولكن الشعوب ستتدافع لانجازها (كما تدافعت على سكة الحديد) حينما توضع الفرصة أمامها، حينها تستفز كيمياؤها الهامدة وتتفجر طاقاتها كما تفعل الذرة الساكنة حين تمتد إليها يد الفيزيائي.
ليس أمام العربي المحب لتركيا اليوم وسيلة تعبر بها جوارحه عن مشاعره أكثر من تحويل رؤوس أمواله من سويسرا إلى استانبول أو الإعراض عن منتجعات أوربا في موسم الاصطياف ومجاورة استانبول ومآذنها واستنشاق عبقها، هذا لمن يمتلك المال، أما الآخر فتخونه الحيلة ويقعد محسورا، رغم أن في مكنونه خزينا هائلا من عناصر التعبير التي لا يهتدي إليها بمفرده، والمسؤولية هي مسؤوليتنا نحن المثقفين الذين يفترض أننا أدلاء الجمهور على مكامن النبض. وأحد هذه المكامن هو الإرشيف العثماني الذي هو بمثابة الـ DNA (خريطة الصفات الوراثية) لكيان اجتماعي راقٍ مضى تنعيه الشعوب اليوم ويراد استنساخه، وهو إجابات حول تساؤلات اجتماعية سهلة لكنها محيرة.
لقد أوجد الانسجام التاريخي العربي التركي مظلة سياسية واجتماعية أوت إليها المكونات العرقية والدينية المختلفة في المنطقة، وكانت بيئة حافظت فيها الأديان والأعراق على خصوصياتها وأنماط عيشها. إن استعادة العلاقات العربية التركية لعافيتها هي عودة للخيمة الاجتماعية الكبيرة.
لابد أن يتبع هذا الاجتماع تواصل جاد، وآليات تضمن ظهور نتائج يستبشر بها الجمهور الإقليمي ويلتف حولها، وتضيف لوناً جديداً إلى ألوان الطيف الثقافي في المنطقة معلنة بداية عهد جديد.
* باحث في العلاقات الاستراتيجية العربية - التركية
(المصدر: صحيفة القدس العربي)