كتب بسام بدارين: أعجبتني تلك المقاربة التي رسم ملامحها سياسي مخضرم في الأردن من وزن عبد الرؤوف الروابدة عندما جمع في خطاب له بمخيم البقعة «
الملوخية والمنسف وقلاية البندورة» في قائمة واحدة لا تعني أكثر من مجرد أطباق طعام شعبية بدون دلالات سياسية او إجتماعية يمكن أن يحبها المرء أو يرفضها .
وجهة نظر الروابدة ضمنيا أن طبق
المنسف لا يمكنه أن يكون تعبيرا عن الوطنية الأردنية والملوخية لا يمكنها أن تكون تمثيلا عن الوطنية
الفلسطينية وكذلك
قلاية البندورة ومن المعيب ان يحول «بعضنا» هذه الأطباق سواء اكانت شهية أو بائسة إلى رموز للتعبير السياسي.
الروابدة تحدث أيضاعن اللونين الأزرق والأحمر في الكوفيات مؤكدا بالفم المفعم بالحقائق حيث لا يوجد تاريخ للأردنيين والفلسطينيين «إلا معا» والفترة الوحيدة التي لم يكونوا فيها كذلك تمثل أيام الإنتداب البريطاني فقط والأهم لا يوجد عمليا «تاريخ» للمنطقة لم يكن فيه الفلسطينيون والأردنيون معا و»شعب واحد».
أتفق مع الرجل فالبائسون فقط هم الذين يبحثون عن تعبيرات ساذجة عبر أطباق طعام أو ألوان كوفيات لكن غياب منهجية المواطنة وعدم وجود غطاء قانوني للحقوق والواجبات وولادة عشرات «الأخطاء» يوميا ..كلها عناصر تعني بأن الإنسان البسيط يمكن أن يستغل لصالح الهوية الفرعية.
تعمقت قليلا بالحديث مع الروابدة وحاولت تذكيره بعبارة كثيرا ما إستغربتها قالها لي هو شخصيا قبل نحو أربع سنوات وتتعلق بعدم جواز «التحدث عن الأخطاء» حتى عندما تكون موجوده.
وجهة نظر الرجل أنه يتقصد تلك الأخطاء التي ينتهي الحديث العلني عنها بأخطاء أكبر منها بينما يمكن معالجتها بصمت وخلف الستارة وبأقل قدر من الضجيج…بصراحة يعجبني هذا الشرح وينطوي على قدر من الحكمة والخبرة الأبوية.
وإن كنت لا زلت أعتقد بأن الشخصية الأردنية الحديثة- وأتحدث هنا عن الشباب – بصورة عامة «محصنة» وعابرة للهوية الفرعية وتملك من العلم والمعرفة والخبرات الحديثة ما يؤهلها لتجاوز كل دلالات الملوخية والمنسف وقوائم الطعام بشرط واحد أن يتحسن مستوى التعليم المنهار في المملكة ونعود مجددا لقواعد الحكم الرشيد وتتوقف النخبة السياسية عن «العبث» بأسس الوحدة الوطنية.
أفترض ان الآباء يفكرون عموما بهذه الطريقة لكن الأبناء ليسوا ملزمين إلا بقواعد الشفافية في الكشف الفاضح عن تلك «الأخطاء» خصوصا وان المستقبل قد لا ينتظر نتائج الزحف البطيء نحو الحقيقة وإن كان التروي مطلبا ملحا في الكثير من المفاصل.
بالنسبة لي طبق المنسف الحالي الذي يلتهمه الأردنيون- وانا اولهم- بكفاءة وكثافة وفي كل المناسبات وأحيانا بدونها يختلف تماما من حيث المكونات والشكل وطبيعة الطهي مع المنسف البلدي البدوي الحقيقي.
والملوخية لم تعد تلك الملوخية التي نعرفها فقد طالت عيدانها وأصفرت أوراقها ولم تعد تلك الحشائش الخضراء الشهية التي تنبت وحيدة في الأردن بسبب الهرمونات الزراعية وكذلك بسبب حيتان تجارة اللحوم الذين يستحكمون بالأسعار ويجبرون الأردنيين على التمتع بـ «طعم موحد» للحوم المصنعة.
الملوخية تباع اليوم «مقطعة» في المحلات الشهيرة بعمان الغربية ولن نستغرب إذا ما بيعت قريبا «مطهية» جاهزة كماحصل مع قلاية البندورة التي دخلت فيها مكونات إضافية ومحسنات تخرجها من مذاقها الأصلي.
