كتاب عربي 21

حول تعثر الانتقال الديمقراطي في دول الربيع العربي

1300x600
انفتحت أبواب الحقيقة أمام الحلم العربي في الخروج من ربقة الاستبداد إلى فضاء الحريات ودولة القانون والرفاه الاقتصادي مع انطلاق ثورات الربيع العربي، وكانت السنة الأولى هي التعبير الصادق والبريئ عن هذا الحلم، ثم واجه السير نحو تحقيق الغاية الكبرى عقبات متعددة منها ما هو متعلق بقوى تشد للخلف، وأخرى تحاول - بنوايا صادقة - الدفع الإمام ولكنها تسهم في الشد للخلف لقلة وعيها ومحدودية خبرتها. 

وتراجع الأمل لدى الجموع التي تفاعلت بإيجابية مع الثورات، وانطلقت منابر تصفه بـ "الخراب العربي"، وهي منابر ليست بعيدة عن أصحاب المصلحة في استمرار النظام العربي القديم أو تلك التي تتخوف من أن تزحف ثقافة الثورات إلى حصونها فتهزها من الداخل.  

والحقيقة أن الربيع العربي مثل الانطلاقة والجولة الأولى في تحقيق الحلم، ستتبعها جولات تفضي إلى المنشود. وما كان للحلم أن يتحقق في أعوام قلائل لسبب بسيط وهو أن المجموع العام من شعوب الثورات لم تكن في مستوى التحدي وليست مؤهلة لتكون قاطرة العبور أو الداعم له وفق مقتضيات الانتقال والتي تقوم على فكرة مأسسة الحراك الواسع بشكل يأخذ من زخم الثورة ليضع أساس الدولة الحديثة والمشروع الاقتصادي والاجتماعي النهضوي. 

فلأن أبجديات الانتقال من الثورة إلى الدولة غير واضحة لدى الغالبية من الرأي العام، ولأن تداعيات الانتقال غير مدركة من قبل الشعوب بل كانت مشوشة لعقولهم، ولأن معادلة التفاعل بين وقود الثورة وسواعد الدولة والقادة السياسيون والاجتماعيون كانت مختلة، ظهر لقطاع كبير أن الثورات وبال وليست الخلاص من العقال. ولقد أسهمت عوامل عدة وتحديات تكاد تكون متماثلة في ثورات الربيع العربي في تعثر الانتقال نحو تحقيق الحلم، يمكن أن نجملها فيما يلي:

- إرث الحقبة الاستبدادية بفساده وببيروقراطيته وما رافقه من تشوه في الوعي العام، يضاف إليه التطلع إلى الرفاه والاستقرار دون استيعاب ضريبة التغيير التي تعني تأخرهما. وتتضح مشكلة الوعي في سرعة تغيير مواقف الرأي العام وإعادة تشكيله بواسطة محطات إعلامية ركيكة برامجها، وضيع خطابها، توظف الكذب المفضوح والقصص المفبركة لكنها تنجح نجاح باهر في إعادة تعبئة الرأي العام في اتجاه ضد مكتسبات الثورة وضد الانتقال الديمقراطي. وأكرر ليس فقط تغيير مواقف الرأي العام، بل استهداف إعادة تشكيله لدرجة القبول الطوعي بالحكم الجبري الذي كان السبب الرئيسي في الانتفاض والثورة.

- الجهل بمتطلبات مراحل الانتقال بعد ثورة أحدثت تغييرا جذريا أو شبه جذري، والجهل بتحدياتها أفقد أنصار الثورة القدرة على الاختيار الأمثل للمسار الانتقالي، والاخفاق في الأخذ بالشكل السياسي الأكثر ملائمة لوضع استثنائي.

- كان من أبرز الأثار السلبية هي تفجر الصراع الفكري والسياسي بين تيارين أساسيين على الساحة (ليبرالي – إسلامي) ما يزال محتدم ويعرقل كل مسعى للتطور على المسار الديمقراطي ويثبت فشل مساعي وجهود التوفيق والتقريب.

- يرتبط بنقطة الجهل بالإدارة المثلى للمرحلة الانتقالية قضية دور النخبة في دول الربيع العربي، فبرغم أن التغيير الجذري في ماهية القوة المتصدرة للتغيير بعد الربيع العربي وبروز ملحوظ للشباب في معادلة التغيير، إلا إنهم لا يغنون عن الدور النخبوي التوجيهي، ومسؤولية النخبة عن رسم مسار الانتقال وتصديهم للتحديات الفكرية التي تواجه المسار، ومن الملاحظ أن النخبة لعبت دورا سلبيا ساهم في تأزيم المشهد الفكري والسياسي وشارك في عرقلة التحول الديمقراطي.

- لقد حال الحكام العرب والأنظمة العربية بدرجة كبيرة في عرقلة التحول للديمقراطية من خلال منع شعوبهم من التمكن من أدوات الديمقراطية، ونشهد اليوم سابقة جديدة في عرقلة التحول الديمقراطي بتدخلات غير محدودة ولا مسبوقة لبعض الأنظمة العربية لإجهاض مكاسب الربيع العربي، وما كان لهذه الأنظمة أن تجد منفذا تخترق منه الثورات لولا حالة الاستقطاب والصراع الداخلي، ليس فقط بين قوى الثورة والمكونات المعارضة لها، بل بين شركاء الثورة أنفسهم.

- كان من بين أهم مظاهر الإعاقة هو تصدر التيار الإسلامي للحكم بشكل مباشر بالوصول لقمة السلطة التنفيذية أو المشاركة في هياكل السلطة الجديدة، دون أن يكون مستعدا لهذه المرحلة، فقد ثبت أن الحركة الإسلامية لم تتهيأ لمرحلة إدارة الدولة بكافة تعقيداتها، وعجزت عن التكهن بما يمكن أن تفعله القوى المعرقلة لعجلة الإدارة والاقتصادي والأمن، فكانت النتائج مبررة لخروج التيار الإسلامي أو إخراجه من الحكم.

- غياب الحاضنة أو السند الدولي الذي يدعم خيارات الانتقال الديمقراطي دون أن يفرض رؤية أو يصبح طرفا في الصراع، ورأينا كيف ساهم الاتحاد الأوروبي في الانتقال الديمقراطي السلس نسبيا للعديد من دول أوروبا الشرقية بعد انتفاضاتها على الحكم التسلطي، فالدعم الدولي جوهري لضمان الانتقال، لكنه ينبغي أن يكون مبرمج وفق تصور وطني متفق عليه، وهنا يكمن الإشكال ويتجلى التحدي.