على مدى ثلاثة أيام، ناشدت الدولة
المصرية الناخبين، وطالبتهم، وهددتهم، وسعت لإقناعهم ثم رشتهم سعياً لحملهم على التوجه إلى صناديق الاقتراع. لقد أنذر المصريون بأن المشاركة في التصويت لا تقل عن أي واجب وطني، وهددوا بأن من يتخلف عنهم عن التصويت قد يغرم 500 جنيه، وقيل لهم بأن مصر قد تصبح سوريا أخرى أو ليبيا أخرى إذا لم يصوتوا. وأعلن اليوم الثاني من الاقتراع عطلة رسمية، وأعلن عن مجانية التنقل والسفر داخل البلاد تشجيعاً للناخبين ليعودوا إلى دوائرهم الانتخابية. وشهد ذلك اليوم ارتباكاً بين مقدمي البرامج التلفزيونية تحولت سريعاً إلى حالة من الهستيريا، وانتهى اليوم بالإعلان عن
تمديد الاقتراع ليوم ثالث.
ومع ذلك، لم يحضر الناس، ووجد فريق صحفي تابع لوكالة الأنباء الفرنسية قاعات مقرات الانتخاب التي تجول بها خالية تماماً، ونقل فريق تابع لقناة السي إن إن نفس الانطباع، وعرض نشطاء صوراً على تويتر تظهر مسؤولين في قاعات الانتخاب وقد غطوا في سبات عميق وهم جلوس إلى مكاتبهم.
في مقابلة أجراها معه برنامج "صباح الخير يا مصر" على الهواء مباشرة، اعترض نجيب جبرائيل، وهو محام متخصص في حقوق الإنسان ويترأس الاتحاد المصري لحقوق الإنسان، على مراسلي التلفزيون الذين قالوا بأن جماهير غفيرة تدفقت على مقرات الانتخاب لتدلي بأصواتها، وقال: "شاهدنا مقاطع مراسليكم في الجيزة وكفر الشيخ والسويس ولم نر (خلفهم) سوى امرأة واحدة منقبة تقترع في المقرات الثلاث. وقال جبرائيل إنه "لم يعد ممكناً الاستمرار في الضحك على الشعب المصري".
في نهاية اليوم الثاني، قال رئيس الوزراء الانتقالي إبراهيم محلب إن نسبة المشاركة تجاوزت 30 بالمائة وبأنها ارتفعت إلى 46 بالمائة بنهاية اليوم الثالث، الأمر الذي جعل الكثيرين يتساءلون كيف أمكن تحقيق هذا الارتفاع في نسبة المشاركة خلال يوم واحد. قال حمدين صباحي، المنافس الوحيد في هذا السباق، إن الأرقام المزعومة لنسبة المشاركة إهانة لذكاء الشعب المصري.
رغم أنه أمكن إيجاد بعض من مستطلعي الرأي الذين زعموا بأن هذه الأرقام ذات مصداقية، إلا أن معظم المنظمات التي رصدت العملية لم تر ذلك على الإطلاق، وتراوحت تقديراتهم لنسبة المشاركة الحقيقية ما بين 10 بالمائة، أي ما يقدر بخمسة ملايين ونصف المليون منتخب، و 15 بالمائة. وقدر المرصد العربي للحقوق والحريات نسبة المشاركة بـ 92ر11 بالمائة، أي ما تعداده 989ر425ر6 منتخب، وتحدث المرصد في تقرير له عن وقوع العديد من الانتهاكات وعمليات الغش والتزوير. أما مراقبو الاتحاد الأوروبي فلم يعلقوا على صدقية نسب المشاركة التي ادعاها القضاء الموالي للسلطة في مصر.
أياً كانت الأرقام التي تعتقد صحتها، فإن شيئاً واحداً برز صارخاً وواضحاً من مثل هذه النتيجة، وهو أن الفقاعة انفجرت. ففكرة أن "أغلبية عظمى" من المصريين هي التي أطاحت بالرئيس محمد مرسي يوم 30 يونيو وأن عبد الفتاح
السيسي إنما تدخل نزولاً عند الرغبة الشعبية التي طالبته باستلام زمام الأمور يوم 3 يوليو لم تعد تمت إلى الحقيقة بصلة. وحتى لو افترضنا وجود الأعداد التي زعم خروجها عام 2013، فإن تلك الملايين من المصريين لم تعد موجودة اليوم، وانكمشت الآن "الأغلبية العظمى" التي تدعم السيسي إلى "أقلية صوتية". وأبرز ما في المشهد ذلك الغياب شبه التام لشريحة الشباب المصري في صفوف هذه القطعان وفي الصور التي تعرضها القنوات التلفزيونية لأنصار السيسي. مع العلم أن الشباب يشكلون ما لا يقل عن ربع عدد السكان ونصفهم يعاني من الفقر.
