إذا كان هناك من عنوان واحد يمكن أن يختصر العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين في المنطقة العربية، فهو بلا شك: عقد الحروب الأهلية وانهيار
الدولة الوطنية.
فما تشهده المنطقة هو إما حروب أهلية ناجزة، وإما تحضيرات لحروب أهلية مسلحة، وإما حروب كامنة تنتظر صاعق التفجير أو اكتمال الظرف الموضوعي والتاريخي للانفجار بأسوأ صورة ممكنة للحروب الأهلية.
الثورة السورية تحولت بلا شك إلى هرب أهلية، وهذا الكلام قد لا يرضي الكثيرين من مؤيدي الثورة، ولكن الحقائق والوقائع تقول ذلك. أما العراق، فهو على بوابة حرب أهلية طاحنة، أشد سوءا ودموية من بوادر الحرب التي اشتد أوارها في العام 2006 وحصدت معها مئات الآلاف من العراقيين بأسلحة ومتفجرات أبناء وطنهم العراقيين.
في ليبيا، قد تتحول المغامرة التي يقودها قائد الانقلابات الفاشلة حفتر إلى حرب أهلية، حيث تمتلك هذه البلاد الشروط الواقعية التي تؤهلها لتكون ساحة لحرب طاحنة بين أبناء الوطن الواحد، من مغامرات سياسيين دمويين فاشلين، وارتباطات خارجية مشبوهة، وأموال عربية "حرام" تتوجه للتخريب بدلا من البناء والتنمية، وانهيار للدولة المركزية التي تستطيع بسط سيطرتها على البلاد واحتكار العنف فيها.
أما اليمن، فهي دولة فاشلة بامتياز؛ تنخرها الحروب الأهلية المتقطعة –وغير الشاملة- حتى قبل خلع الديكتاتور السابق علي عبد الله صالح، الذي استطاع أن يقدم أسوأ النماذج للوحدة بين الدولة العربية، وجعل مطلب الانفصال مطلبا شعبيا عند قطاعات مهمة من الشعب اليمني.
في مصر، تبدو الأوضاع الميدانية هادئة بالمقارنة مع الدول الأخرى الملتهبة، ولكن هذا الهدوء لا يعني "حصانة" البلاد من الحرب الأهلية، إذ أن الانقلاب وقبله الأداء السياسي البائس لجميع الأطراف هيأ الأرضية المناسبة للانقسام الأهلي الحاد. وقد ازداد الأمر سوءا منذ بدء التحضيرات للانقلاب العسكري، الذي "نجح" ضمن استراتيجيته للانقلاب على السلطة بزيادة الانقسام الشعبي، وعزل فئة يصل تعدادها إلى الملايين، وحلل دماءها، ونزع منها إنسانيتها، وبرر أي إجراء ضدها باعتبارها تندرج تحت "شعب" آخر، غير الشعب الذي يؤيد الانقلاب ويدافع عنه.
إن ما يجمع بين كل هذه النماذج من الحروب الأهلية العربية بغض النظر عن مستواها، هو أنها تعبير واضح عن فشل الدولة الوطنية التي تأسست بعد الاستقلال في بناء دولة مركزية تقنع جميع أبنائها بأنهم متساوون في الحقوق والمواطنة، مع ضرورة الإشارة إلى أن التباين في الحصول على حقوق المواطنة لم ينطلق في جميع الحالات من أسس عرقية أو مذهبية أو طائفية، بل كان أحيانا مبنيا على أسس مناطقية، وأحيانا أخرى على أسس عرقية أو طائفية، وفي الحالات الأكثر شيوعا كان الانقسام مبنيا على أساس الولاء للسلطة أو الحزب الحاكم أو الزعيم-الإله الذي يوزع عطاياه على الناس حسب ولاءاتهم، لا حسب انتمائهم للوطن.
في سوريا على سبيل المثال، حاولت قوى إقليمية ودولية الإطاحة ببشار الأسد والقضاء على نموذج سوريا "الممانعة" منذ سنوات طويلة، وتحديدا بعد اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري وتزعم المحافظين الجدد للحكم في أمريكا؛ ولكن هذه المحاولات فشلت دائما بسبب غياب الشرط الموضوعي لتحقيقها. ولكن هذه المهمة أصبحت سهلة جدا، عندما اكتشف الإنسان السوري نفسه، وأدرك أنه يمكن أن يصرخ للمطالبة بحقوقه كمواطن، بغض النظر عن انتمائه العرقي أو الديني، وهو الأمر الذي تعاملت معه السلطة بصورة كشفت عن فشلها الكبير في بناء دولة وطنية لجميع مواطنيها، ما أدى في نهاية الأمر إلى تحويل الثورة السلمية النقية إلى حرب أهلية طاحنة.
وفي ليبيا واليمن والعراق؛ يتكرر المشهد نفسه، وإن كان بتفاصيل مختلفة، ولكن صورته العامة فشل في بناء الدولة الوطنية، وبالتالي فشل السلطة الحاكمة في قيادة انتقال سلس للسلطة، ما دفع البلاد إلى انحدار متسارع نحو حروب أهلية بمستويات مختلفة.
وحتى مصر، التي تبدو فيها الصورة مختلفة في الظاهر، إلا أن عمق المشهد يؤسس لبناء انقسام شعبي، وليس انقساما سياسيا فحسب، تغذي فيه الدولة الفاشلة شعور طبقات مؤيدة للتيار الإسلامي، بأنها لا تنتمي لوطنها بسبب حملة الكراهية والقمع والاستبداد الموجهة ضدها؛ فيما يتكون بشكل أعمق انقسام على أساس اجتماعي، يشعر فيه أبناء الأرياف والصعيد وسيناء بأنهم مواطنون من الدرجة الثانية، وهو الشعور الذي سيقود حتما حسب نظرية عالم الاجتماع السياسي "مايكل هيتشتر" إلى النظر للدولة باعتبارها استعمارا داخليا، ما يستدعي بالضرورة محاولة مقاومة هذا الاستعمار بطرق "عنفية"، ليتحول الوضع إلى حالة من الحرب الأهلية.
ماذا يعني كل هذا؟
يعني أننا أمام ظروف مهيئة لدخول الشعوب العربية إلى مسار إجباري نحو حروب أهلية واسعة، ما لم تتحقق معجزة. وهو مسار، إن حدث، يثبت أن العرب لم يتعلموا من حكمة التاريخ، وأنهم يصرون على تكرار التجارب التاريخية لكل الأمم: تجربة الحروب الأهلية كمقدمة للتغييرات الكبرى!