كثير من بلاد الشرق والجنوب – وفيها البلاد الإسلامية – حصلت على
الاستقلال بعد الحرب العالمية الأولى، لكن أغلب هذه البلاد قد وقفت عند الاستقلال الشكلي – استقلال العلم والنشيد وعضوية الأمم المتحدة – ولم تحقق الاستقلال الحقيقي، الاستقلال الحضاري، استقلال الفكر والعقل واستقلال الاقتصاد واستقلال القرار السياسي، ولذلك ظلت هذه البلاد مربوطة برباط التبعية إلى المركز الغربي الذي انسحبت جيوشه من تلك البلاد بينما ظلت هيمنته الاقتصادية وغزوه الفكري تشد هذه البلاد إلى هذه الهيمنة الغربية بقيود ناعمة لكنها أشد بأساً من قيود الحديد.
والذين يفقهون الأبعاد الحقيقية التي صنعها الإسلام منذ ظهوره في حياة الأمة يدركون معنى الاستقلال الحقيقي الذي أثمره التدين بهذا الدين، لقد بلور أمة امتلكت دولة، حررت الشرق من قهر سياسي وحضاري واقتصادي وثقافي إغريقي وروماني دام عشرة قرون فقامت في الشرق حضارة متميزة جعلت منه العالم الأول على ظهر هذه الأرض لأكثر من عشرة قرون.
ولقد تفاعلت هذه
الحضارة مع كل المواريث الحضارية في ما هو مشترك إنساني عام، مع الاحتفاظ باستقلالها العقلي والسياسي والاقتصادي الذي هو جوهر الاستقلال.
ولقد أدرك علماؤنا الذين نظروا نظرة فلسفية لمعنى الاستقلال – ومنهم الإمام الشيخ محمود شلتوت (1310 – 1383هـ / 1893 – 1963م) هذه الحقيقة فكتبوا عن ضرورة الاستقلال العقلي الذي يحرر المسلمين من الغزو الفكري معتبرين ذلك هو السبيل إلى زعامة الأمة لأن سبيل أمتنا إلى الزعامة هو مقاومة الفكر الوافد إلينا عن طريق الاستشراق والإلحاد، هذا الفكر الذي من شأنه أن يزعزع القيم الإسلامية في النفوس وأن يمزق وحدة المسلمين والعرب عن طريق الغزو العقلي والاستعمار القلبي.
وإن من يتتبع تاريخ الغزو الاقتصادي والسياسي لا يكاد يجده إلا نتيجة وأثرا لهذه الغزو العقلي الذي يملك على الناس قلوبهم ويصرفهم عن أنفسهم إلي ما يريد.
ولا يظن ظان أننا بهذا نسد على أنفسنا مجال الانتفاع بما قد يكون من نتائج البحث الأجنبي الدقيق في مظاهر الحياة العامة ووسائلها، فنحن نفسح أمام أنفسنا مجال ذلك والإسلام يدفعنا إليه.
وإن محمد بن عبد الله – عليه صلوات الله وسلامه – لم يتجه إلى مكافحة الغزو السياسي والاقتصادي في بيئته إلا بعد أن تمت له مكافحة الغزو العقلي والقلبي فيها، عن طريق محو الشرك والوثنية، وعن طريق الإيمان بالله وحده، وحينما تمت له مكافحة هذا الغزو القلبي، اتجه بالإيمان نفسه إلى مكافحة الغزو السياسي، حفظا لشخصية الجماعة وحفظا لمبادئها في النفوس.
واتجه كذلك إلى مكافحة الغزو الاقتصادي عن طريق منع الاستغلال والاحتكار والطغيان المالي، ولذلك قرر علماء الإسلام أن كل ما لا يستغنى عنه في قوام أمور الدنيا فتعلمه ووجوده من فروض الكفاية، ومن ذلك أصول الصناعات، مما هو ضروري أو كالضروري، ويسر الحياة ورفع الحرج عن الناس، فإذا لم يتحقق ذلك في الأمة كلها أثمت الأمة كلها.
وليس من ريب في أن أساس هذه الفريضة هو العمل على تحقيق المبدأ
الاسلامي الذي يوجبه الإسلام على أهله، وهو مبدأ استقلال الجماعة الإسلامية في تحقيق ما تحتاج إليه من الضروريات والحاجيات، فيما بينها، وبيد أبنائها، دون أن تمد يدها إلى غيرها من الأمم، وبذلك لا تجد الأمم الأخرى ذات الصناعات والتجارات سبيلا إلى التدخل في شئونها، فتظل محتفظة بكيانها وعزتها، ونظمها وتقاليدها وخيرات بلادها.
وكثيرا ما اتخذ هذا التدخل سبيلا لاشتراك الدول الأجنبة في إدارة البلاد وتنظيمها واستعمارها استغلالا لحاجتها في الصناعات والتجارات.
وإذا كان من قضايا العقل والدين أن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وكانت الحياة متوقفة على هذه العمد الثلاثة: الزراعة والتجارة والصناعة، كانت هذه العمد الثلاثة واجبة، وكان تنسيقها على الوجه الذي يحقق خيرها واجبا.
لقد حقق الإسلام – منذ ظهوره – استقلال الشخصية المسلمة، وكانت عناصر هذا الاستقلال هي: استقلال العقل واستقلال السياسة واستقلال الاقتصاد، وما كان ذلك كله إلا بفهم القرآن والاتصال بالحياة الواقعية وهذه هي قمة المجد وطريق السؤدد.
هكذا طرقت عبقرية الشيخ شلتوت هذا الميدان الهام، ميدان الاستقلال الحضاري، الذي هو الاستقلال الحقيقي للأمم التي تفقه معنى الاستقلال.