قبل أيام قلائل من الانتخابات، نشرت منظمة "بيو" الأمريكية المتخصصة في استطلاع الرأي نتائج استطلاع قامت به تفيد بأن 54 بالمائة من المصريين فقط قالوا بأنهم أيدوا استيلاء العسكر على السلطة. ورغم تراجع شعبية الإخوان المسلمين إلا أن 38 بالمائة من المصريين مازال لديهم انطباع حسن عن الجماعة، والتي باتت الآن مصنفة على قائمة المنظمات الإرهابية، ويعني ذلك أنه رغم كل ما وقع للإخوان خلال هذا العام من اعتقالات جماعية، وأحكام إعدام جماعية، ظل الدعم الشعبي لهم ثابتاً. ومن نتائج استطلاع "بيو"، وأن عدم الرضى في مصر عاد إلى المستويات التي كان عليها قبل اندلاع الثورة المصرية.
النقطة المركزية التي تعتمد عليها شرعية السيسي، أي أسطورة الزعيم القومي الذي انتفض كما لو كان أبا الهول من بين أنقاض رئاسة مرسي استجابة لمطلب شعبي، تنهار اليوم تحت قدميه. وفعلاً، لو أن أقل من 20 بالمائة ممن يحق لهم الاقتراع أدلوا بأصواتهم فإن هذا يعني أن مصر عادت إلى ما كانت عليه قبل عام 2010، حينما كان الحزب الوطني الديمقراطي التابع لحسني مبارك يعلن انتصاره بغض النظر عن ضآلة عدد المشاركين في الانتخابات. في ذلك الوقت كانت مجلة الإيكونوميست تنقل عن جماعات الحقوق المدنية تقديراتها بأن ما بين 10 إلى 20 بالمائة فقط ممن بلغوا السن القانوني الذي يؤهلهم للانتخاب قد أدلوا بأصواتهم.
مثل تلك الانتخابات هي التي مهدت الطريق أمام ثورة الخامس والعشرين من يناير بعد ثلاثة أشهر فقط، ولا يمكن القول بأن السيسي يقف اليوم على أرض أشد صلابة من تلك التي كان يقف عليها حسني مبارك.يومذاك.
فعلا، فالسيسي اليوم أكثر انكشافاً من أي وقت مضى منذ الثالث من يوليو، وخاصة بعد أن تخلص من عدد من الزعماء الليبراليين والعلمانيين الذين أعانوه على الوصول إلى السلطة. لقد حرق التمويه المدني الذي كان في أمس الحاجة إليه. أين محمد البرادعي اليوم؟ وماذا جرى لجبهة الإنقاذ الوطني، والتي لم تعد بالكاد تذكر؟ وعمرو موسى شخص يقبع في الغرف الخلفية، وماذا عن تمرد؟ وخاصة بعد أن اعترف أحد مؤسسيها، محب دوس، على الملأ بأنهم وقع استخدامهم من قبل الأجهزة الأمنية المصرية، إذ قال: "كيف تحولنا من شيء صغير، مجرد خمسة أشخاص يسعون لتغيير مصر، إلي حركة أخرجت الملايين إلى الشارع للتخلص من الإخوان المسلمين؟ الإجابة هي أننا لم نفعل ذلك. بت أفهم الآن أننا لسنا نحن الذين قمنا بذلك، وإنما وقع استخدامنا واجهة لشيء أكبر منا بكثير". وقال محب دوس، الذي لم تعد له علاقة اليوم بحركة تمرد أو حتى بالحياة السياسية في مصر: "لقد كنا في غاية السذاجة، ولم نتصرف بمسؤولية".
عد إلى يوم الثلاثين من يونيو، وإلى كل تلك المنظمات المفترضة التي قدمت للناس على أنها قوى مهمة ضمن تجمع جديد مناهض للإسلاميين. لقد ثبت بأنها لم تكن أكثر من أدوات في حملة جرى الإعداد لها بعناية فائقة لتمويه الثورة المضادة في زي ما أريد له أن يبدو امتداداً للثورة الأولى التي انطلقت في الخامس والعشرين من يناير. في الثلاثين من يونيو أثبت السياسيون العلمانيون والليبراليون في مصر أنهم بلهاء مفيدون في مرحلة تنطبق عليها تماماً مواصفات الحقبة الستالينية. ولكن الناخبين المصريين أثبتوا هذا الأسبوع أنه لا يمكن الضحك عليهم بذات السهولة.
• محرر موقع "ميديل إيست آي"
• المقال منشور في موقع "هافينغتون بوست"- ترجمة خاصة لـ"عربي21"