دعوة إلى "حوار استراتيجي"، هي العبارة التي شدت الاهتمام، والتي استعملها وزير الخارجية الأمريكية جون كيري خلال زيارته الفجئية إلى
تونس. قال كيري بأن الرئيس أوباما يوجه دعوة لرئيس الحكومة المؤقت مهدي جمعة إلى زيارة واشنطن من أجل إطلاق ما وصفه بأول حوار استراتيجي بين البلدين. فما هي أبعاد هذا الحوار ودلالاته؟
جاءت هذه الزيارة العاجلة في أعقاب عدة أحداث لا مفر من استحضارها، حتى ندرك جانبا من الخلفيات والأبعاد.
لم يكن التوقيت بريئا، فوزير خارجية أقوى دولة في العالم لا يملك فسحة واسعة من الوقت ليقضيه في زيارات بروتوكولية لا تحمل خلفية ولا تساعد على حماية مصالح محددة. لقد جاءت هذه الزيارة في أعقاب حدثين هامين: أولهما انتهاء تونس من كتابة دستورها الجديد. وقد جاء هذا الدستور منسجما مع مبادئ الدول الديمقراطية، وذلك حين ضمن الحريات وحقوق الإنسان. وقد كانت واشنطن في طليعة الدول الغربية التي باركت هذه الخطوة ومدحتها بقوة على لسان ساكن البيت الأبيض ومساعديه.
أما الخطوة الثانية فقد تمثلت في تعيين حكومة تكنوقراط بدلا عن الحكومة التي كانت تقودها حركة
النهضة. وهي أيضا خطوة دعمتها الإدارة الأمريكية من زاويتين: الأولى باعتبارها الحل الأمثل للأزمة السياسية التي كادت أن تجهض المسار الانتقالي، وهو ما حرص عليه السفير الأمريكي من خلال تحركاته المكثفة من أجل إقناع جميع الأطراف بأن تغيير الحكومة أصبح ضرورة. وهذا يعني أن الأمريكان لم يعودوا مثل الأوروبيين مقتنعين بجدوى بقاء حركة النهضة في السلطة. اما السبب الثاني للترحيب الأمريكي، فيعود إلى شخصية رئيس الحكومة الجديد مهدي جمعة الذي يحظى بثقة الأوساط الغربية ومؤسسات التمويل الدولية. وقد رأت هذه الأوساط في تعيينه فرصة لإخراج مرحلة الانتقال في تونس من المأزق الذي تردت فيه، خاصة خلال السنة الأخيرة التي كانت فيها البلاد أشبه بزورق تتقاذفه موجات البحر الهائج.
لقد عرفت العلاقات بين حركة النهضة والولايات المتحدة الأمريكية تقلبات عدة منذ ان انطلقت في وقت مبكر يعود الى مطلع الثمانينات من القرن الماضي. وعندما حصلت الثورة، كثفت الحركة من اتصالاتها بواشنطن لتهيئ الأجواء الإيجابية في صورة انتصارها في الانتخابات، لأنها كانت تخشى من وجود فيتو أمريكي. وفي المقابل كانت الدوائر الأمريكية قد بدأت تعدل عقارب البوصلة في اتجاه القبول بوصول الإسلاميين الى الحكم في دول
الربيع العربي. وعندما جاءت النتيجة لصالح حركة النهضة التي سارعت بتقديم نفسها كطرف وحيد مرشح لتشكيل الحكومة، تعاملت واشنطن إيجابيا مع نتائج الانتخابات، وأعلن البيت الأبيض بأنه يحترم إرادة الشعب التونسي، ويدعم من تم اختيارهم بشرط احترام الحريات العامة.
كان الأمريكيون يستحضرون في ذلك تجربتهم مع حزب العدالة والتنمية التركي، خاصة وأن راشد الغنوشي كان ولا يزال يقدم حركته باعتبارها الأكثر تعلقا بذلك النموذج. لكنهم في الآن نفسه كانوا يتابعون عن كثب ما يجري في تونس، ويجمعون ملاحظاتهم حول هذه التجربة. لقد تعاملوا مع حكومة الترويكا بطريقة واقعية، إلى أن فاجأتهم حادثة الهجوم على السفارة الأمريكية.
ورد في تقرير أعدته مؤسسة "مشروع الديمقراطية في الشرق الأوسط" الأمريكية المعروفة باسم "Pommed" والخاص بالموازنة والاعتمادات التي خصصتها الحكومة الفيدرالية للسنة المالية 2014، أن "الإدارة الأمريكية قدمت دعما جيدا للنقلة السياسية في تونس، إلا أن العلاقة بين البلدين قد شهدت تدهورا بارزا إثر الهجوم على السفارة الأمريكية في تونس والقنصلية الأمريكية في بنغازي".
لقد كاد ذلك الهجوم أن ينسف رصيد الثقة بين الإدارة الأمريكية وحركة النهضة، لكن الاعتبارات الإستراتيجية تدخلت لتحافظ على الحد الأدنى من تلك العلاقة، وإن أصبحت برصيد أقل.
من هذه الاعتبارات تصاعد مخاطر الشبكات
الإرهابية على تونس كبلد هش، ويحتل موقعا حساسا جعله مفتوحا على ليبيا التي تفتقر لدولة حقيقية، وكذلك على الجار الغربي الجزائر التي لا تزال تعاني من مخلفات الحرب الأهلية التي اندلعت منذ مطلع التسعينات. بناء عليه، أصبحت الأولوية لدى واشنطن العمل على قطع الطريق أمام احتمال أن تتحول تونس إلى دولة فاشلة، لأنها بذلك تصبح بيئة صالحة لتفريخ الإرهاب وشبكات الجريمة المنظمة، مما سيعرض حوض المتوسط لمخاطر من شأنها أن تسهم في تهديد الأمن القومي لكثير من حلفاء الولايات المتحدة.
من هذا المنطلق أعلن جون كيري عن قرب انطلاق الحوار الاستراتيجي، وهو حوار سيكون أمنيا بامتياز، وإن كان البعد الاقتصادي حاضرا بقوة. فالإعلان عن منح تونس قرضا بـ30 مليون دولار سيكون موجها لسياسات التمويل الجديدة في مجالات الأمن والنمو الاقتصادي ليس سوى آلية من آليات هذه الإستراتيجية المقصودة. أما الهدف فهو واضح لا لبس فيه، وقد لخصه كيري في جملة واحدة "اهتمام واشنطن بالمنطقة العربية والمغاربية هو بغاية القضاء على الشق الإسلامي الراديكالي المتطرف لا المسلمين المعتدلين".