"
العلمانية"، وافد غربي، استلهمها نفر من دعاة
الإصلاح في بلادنا، عندما ظنوا أن الإسلام هو ما قدمته لهم المؤسسات التراثية التقليدية التي عاشت وماتت في إطار التصورات الفكرية لعصر المماليك والعثمانيين!
لقد حسبوا أن الجمود والتفكيير الذي صبغ هذه المؤسسات هو حقيقته الإسلام، فالتمسوا البديل الإصلاحي عند الغربيين!
وهذه "العلمانية" – كما تبلورت في الحضارة الغربية – تضع "العلم"مقابلا ونقيضا "للدين"، وذلك لنشأتها في بيئة حضارية شهدت صراعا شهيرا ومريرا بين الدين – كما قدمه اللاهوت الكنسي والكاثوليكي في أوربا – وبين العلم، الذي تأسست على قواعده النهضة الأوربية الحديثة.
وبصرف النظر عن الموقف الجوهري للديانة المسيحية من "العلم"، والصراع بينهما هو خاصية "كاثوليكية – أوربية" ولا وجه للشبه بين المقدمات والملابسات التي أثمرت هذا العداء وهذا الصراع، وبين واقع الإسلام وموقفه ورأي أغلب تيارات الفكر الإسلامي ومذاهبه في هذا الموضوع.
فالإسلام لا يمد "نطاق علوم الوحي والشرع" إلى كل الميادين الحياتية المعرفية، ومن ثم فهو لا يفرض "الدين"و"الغيب" على كل مجالات "الحياة الدنيوية" التي ترك الفصل فيها والتفسير لها لعلوم "العقل والتجربة الإنسانية" ومن ثم فلقد تآخى فيه "العلم" و"الدين"، و"العقل" و"النقل" و"الحكمة" و"الشريعة" و"الدنيا" و"الآخرة"، عن طريق تحديد الميادين لكل نمط فكري، وإقامة التوازن بين عُد في الحضارة "الكاثوليكية – الأوربية" متناقضات لا سبيل للجمع بينهما، فضلا عن التوفيق، وعن طريق استخدامها جميعا – في نظرة تكاملية – لتهذيب الإنسان وتطوير حياته، باعتبار هذا التهذيب وذلك التطوير غير ممكنين دوت الاستعانة "بالأقطاب" المتعددة في ظواهر الفكر والحياة، وليس بقطب واحد من الظاهرة الواحدة.
كما أن مقام "العقل" الذي هو أداة "العلم" – في الإسلام مقام لا تخطئه البصيرة، بل ولا البصر، فمعجزة الإسلام – القرآن الكريم – تتوجه إلى العقل، وهو الحاكم بين ظواهر النصوص الدينية وبين البراهين العقلية إذا ما لاح التعارض بينهما، ولقد أدى ذلك إلى تأسيس الحضارة العربية الإسلامية – وهي عقلانية في لبها وجوهرها – على "الدين" الإسلامي، وليس على استبعاده، كما كان الحال في الحضارة الأوربية الحديثة، الأمر الذي جعل "الفكر الديني" للإسلام، و"البناء الحضاري" الذي أنجزه المسلمون دليلا على انتفاء التعارض والتناقض بين "العلم" وبين "الدين" في محيط الإسلام، بل لقد كان "الدين الإسلامي" و"النقل الإسلامي" الحافز على استخدام العلم في كشف أسرار الله في الكون، لزيادة الخشية لله، أي أن "العلم" قد تحول إلى "عبادة دينية" عند علماء الإسلام!.
ومن ثم فإننا لم ولن نواجه تلك الملابسات والخصوصيات "الأوربية – الكاثوليكية" التي أثمرت "العلمانية" لدى الغرب، والتي لم تجعل لدعاة التقدم هناك سبيلا غيرها للخروج بمجتمعاتهم من ظلمات عصورهم الوسطى، ومن هنا فإن "العلمانية" لم ولن تكون سبيلنا إلى التقدم، بل ولا حتى لمواجهة التخلف، الذي تحاول بعض قواه – عند الشيعة مثلا – تمثيل دور الكهانة الكنسية الكاثوليكية في عالم الإسلام!
وإنما السبيل إلى تقدمنا، وإلى مواجهة قوى التخلف، هو الوعي والفقه بحقيقة موقف الإسلام، ذلك الموقف الذي ينكر "العلمانية" وأيضا ينكر نقيضها.
وما الذين يختارون منا "العلمانية" أو الذين يسعون إلى إقامة "دولة دينية كهنوتية" – دولة ولاية الفقيه التي تؤله الأئمة – سالبين الأمة سلطانها وسلطاتها – ما هؤلاء إلا مقلدون- بوعي أو بغير وعي – للحضارة الأوربية الغازية، غافلين أو متغافلين عن أشياء جوهرية – هي بالنسبة للإنسان العربي والمسلم – منطلقات أساسية، ومن بينها – بل وفي مقدمتها – حقيقة الإسلام من "العلم" ومن "العقل" ومدى الحرية التي منحها للإنسان فيما يتعلق بعالم الشهادة والحياة الدنيا.