بكل الأحوال لا يمكن لهذه الأطباق أن تكون تعبيرا سياسيا عن أي شيء إلا عند البسطاء السذج وأن كان صديقنا الروابدة يشخص الجدل المثار بين الحين والآخر بالإشارة إلى أن البلد- أي بلد- لا يمكنه أن يستوعب «هويتين وطنتين» في آن واحد مصرا على وجوب وجود هوية وطنية واحدة في الأردن بإسم الهوية الوطنية الأردنية التي تشمل «كل الأردنيين» في القرية والمخيم ومن مختلف الأصول والمنابت على أن الهوية الفلسطينية في الأردن وفي أي مكان هي «هوية نضالية» تمايز الفلسطيني اولا عن غيره.
طبعا لا يمكن إلا التصفيق لمثل هذا الطرح من حيث المبدأ لكن لا بد في السياق من طرح سؤالين أساسيين: هل نتوافق جميعا على تحويل هذا المنطق إلى «قانون» ومخزن تشريعي يحقق المضمون عبر نظام متكامل من المساواة والإنصاف ؟..وهل نتفق على أن من يسبحون بعكس هذا التيار هم فقط نخب من مختلف الفروع يستثمرون في إنقسامات المجتمع وبينهم احيانا أصحاب قرار لأن ألوان الكوفيات إختلطت بين الناس ولأن الملوخية تقدم اليوم على مائدة الأردنيين إلى جانب شقيقها الكبير «المنسف»؟.
..الفارق يبدو إشكاليا تماما ما بين «كلفة» التحدث عن أخطاء الدولة والإدارة الأردنية كمتطلب أساسي للإصلاح الوطني وبين متطلبات الإصلاح البطيء التي تمنع الإسترسال في الحديث عن الأخطاء.
مهم جدا الإعتراف بوجود «أخطاء» .. تلك بداية وطنية مثمرة لأي نقاش موضوعي لكن الأهم التوافق على آلية معالجة المشكلات بالتوازي مع إحترام التفكير الشاب الذي يرفض اليوم الغرق في حساباتنا نحن الآباء ولديه طريقة متباينة في الحساب.
لدي مثال على ذلك: يغادر إبني وعمره 17 عاما – بالمناسبة يغوص في المنسف ويثمل مع الملوخية – إلى عاصمة بلد شقيق ضمن نشاط غالبية المشاركين فيه من شباب الضفة الغربية وفلسطين وعندما يتعرض بعض الشبان الصغار لعبارات «نقدية» بحق الدولة والرموز الأردنية يتدخل إبني ويعترض ويناقش ويرفض السماح بأي إساءة للقيادة الأردنية ..بمعنى آخر يتصرف الولد تلقائيا كأردني لأنه يشعر بهويته الوطنية الأردنية رغم ان والده ألقيت عليه مئات الإتهامات المعلبة بعنوان «الفلسطنة».
بالتأكيد تسرب هذا الشعور من جهة ما خارج نطاق تأثير المنزل وإنحيازات العائلة ولو ترك القرار التنفيذي شباب الجامعات مثلا يتفاعلون مع انفسهم تلقائيا لما شاهدنا بالتأكيد تلك المظاهر التي تعلي من شأن الهوية الفرعية والعشائرية داخل صروح العلم. بالقياس وقف شاب من مخيم الوحدات امام رئيس الوزراء الأسبق معروف البخيت مرة وهو يقول : نحن نريدكم … وعليكم في الدولة الأردنية أن تقرروا ..هل تريدوننا؟.
مشرف جدا لأي إنسان أن يكون فلسطيني الفؤاد والهوى والأصل والنضال وخبرتي شخصيا تقول بأني لم أقابل بعد أردنيا واحدا من أبناء شرق الأردن لا يعتبر «فلسطين» قضيته المركزية ولا يتمتع بتلك المزايا الصادقة للهوية الوطنية النضالية ..يبقى السؤال على ماذا نختلف بالتالي؟
هنا حصريا تكمن قصة التجاذب المنتج خصيصا لإلهاء الشعب الأردني برمته مرة بمباريات كرة القدم بين الفيصلي والوحدات ومرة بالفارق بين الملوخية والمنسف.
بصراحة لا أرى في دائرة الإتهام بإنتاج هذه المساحة من الإلهاء مصلحة إلا لطرفين : إسرائيل في المقام الأول ومشروعها وبعض الموتورين من كل الأطراف في الإدارة ولعبة السياسة الأردنية من الطبقة التي تستثمر بالخلاف ولا تتغذى إلا على الفرقة والإنقسام.
شكرا للروابدة فعلا لأنه ذكر الجميع بأن المنسف والملوخية ليسا أكثر من أطباق طعام يمكن أن يتجاوزها في اللذة «ساندويتش» فلافل وشكرا للحوار المعمق الذي حصل بعجالة وسنعود إليه بالتأكيد.
(القدس العربي)